لأول مرة منذ مغادرته منصبه صيف 2021، ينشط وزيرُ الخارجية الإيراني السابق، محمد جواد ظريف، إعلامياً، عبر تصريحات مكثفة عن الحرب، جديدها أخيراً قولُه إن “منتهى آمال إسرائيل” أن تخوض إيران وحزب الله حرباً معها.
كما هو متوقّع، شنّت صحف المحافظين هجوماً على ظريف، خصوصاً لقوله “إن الشعب سيكون المتضرّرَ من أي هجوم أميركي أو إسرائيلي وليس القيادات”. اتهمتَه صحيفة جوان، المقربةُ من الحرس الثوري، بالخيانة. لكن الهجوم جزءٌ من موازنة النظام بين الصحافة والبيان الرسمي بشأن الحرب في غزّة. صاخبةٌ هي الصحافة بطبول الحرب “نصرةً للمستضعفين”، في حين تميل مراكزُ القرار السياسي إلى عدم إذكاء المواجهة. ولتدعيم التهدئة، تأتي تصريحات ظريف، حيث يسعى إلى إبراق رسائل؛ داخلية من خلال إفهام السلطات أن الحرب مطلب خصمها الإسرائيلي، وخارجية، تحديداً الأميركي والأوروبي، أن بلادَه لا تريدها.
تمثل هذه المقاربة لشخصية نُظر إليها بإعجاب من أعتى خصوم طهران، مثل مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق جون بولتون، جانباً مهماً من الحقيقة. ولو تتبّعنا التصريحات الإيرانية، الجادّة وليس التسويقية، سنلتمسُ أن طهران تتحاشى مواجهة مباشرة. لا يبدو هذا خفياً على مراقبين كثيرين. لكن ما هو معقد، أو ما يشكك كثيرون فيه، هو السؤال عما إذا كانت طهران تريد لحلفائها في المنطقة مواجهةً حاسمة، ثم إن الحديث عن النظام بوصفه كتلةً موحدة في التعاطي مع الملفات الخارجية الحساسة يبتعد إلى حد ما عن الواقع.
في منظومة القرار الإيراني، توجد أربعةُ مراكز؛ سلطةُ المرشد، والسلطةُ السياسية متمثلة برئيس الجمهورية، والحرسُ الثوري وملحقاتُه من أمثال “الباسيج”، ودوائرُ المخابرات (الاطلاعات). ظلت هذه جمعياً في النشاط الإقليمي عقداً أو يزيد مختصرةً بشخص واحد لغاية مطلع 2020، هو قائد فيلق القدس السابق، قاسم سليماني. حتى المرشدُ انطلق من الثقة المخوِّلةِ سليماني، إلى درجة أن من الصعب العثور على دليل على أن الجنرال، الذي اغتالته واشنطن في بغداد مطلع ذلك العام، كان يعود إلى طهران للتداول بشأن قراراته أو يأخُذ الإذن. كان هناك تخويل له من رأس النظام، وخضوعٌ اضطراري من بقية أركانه.
علاقة إيران بالملف الفلسطيني خاضعة تماماً لمركزية المرشد، غير أن الرجل الثمانيني لا يبدو مُمسكاً بكل الخيوط، بل موجِّهاً عبر خطاباتِه العلنية وبعضِ المرتبطين مباشرة به الخطوطَ العامة
اشتكى ظريف نفسه، في تسريبات خلال توزره الخارجية، من سليماني، وأكّد أنه تسبّب بتصفير النشاط الدبلوماسي لصالح الحراك العسكري. هو عبَّر عن حال حكومة الرئيس السابق حسن روحاني الأسيرة وقتها للحرس الثوري. في جانب آخر، بعد أن كانت مهامّ المخابرات الإيرانية منافِسةً الحرس الثوري في الشرق الأوسط لغاية ظهور موجة الربيع العربي، تراجعت تدريجياً حتى انحسرت، أو باتت خاضعةً لأوامر جنرال فيلق القدس. اختُزلت سلطةُ الحرس نفسها أعواماً بسليماني، رغم أنه لم يكن قائداً له. وما إن تلاشى الرجل من المشهد، حتى بدأت الحال بالتغيّر، ونشطت المحاور مجدّداً.
يمثّل الملفّ الفلسطيني أحدَ أهم الملفّات، إن لم يكن الأهم في أجندة تلك المراكز خارجياً. ربما تُفهم نغمةُ تأجيج من تصريحات قيادات الحرس الثوري، وجديدها أخيراً لقائد القوة الجوية للحرس، أمير علي حاجي زاده، حين قال “اليوم امتدّت الحرب ولبنان منخرط فيها. من الممكن أن يزداد اتّساع الصراعات أكثر”. للوهلة الأولى، قد نسمع منها طبول حرب، إلا أنها مجردُ وهلة، الكلام، على العكس، يعبر عن خشية إيران الحرب وليس إقبالها، خصوصاً أنه يؤكد أن واشنطن لا تهدّد بلاده بل تستخدم في مراسلاتها مع طهران “لغة الطلبات والتمنيات”. يبدو أنه يتحدّث عن تهديد وزير الدفاع الأميركي المتكرّر طهران وحلفاءها من مواصلتهم الهجمات على قواعد قوات بلاده في العراق وسورية.
لا تظهر الهجمات المليشياوية ذاتها بالمستوى الذي يشير إلى أنّ في وارد الإيرانيين خوض مواجهة مفتوحة مع واشنطن. يشبه الأمر القصف الصاروخي الإيراني المباشر على قاعدة عين الأسد العراقية الموجودة فيها قوات أميركية. كان حذِراً ومدروساً ألّا يوقع قتلى في صفوف الأميركيين، رغم كثافته وإزعاجه. الحرس هذه المرة حذر، وليس هذا قرارَه فحسب، إنما لتأثير المراكز الأخرى عليه، وتحديداً السلطة السياسية. الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، ليس كسلفه روحاني بلا تأثير صريح، إنما صاحب نفوذ كبير لدى المرشد وفي دوائر متنوّعة، خصوصاً أننا هنا نتحدّث عن اسم يمثل أحد المرشّحين لخلافة خامنئي. خطاب رئيسي جلي، التصعيد السياسي مع إسرائيل وفي الوقت نفسه التخفيف من التهديدات العسكرية. في النهاية التصعيد السياسي جزء من أدبيات الثورة الدينية وجمهوريتها الإسلامية.
يدرك الإيرانيون أن إسرائيل تريد حرباً تقوّض فيها حزبَ الله وتمتلك فيها فرصةَ قصفِ مفاعلات إيران النووية، لهذا يعملون على تقليل الاحتمالات
تشدّد تلك الأدبيات، نظرياً، على أن علاقة إيران بالملف الفلسطيني خاضعة تماماً لمركزية المرشد، غير أن الرجل الثمانيني لا يبدو مُمسكاً بكل الخيوط، بل موجِهاً عبر خطاباتِه العلنية وبعضِ المرتبطين مباشرة به الخطوطَ العامة. في ثلاثة خطابات أخيرة، جدّد خامنئي نفي الضلوع في التطوّرات الجارية. خطاب شدّدت عليه صحيفة كيهان المقربة منه بالقول إن “خطاب الثورة يقوم على صحوة الأمم وتقويتها… لكنها لا تذهب إلى الحرب بدلاً من أي شعب آخر”. سيكون الأمر أجلى إذا صدّقنا ما نقلته “رويترز” عن مسؤولين مقرّبين من خامنئي؛ أن المرشد أبلغ رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنيّة، أن إيران لن تذهب إلى الحرب.
تحاشي المواجهةِ المباشرة مع إسرائيل، وبالطبع الولايات المتحدة، رغم أنه لا يعني بالضرورة تجنّبَ مواجهةٍ غيرَ مباشرة، يعني، بالضرورة، أن هناك محاذيرَ إيرانيةً كثيرة مِن أيّ تحركات غير محسوبة. يأخذنا هذا إلى السؤال الأول، عن تحريك طهران أذرعها. تقول مصادر عدّة إن الحرس أُجبر على التخلي عن لعب الدور الإيراني الأبرز في المجريات السياسية العراقية لصالح المخابرات الإيرانية (الاطلاعات). لم تعد التوافقات السياسية والمقاربات الحكومية العراقية مِن مهام الحرس كما كانت. مثلاً، لم يكن في تشكيل حكومة محمد شيّاع السوداني الحالية لقائد فيلق القدس، إسماعيل قاآني، تأثيرٌ طاغٍ فيه، بل لأوساط إيرانية أخرى. أكثر من إشارة خلال الشهور الماضية، فضلاً عن أسابيع الحرب الجارية، تنمّ عن أن إيران تحاول الموازنة بين نشاط أذرعها ميدانياً في العراق وفي الوقت نفسه عدم تعريض حكومتِه التي تحظى برضاها لانهيارٍ قد يعيد الأمور إلى ما كانت عليه بعد اندلاع احتجاجات عام 2019، حين تلقّت طهران ضربات سياسية ومجتمعية عراقية موجعة.
لو أردنا مقارنة بين النشاط الميداني للجماعات المسلحة العراقية الموالية طهران عامي 2019 و2020 والوقت الراهن، سنجد أن استهداف المصالح الأميركية في العراق ما يزال أقلَّ مما كان عليه. ربما هناك نشاط أوضح في سورية، لكنه أيضاً محسوبٌ كي لا يكون مميتاً. بالطبع، لا يدل هذا على أن إيران تُهمل تدعيمَ جبهاتها الموالية في العراق وسورية ولبنان واليمن، إنما تعمل على إعادة توزيع أذرعِها. إذ تحدّثت وسائل إعلام إيرانية معارضة عن زيارة قيادات مليشيا النجباء النافذة في الحرب السورية سرّاً طهران، ما قد يشير إلى خشية الأخيرة من خسارة نشاطها العسكري هناك. لذا تعوّل على مليشيا النجباء لسد أيِّ نقصٍ ممكن يتركه حزب الله اللبناني في سورية.
ينمّ تتالي تصريحات عدم التورّط لأول مرة منذ عقدين تقريباً عن أن الحُكْمَ الإيراني خائفٌ، لكنه أيضاً يريد أن يكسب سياسياً
بالتالي، ما قاله ظريف عن أمل إسرائيل في اندلاع حرب واسعة يرجَّح أنه أصح من افتراض أن إيران تريد تأجيجاً مباشراً. أما غير المباشر فهو، إن كان آمناً سابقاً، يبدو الآن مخاطرة قد تفوق تداعياتها أي مرحلة ماضية. تحذير ظريف وسلسلة تصريحات المسؤولين الإيرانيين الحاليين، تُظهر إدراكَ طهران أن واشنطن تعمل، على الأقل الآن، على تقويض احتمالاتِ مواجهة إيرانية إسرائيلية تضطرُّها إلى التدخل، وأن تل أبيب تسعى إلى جرّ القوات الأميركية الموجودة في البحار والمحيط إلى حرب واسعة. يدرك الإيرانيون أن إسرائيل تريد حرباً تقوّض فيها حزبَ الله وتمتلك فيها فرصةَ قصفِ مفاعلات إيران النووية، لهذا يعملون على تقليل الاحتمالات، ويكتفي حزب الله بضرباتٍ غير مميتة على الحدود، رغم أن الضربات الإسرائيلية تقتل عناصره.
لا يظهر أن افتراض أن الحرب سوف تتوسع خيار إيراني، حتى لو قامت أذرعها بتحرّشات هي أقرب إلى التسويق الإعلامي الموجّه إلى مَن ينتظر تدخّلاً إيرانياً، مثل مسيّرات مليشيا الحوثي وقصف مليشيات عراقية صحراء النقب. كما أن وعي مراكز القرار الإيراني بأن الحرب معها هي ما تتمنّاها حكومة الحرب الإسرائيلية الحالية، يجعلها تعوّل على الوقت الذي تصبح هذه الحكومة فيه عاجزةً عن كسب أيّ قبول دولي، ضمني أو علني، أميركي أو أوروبي، في خوض حرب شاملة على حدود أخرى، بسبب تزايد موجة الرفض العالمي جرّاء الكلفة الأخلاقية والإنسانية لمشاهد القتل والدمار المروّعة.
ينمّ تتالي تصريحات عدم التورّط لأول مرة منذ عقدين تقريباً عن أن الحُكْمَ الإيراني بالفعل خائفٌ هذه المرّة، لكنه أيضاً يريد أن يكسب سياسياً ما لم يمتلك سابقاً. أظنّه يسعى إلى أن يحاوره الآخرون بشأن الملفّ الفلسطيني. أمر لم يحدُث أبداً في السابق، لأن الغرب يتداول مع أنظمةٍ عربيةٍ هذا الصدد، فهل سيختلف الحال بعد أن تضع الحرب أوزارَها، وتصيرَ إيران عضواً في أي طاولة حوار دولي محتملة بشأن المستقبل السياسي الفلسطيني بعد الحرب؟