يخطط رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة للسيطرة على إقليم فزان الغني بالنفط والمهم إستراتيجيا في صراع مع قائد الجيش خليفة حفتر. وكلاهما يسعى للاستفادة من التشابكات القبلية واستقطاب قيادات محلية.
تونس – تنافس حاد على إقليم فزان بدأت ملامحه تتشكل بين حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة وحكومة مجلس النواب برئاسة أسامة حماد، وهو ما ربطه المراقبون بجملة التحولات التي تشهدها منطقة الساحل والصحراء، وبتطلعات عدد من القوى الكبرى للاستثمار في الثروات الطائلة التي يحتكم عليها الجنوب، بالإضافة إلى صراع النفوذ القائم بين واشنطن وحلفائها من جهة وموسكو من جهة ثانية.
ويبقى الهدف الأكبر للتنافس بين طرابلس وبنغازي هو رغبة حكومة الدبيبة والتحالف السياسي والاقتصادي الذي تمثله في تحديد خارطة ليبيا المستقبلية في حالة الاضطرار إلى تقسيمها على أساس فيدرالي كما كانت عليه عند إعلان دولة الاستقلال وقيام المملكة المتحدة في العام 1951.
وكانت قوات الجيش الوطني بقيادة الجنرال خليفة حفتر، قد انتهت في أوائل 2019 من بسط نفوذها على كافة مناطق إقليم فزان، وهي التي تسيطر عليه إلى حد الآن تحت شرعية مجلس النواب، وتتولى الجانب الإداري فيه الحكومة المنبثقة عن البرلمان، غير أن حكومة الوحدة التي تتخذ من طرابلس مقرا لها، بدأت منذ الصيف الماضي في البحث عن موقع قدم لها في المنطقة الجنوبية من خلال العمل على إحداث اختراقات في الصف الموالي لقيادة الجيش.
ويشير المراقبون إلى أن رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق السابقة فايز السراج كان قد سعى في العام 2019 إلى قطع الطريق أمام خطة الجيش للسيطرة على كامل فزان، وذلك بالاعتماد على أحد ضباط النظام السابق المتحدرين من قبائل الطوارق وهو الجنرال علي كنة الذي تم تعيينه آمرا لمنطقة سبها، لكن النتيجة كانت فشلا ذريعا لمشروع السراج قابله مزيد من تمكن الجنرال حفتر من توسيع نفوذه في المنطقة عبر تحالفات اجتماعية مع مختلف القبائل.
بحسب المتابعين، فإن الدبيبة يراهن منذ فترة على بسط نفوذه على مناطق الجنوب الغربي للبلاد التي تتميز بأهمية إستراتيجية كبرى وبثروات طائلة، كما أن عيون أغلب القوى الكبرى تنصب عليها، ومنها عيون الأوروبيين التي ترى فيها حدّا متقدما أمام زحف المهاجرين غير النظاميين، ومصدرا مهما للثروات والطاقات التقليدية والبديلة، كما يمكن أن تكون مصدرا مهما للإنتاج الزراعي بسبب وفرة المياه وخصوبة الأرض وإمكانية استقطاب اليد العاملة الرخيصة من دول الجوار الجنوبية كتشاد والنيجر ومالي والسودان.
وراجت خلال الفترة الماضية معطيات زادت من حجم التنافس على المنطقة، وجعلت أنظار الفريقين تتجه نحو فزان، حيث تحدثت أوساط مطلعة عن تخصيص الدبيبة مبلغا بقيمة 650 مليون دينار، أي ما يقارب 140 مليون دولار أميركي، لتجهيز قوة عسكرية تتكون من 1000 عربة مسلحة، سيكون هدفها الهجوم على قوات الجنرال حفتر وطردها من فزان في عملية خاطفة.
وتتم العملية، بحسب الأوساط المطلعة، بالتنسيق مع المرشح الرئاسي عبدالمجيد سيف النصر، وبالتالي مع قبيلة أولاد سليمان، كبرى القبائل العربية بالجنوب، ومن سيتحالف معها من العرب والطوارق والتبو، ليتم لاحقا الإعلان عن قيام إقليم فزان، وتسليم مقاليد السلطة فيه لسليل أسرة سيف النصر التي حكمت فزان في ظل النظام الفيدرالي حتى العام 1963.
وعبدالمجيد سيف النصر من مواليد سبها جنوب البلاد عام 1957 ونشأ فيها، وفي العام 1970 اتهم والده بمحاولة انقلاب على النظام وفر من البلاد، بينما بقي هو مع أسرته داخل ليبيا وتم تعيينه في منتصف الثمانينات مديرا لفرع شركة المحركات العامة بسبها (دار بيجو)، وفي العام 1990 انتقل إلى المغرب حيث التحق بما يسمى جبهة إنقاذ ليبيا المعارضة، وأقام هناك بعد تأسيسه شركة لتأجير السيارات في ضاحية عين ذياب غربي الدار البيضاء.
وبعد انطلاق إحداث فبراير 2011 تم اختيار سيف النصر كعضو للمجلس الوطني الانتقالي عن محافظة سبها وكرئيس للجنة الأمنية العليا التي تتبع المجلس، وفي 2012 تم انتخابه عضوا بالمؤتمر الوطني العام عن مدينة سبها.
عيّن سيف النصر سفيرا لليبيا في المملكة المغربية في أبريل 2014 وأصدرت خارجية الوفاق في فبراير 2018 قرارا بإقالته على خلفية اعتزامه الانشقاق عن الوفاق والانضمام إلى الحكومة الليبية في شرق البلاد، وفي 26 مايو 2020 تسلم من رئيس مجلس النواب عقيلة صالح أوراق اعتماده باعتباره سفيرا مفوضًا فوق العادة لدى المملكة المغربية ومبعوثا خاصاً لمجلس النواب إلى دول المغرب العربي.
وإذا كان الدبيبة يحاول الاستفادة من وجاهة سيف النصر وتاريخ أسرته العريق في مقاومة الأتراك والإيطاليين وفي حكم إقليم فزان، وترضية قبيلة أولاد سليمان، منها الإفراج عن القيادي في النظام السابق والشاعر المعروف عبدالله منصور، فإنه فتح المجال للحوار مع الطيف السياسي والاجتماعي الذي لا يزال محافظا على ولائه للزعيم الراحل معمر القذافي، لاسيما أن هناك من يرى أن فزان تعتبر أهم معاقل أنصار الزعيم الراحل، ونسبة مهمة منهم غير راضية عن تصرفات قوات حفتر، وتعارضه بقوة، مقابل اعتقادها أن التحالف مع الدبيبة قد يكون أفضل بالنسبة إليها من تحالف مع الجنرال حفتر.
موضوع فزان يحتل أولوية لدى الفرقاء الداخليين وبين قوى دولية وإقليمية متصارعة على مواقع النفوذ
ورغم أن سيف النصر نفى للمقربين منه أن يكون متورطا في خطة الدبيبة، إلا أن جميع المؤشرات تؤكد أن الأخير يحاول السير على خطى حفتر في الاستفادة من خارطة التوازنات الاجتماعية والثقافية والسياسية في فزان، ويرغب في الاستفادة من الوضع البائس في الإقليم من حيث الوضع المالي والاقتصادي والواقع الاجتماعي ومن غياب الخدمات الأساسية، وذلك عبر الإعلان عن جملة من القرارات والمخططات التي يتسابق عليها مع نظيره في حكومة البرلمان أسامة حماد، مثل مشروع إعادة إعمار مرزق، وحل مشاكل الوقود والسيولة والتهريب والاتجاه نحو الاستثمار في الطاقة البديلة وغيرها من الملفات،
وتهدف خطة طرد الجيش من الجنوب الغربي بالأساس إلى تقليص دوره وحصر حضوره في إقليم برقة، وذلك تمهيدا لإعادة تشكيل النظام السياسي الليبي وفق التقسيم الفيدرالي الذي عرفته البلاد في العام 1951 قبل أن يتم إلغاؤه وفق التعديلات التي تم إدخالها على دستور المملكة في العام 1963. وفي الخامس من نوفمبر الجاري، أكد حفتر أهمية المكونات الاجتماعية في ليبيا، وأشاد خلال استقباله المنسق الاجتماعي للقيادة العامة لقبيلة أولاد سليمان الشيخ زيدان الزادمة بـ”دور أبناء قبائل أولاد سليمان وباقي القبائل بالمنطقة الجنوبية في إعادة الاستقرار، والعمل على تحقيق المصالحة الوطنية بين الليبيين”.
وفي اليوم الموالي، استقبل حفتر وفدا من شيوخ وأعيان قبائل الطوارق، وهو ما يندرج في سياق الحوار الاجتماعي مع الزعامات القبلية والعشائرية الفاعلة في الإقليم الجنوبي، وبحسب بيان من إعلام قيادة الجيش، فإن الوفد أثنى على “جهود القوات المسلحة المبذولة في تأمين كافة مدن الجنوب وسعيهم المتواصل للحد من العمليات الإجرامية وعمليات التهريب في كامل الشريط الحدودي”. وشدد حفتر على “أهمية دور القبائل الليبية في الجنوب والصحراء”، مثمناً “جهودهم المبذولة لدعم القوات المسلحة في تأمين الحدود والحفاظ على أمن مُدن ومناطق الجنوب الليبي”.
يراهن حفتر على دور أعيان ووجهاء الطوارق في إقناع “ابنهم” عضو المجلس الرئاسي عن فزان موسى الكوني بعدم التورط مع الدبيبة في محاولة تغيير الوضع السياسي والعسكري والأمني الحالي في جنوب غرب البلاد.
ويعتقد محللون مهتمون بالملف الليبي أن موضوع فزان أصبح يحتل أولوية ليس لدى الفرقاء الداخليين فقط، وإنما كذلك بين القوى الكبرى والإقليمية المتصارعة على بسط نفوذها على البلاد، وأن أي سلطة في طرابلس تبقى منقوصة النفوذ والشرعية، طالما أنها غير قادرة على التحكم في مقدرات وحدود الإقليم الجنوبي. وإن هناك تحالفات تشكلت على اكثر من صعيد في المنطقة الغربية لتمكين قوات الحكومة المنتهية ولايتها من السيطرة علي فزان.
لم تترك حكومة الوحدة الوطنية أي جهة داخلية أو خارجية مؤثرة دون أن تطرح معها ملف الجنوب، فعلت ذلك مع البعثة الأممية ومع واشنطن وباريس ولندن وروما وأنقرة والجزائر، وسعت إلى عقد صفقات مع عدد من الميليشيات المؤثرة ومع الفعاليات الاجتماعية القبلية النافذة لحشد التأييد لأي مغامرة عسكرية قادمة.
في بعض الأحايين، سربت الحكومة المنتهية ولايتها أخبارا في وسائل إعلامية غربية للتحريض على دور حفتر في الجنوب من بينها اتفاقه مع الروس على تمكينهم من قاعدة عسكرية في فزان، وهو ما تم نفيه لاحقا.
أدرك حفتر تفاصيل المخطط الذي يستهدفه، وكان له نقاش طويل مع قيادات بالجيش حول سير عمل الوحدات العسكرية بجميع تخصصاتها داخل المدن والمناطق الحدودية ليصدر بعدها توجيهات مباشرة بالتعامل مع أي محاولات من تشكيلات مسلحة من المنطقة الغربية للسيطرة أو خلق مناطق نفوذ لها في جنوب البلاد تحديدا، وهو ما ينذر بإمكانية حصول صدام مسلح بين الطرفين.
هذا الأمر حذرت منه اللجنة العسكرية الليبية المشتركة (5+5) حيث دعت الأطراف السياسية في البلاد إلى تحمُّل مسؤوليتها، و”إيجاد حل سياسي للوضع الراهن”، كما دعت الأطراف كافة إلى “الالتزام بقرار وقف إطلاق النار، وعدم القيام بأي أعمال من شأنها زعزعة الاستقرار والمشهد الأمني في ليبيا”، وفق البيان الصادر عنها في العاشر من نوفمبر، والذي لم تتطرق فيه إلى مشروع تم إقراره سابقا ويتمثل في تشكيل قوة عسكرية موحدة بين طرفي النزاع لتأمين الحدود الجنوبية.
كما لم تتطرق اللجنة إلى أحداث 29 أكتوبر الماضي في غريان، عندما اندلعت مواجهات بين قوات عائدة بعد أربع سنوات من تهجيرها من المدينة بقيادة القيادي العسكري الموالي لحفتر عادل دعاب وقوات أخرى موالية لحكومة الوحدة الوطنية.
وتعتبر غريان جسرا بين الجنوب والشمال الغربي للبلاد، وكانت أول مدينة سيطرت عليها قوات الجيش الوطني في الرابع من أبريل 2019 ضمن عملية “طوفان الكرامة”. مقابل الاستقبال الشعبي لقوات دعاب، سارع الدبيبة إلى عقد اجتماع عسكري وأمني، أصدر على إثره قرارا بتشكيل غرفة عمليات مشتركة برئاسة المقدم عبدالسلام سالم الزوبي وتتكون من أجهزة أمنية وعسكرية لردع المجموعات المعتدية في المدينة.
كانت تلك الحادثة مؤشرا على طبيعة نوايا الطرفين، وكشفت مسارعة الدبيبة لتطويق الواقعة وإعادة القوات الزاحفة من حيث أتت عن خشيته من أن يكون هدف حلفاء الجيش من وضع اليد على غريان هو منع قوات المنطقة الغربية من الانطلاق في اتجاه نحو الجنوب.
140 مليون دولار يخصصها الدبيبة لتجهيز قوة عسكرية من ألف عربة لطرد قوات حفتر من إقليم فزان
واتجه الدبيبة لعقد تحالفات جديدة مع أسامة الجويلي آمر المنطقة العسكرية الغربية الموالي لحكومة البرلمان والقريب من حفتر رغم الخلافات السابقة بينهما. ويهدف من وراء ذلك إلى تعبئة أكثر ما يمكن من الإمكانات لإجلاء قوات الجيش من فزان. وسيكون موقف الجويلي محددا لنتائج أي مستجدات مرتقبة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى اللواء 444 قتال تحت إمرة محمود حمزة الذي لا يزال يتمسك بموقفه الرافض لأي مواجهات مع الجيش.
ويقع إقليم فزان على مفترق طرق إقليمي، حيث يربط جنوب ليبيا بمنطقة الساحل. ومن يبسط نفوذه على تلك المنطقة فقد حقق كسبا عظيما، لاسيما من حيث إستراتيجية الموقع واتساع المساحة وتعدد وتنوع الثروات. تبلغ مساحة فزان 551170 كيلومتر مربع، ولا يتجاوز عدد السكان 500 ألف نسمة من عرب وتبو وطوارق، بحيث لا تكاد الكثافة السكانية تصل إلى 0.80 ساكن في الكيلومتر المربع.
يمتاز الإقليم بثروات طبيعية هائلة، فهو أحد أهم مراكز إنتاج النفط، وبخاصة من خلال حقلي الشرارة والفيل بحوض مرزق حيث يتم إنتاج حوالي 500 ألف برميل يوميا، مع مخزون هائل غير مكتشف أو غير مستغل من الغاز الصخري. ومن صحرائه تنفجر ينابيع الماء العذب الزلال لتجري في الأنابيب المتجهة إلى الشمال من خلال منظومة النهر الصناعي، يضاف إلى ذلك احتياطي ضخم من الحديد يصل إلى 3.5 مليار طن مع نسبة الحديد بين مكونات الصخور وخاصة في منطقة تاروت ببراك الشاطئ شمال مدينة سبها.
وبحسب دراسة أعدها المجلس الليبي للنفط والغاز، فإن إقليم فزان يحوي مناجم يورانيوم في منطقة العوينات الغربية بالقرب من مدينة غات الحدودية مع الجزائر، مع شواهد للذهب والمنغنيز في جبال تيبستي من الجانب الليبي على الحدود مع تشاد. وخلال السنوات الماضية كانت مناجم الذهب قد تحولت إلى نهب لدى الشبكات العابرة للحدود، كما توجد ما تسمى بالأتربة أو العناصر النادرة، والتي تدخل في صناعة التقنية النووية والإلكترونية المتطورة مثل الهواتف الذكية ومكبرات الصوت والخلايا الضوئية المستخدم في صناعة الألواح الشمسية.
ومهما يكن من أمر، فإن التنافس على بسط النفوذ على فران يبقى على أشده، وأن كل طرف يعد خطته ومفاجآت للطرف المقابل، وهو ما يزيد من تعميق الفجوة بين سلطات طرابلس وبنغازي، ويحول دون تحقيق حلحلة عملية للازمة السياسية الذي لا تزال تتفاقم وفق مسارات الصراع على الثروة والسلطة في البلد الغني في شمال أفريقيا وعلى تخوم أوروبا.
العرب