من المفارقات اللافتة للانتباه في تطوّر المشروع الصهيوني، والذي نجح في تأسيس دولته المستقلة عام 1948، أنه استطاع أن يتمدّد وأن يراكم عناصر قوته المادّية والمعنوية في الفترة التي كان فيها الصدام العسكري مع الدول العربية يتم بين جيوش نظامية. ولكن ما إن دخلت فصائل المقاومة الشعبية المسلحة على خط المواجهة، وتراجع دور الجيوش العربية النظامية، حتى بدأت معالم التراجع والأفول تظهر على هذا المشروع. ففي حرب 1948، والتي خاضتها إسرائيل ضد جيوش عدة دول عربية، تمكّنت إسرائيل ليس من هزيمة هذه الجيوش فحسب، ولكن أيضا من احتلال أراض فلسطينية جديدة تزيد مساحتها بمقدار 50% تقريبا عن المساحة التي خصّصت لها في مشروع التقسيم الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947. وفي حرب 1956، تمكّنت إسرائيل من احتلال سيناء عسكريا، لكنها اضطرّت للانسحاب منها، لأسبابٍ تتعلق بالإدارة السياسية للأزمة، لكنها خرجت منها بمكسب واحد على الأقل، وهو السماح لسفنها بالمرور في خليج العقبة بعد قبول مصر بوجود قوات طوارئ دولية تابعة للأمم المتحدة في شرم الشيخ. وفي حرب 1967، تمكّنت إسرائيل من احتلال سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية وكل ما تبقى من فلسطين التاريخية. أما حرب 1973، والتي حقّقت مصر وسورية في بداياتها انتصارا عسكريا واضحا، فقد انتهت بوضع عسكري ملتبس مكّن وزير الخارجية الأميركية وقتها، هنري كيسنجر، من استغلاله لبدء عملية سياسية انتهت بخروج مصر من المعادلة العسكرية للصراع عقب توقيعها عام 1979 على معاهدة سلام منفرّدة مع إسرائيل. ولأنها كانت آخر الحروب التي تخوضها جيوش عربية نظامية في مواجهة إسرائيل، كان من الطبيعي أن يأخذ الصراع العربي الإسرائيلي بعدها، في غياب تسوية شاملة ومقبولة من جميع الأطراف، مسارا مختلفا اتسم بالمواجهة مع فصائل المقاومة المسلحة، خصوصا اللبنانية والفلسطينية.
لم تكد تمر أشهر قليلة على اغتيال الرئيس أنور السادات عام 1981، حتى قرّرت إسرائيل توجيه ضربة عسكرية كبيرة للبنان في يونيو/ حزيران 1982، وصلت إلى حد اقتحام العاصمة بيروت ومحاصرتها، أملا في تحقيق عدة أهداف متزامنة: استئصال المقاومة الفلسطينية واللبنانية من جنوب لبنان وفرض معاهدة سلام بالشروط الإسرائيلية على الحكومة اللبنانية، واختبار رد فعل النظام الجديد في مصر واستجلاء حقيقة موقفه من معاهدة السلام. وبينما نجحت إسرائيل في تحقيق بعض هذه الأهداف فعلا، إلا أنها فشلت في تحقيق بعضها الآخر؛ فقد نجحت في إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وفي حمل أمين الجميل على التوقيع على اتفاق معها في 17 مايو/ أيار 1983. واطمأنت إلى أن النظام الجديد في مصر سوف يسير على النهج الذي اختاره السادات، لكنها لم تستطع الحيلولة دون اغتيال الرئيس بشير الجميل، ثم سقوط تلك الاتفاقية مع لبنان، وكلها عوامل هيأت المناخ لولادة (ونمو) مقاومة لبنانية جديدة أكثر صلابة وأقوى تنظيما، نجحت في إجبار القوات الأميركية والفرنسية التي جاءت إلى لبنان لتكريس المكاسب الإسرائيلية على الرحيل فورا، ثم عبّدت الطريق أمام ظهور حزب الله الذي تولى بنفسه قيادة المقاومة اللبنانية التي حملت على عاتقها مهمّة تحرير الجنوب اللبناني، وتخليصه من القوات الإسرائيلية المحتلة. وفي سياقٍ كهذا، يمكن القول من دون مبالغة إن الصراع العربي الإسرائيلي بدأ يأخذ، منذ ذلك الوقت، مسارا جديدا، اتسم بانسحاب الدول والجيوش النظامية من حلبة الصراع العسكري، بما في ذلك منظمة التحرير الفلسطينية التي وقّعت بعد ذلك بسنوات على اتفاق أوسلو، وتولي منظمات المقاومة وفصائلها وأحزابها هذه المهمة، نيابة عنها أو بالرغم منها، ومن ثم أصبحت كل من الأراضي اللبنانية والفلسطينية الساحات الوحيدة التي يدور عليها صراع مسلح مع إسرائيل.
بعد عملية طوفان الأقصى، وردّها الجنوني عليها، تبدو إسرائيل دولة هشّة، غير قادرة على الدفاع عن نفسها إلا بالاعتماد على الولايات المتحدة
كان في وسع إسرائيل أن تضع حدّا نهائيا لهذا الصراع، لو أنها كانت قد قبلت مبدأ “الأرض مقابل السلام”، ووافقت، بالتالي، على الانسحاب من كل الأراضي العربية المحتلة عام 1967، وعلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، وعلى حل مشكلة اللاجئين وفقا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 149. ولأنها لم تكن في أي يوم راغبة في تسوية الصراع العربي الإسرائيلي وفق هذه الأسس، لم يكن أمامها من خيار آخر سوى العمل على تصفية كل المنظمات والفصائل والأحزاب التي ترفع شعار المقاومة المسلحة، أيا كان توجهها السياسي أو الفكري، وهو ما فشلت فيه فشلا ذريعا، فعلى الساحة اللبنانية، ظل حزب الله يخوض حرب عصابات ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي، منذ تأسيسه إلى أن تمكن من تحرير الجنوب من دون قيد أو شرط عام 2000. ولأنه ظل محتفظا بسلاحه، لأن أراضي يعتبرها لبنانية، مثل مزارع شبعا كانت ما تزال محتلة، فقد حاولت إسرائيل تصفيته نهائيا، بشن حرب عليه وعلى لبنان كله عام 2006، لكنها فشلت في تحقيق هذا الهدف، بل أصبح حزب الله أقوى مما كان عليه عام 2006، وفي وضع يسمح له بتحدّي إسرائيل وفرض معادلات ردعية عليها. وعلى الساحة الفلسطينية، حدث شيء مماثل تقريبا، وإن اختلف في بعض التفاصيل، فرغم توقيع منظمة التحرير على اتفاقية أوسلو عام 1993، إلا أن فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة رفضتها، وقرّرت مواصلة النضال ضدها إلى أن تعترف بحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. وتحت وقع ضرباتها، اضطرّت إسرائيل للانسحاب من قطاع غزّة عام 2005.
وحين فازت حركة حماس في الانتخابات البرلمانية التي جرت عام 2006، وتصاعد الخلاف بينها وبين السلطة الفلسطينية إلى أن وصل إلى حد الاقتتال الذي انتهى بسيطرتها المنفردة على القطاع، لم تكتف إسرائيل بفرض حصار شامل على القطاع، وإنما شنّت عليها (وعلى حركة الجهاد الإسلامي) سلسلة من الحروب منذ عام 2008 حتى عام 2021، لكنها فشلت جميعها في استئصالها أو حتى في إضعافها، بل على العكس، زادت هذه الحروب من قدرة “حماس” كثيرا إلى الحد الذي مكّنها من شنّ عملية طوفان الأقصى، والتي تعد نقطة تحول كبرى في مسار الصراع العربي الإسرائيلي، فلأول مرة في تاريخ هذا الصراع يتمكّن فصيل فلسطيني مسلح من أخذ زمام المبادأة ويشن هجوما مفاجئا على معسكرات ومستوطنات داخل عمق الأراضي المحتلة عام 48، ويكبد إسرائيل كمّا هائلا وغير مسبوق من الخسائر البشرية. وحين ردّت إسرائيل بهجوم كاسح مضاد، فشلت في إلحاق أي أذى بالبنية العسكرية لأيّ من فصائل المقاومة المسلحة في غزة، والتي تشارك معا في صد الهجوم، رغم مرور أكثر من 40 يوما.
أخلص مما تقدم إلى نتائج يمكن إيجازهاها: أولا: ثبت أن المقاومة باستخدام أسلوب حرب العصابات أكثر فعالية في مواجهة إسرائيل، مقارنة باسلوب الحروب التقليدية التي تتصادم فيها جيوش نظامية، حيث كان بمقدور إسرائيل في جميع الحروب التقليدية حشد جيشٍ أكثر عددا وأفضل عتادا واستعدادا من مجموع الجيوش التي كان بمقدور الدول العربية أن تحشدها في مواجهتها. وبينما استطاعت إسرائيل أن تتمدّد وأن تتوسّع، وأن تحقق مزيدا من المكاسب في أعقاب كل مواجهة تقليدية خاضتها، إلا أنها عجزت عن تحقيق مكاسب تُذكر في أي من المواجهات والحروب غير التقليدية التي خاضتها.
ثبت أن المقاومة، باستخدامها أسلوب حرب العصابات، أكثر فعالية في مواجهة إسرائيل مقارنة بأسلوب الحروب التقليدية
ثانيا: يلاحظ أن الإنجازات التي تتمكّن إسرائيل من تحقيقها عبر الحروب التقليدية التي تخوضها تغري المجتمع الإسرائيلي بتبنّي مواقف أكثر تشدّدا، وتدفعه تدريجيا نحو الارتماء في أحضان اليمين المتطرّف والعنصري، بينما يؤدي عجز إسرائيل عن التصدّي لفصائل المقاومة والفشل في تصفيتها إلى إثارة مزيد من التناقضات داخل المجتمع الإسرائيلي، ومن ثم إلى التآكل التدريجي لمناعته وتحجيم مشاعر التفوّق والعلو لديه.
ثالثا: تختلف عملية طوفان الأقصى كليا عن كل ما سبقها من عمليات، ليس لأنها كبّدت العدو الإسرائيلي خسائر غير مسبوقة في تاريخه فحسب، ولكن أيضا لأن الجنون الذي اتسم به رد الفعل الإسرائيلي على هذه العملية، والذي تسبّب في قتل وجرح ما يقرب من خمسين ألف شخص، ومحاولة تجويع وإبادة ما يقرب من مليوني شخص، وتدمير المدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس، ساعد على تعرية المشروع الصهيوني، وكشف عن حقيقته العدوانية والعنصرية في الوقت نفسه، ففي السنوات التي أعقبت قيامها، نجحت إسرائيل في تقديم نفسها للعالم دولة صغيرة مسالمة يحيط بها الأعداء من كل جانب، وواحة للديمقراطية والتقدّم وسط محيط من الاستبداد والتخلف. وحتى في الحالات التي تمكّنت فيها إسرائيل من إلحاق هزيمة ساحقة بالدول العربية، نجحت في تسويق نفسها دولة عصامية استطاعت أن تسحق أعداءها المتربصين بها، ولديها كثير مما يمكن أن تقدّمه للعالم المتحضّر…
اليوم وبعد عملية طوفان الأقصى، وردّها الجنوني عليها، تبدو إسرائيل دولة هشّة، غير قادرة على الدفاع عن نفسها إلا بالاعتماد على الولايات المتحدة. والأهم أن العالم كله أصبح على يقين من أنها دولة لا تحترم القانون الدولي أو القانون الإنساني، ومستعدة لانتهاك أقدس القيم الإنسانية لإشباع غرائزها العدوانية والعنصرية. … لذا لا يخالجني أي شك في أن العد التنازلي لانهيار الحلم الصهيوني ربما يكون قد بدأ بالفعل.