في حين كان العالم ينتظر سريان الهدنة في غزة بفارغ الصبر، على قاعدة أنّها مقدّمة لهُدن أخرى ولوقف إطلاق النار لاحقاً، كانت إسرائيل تشنّ أعنف هجماتها في غزة وفي جنوب لبنان حيث استهدفت مجموعة من قادة فرقة الرضوان في الحزب بما ترمز إليه من قوّة وأهمية بالغة في عمل الحزب العسكري، وقتلت نجل رئيس كتلة الحزب النيابية محمد رعد، عباس، الذي كان معهم.
الجنون الإسرائيلي في الساعات الأخيرة لم يكن مفاجئاً. فقد درجت العادة أن تكون الساعات الأخيرة قبل الهدنة عنيفة. كأنّ رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتانياهو يسابق الوقت ليضرب ما يستطيع ضربه على قاعدة ما قاله وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت من أنّه “في اليوم الذي نفّذت فيه حماس المجزرة، حسمت مصير غزة ومصيرها”.
في حين كان العالم ينتظر سريان الهدنة في غزة بفارغ الصبر، على قاعدة أنّها مقدّمة لهُدن أخرى ولوقف إطلاق النار لاحقاً، كانت إسرائيل تشنّ أعنف هجماتها في غزة وفي جنوب لبنان
بناء عليه، فإنّ من يقرأ مواقف الولايات المتحدة الأميركية ومواقف إسرائيل يدرك أنّ كلّاً منهما في سباق وعلى توقيت لا يتقاطع مع توقيت الآخر وهدفه النهائي:
– نتانياهو: يسابق الوقت هرباً من حتمية مثوله أمام لجنة تحقيق لا بدّ أن تتشكّل ما إن تضع الحرب أوزارها. فيصبح العنوان هو “الحساب” في اليوم التالي للحرب، داخل تل أبيب، أكثر منه داخل غزّة. وعليه، يسعى نتانياهو إلى إطالة أمد الحرب على أمل الفوز بصورة يحملها إلى خصومه المترقّبين إخفاقاته، وهي كثيرة. يسعى إلى نصر في الميدان خلال أطول فترة ممكنة، متفاخراً بألسنة الدخان فوق ركام غزة. لذا لا يريد الرجل أن يلتزم أيّ أفق زمني لوقف الحرب. وربّما عبّر عن ذلك في الساعات الماضية بالقول إنّ حربه على غزة “ستُستأنف بعد الهدنة”.
– بايدن: يسابق موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية التي يبدو أنّه لن يربحها في حال استمرّ في دعم الحرب المفتوحة على غزة. فكلّما اشتدّت الحرب، لمس بايدن تراجعاً أكبر في عدد المؤيّدين له. وربّما الاعتراضات والاستقالات في إدارته وحزبه أبرز مؤشّر إلى معارضة أركان في البيت الأبيض للعبثية التي تحوّلت إليها حرب نتانياهو في القطاع المحاصَر منذ زمن.
التبادل يتأخّر بتشدّد إسرائيليّ
في مسعاها إلى ضبط مسار الحرب في غزة، عملت الولايات المتحدة الأميركية مع قطر على رعاية المفاوضات بين إسرائيل وحماس. تحت النار على مدنيّي غزة وصلت هذه القوى إلى اتفاق على إطلاق خمسين امرأة وطفلاً من حَمَلة الجنسية الإسرائيلية لدى حماس مقابل مئة وخمسين أسيرة فلسطينية ومعتقلاً ما دون الـ18 عاماً في سجون الاحتلال.
مقابل كلّ أسيرة لدى حماس تطلق إسرائيل ثلاث أسيرات فلسطينيات ومعتقلين، ويتمّ ذلك على دفعات طوال أيام الهدنة. غير أنّ الأزمة التي طرأت في اللحظات الأخيرة على هذه المفاوضات هي تشدّد نتانياهو في معارضة دخول مساعدات “مفتوحة” إلى القطاع لأنّه يعتبر ذلك تعارضاً مع خطّته لاستنزاف منطقة الشمال. في حين كانت قد اشترطت حماس دخول المساعدات من دون أيّ قيد.
لهذا تأجّل إنجاز صفقة التبادل وتأجّلت الهدنة حتى اليوم. وبانتظار اكتمال شروط الصفقة الأولى، لا تزال حماس تمسك بالورقة الأكثر أهمية التي تضغط من خلالها على العالم لإبقاء العين على القطاع: ورقة الأسرى من حاملي الجنسيات المزدوجة، وبينهم أميركيون وأوروبيون، الذين احتفظت حماس بهم ليكونوا في صفقات تبادل لاحقة وتستطيع بهم المحافظة على قضيّتها عنواناً أوّل في جدول أعمال العالم.
هناك مصلحة مشتركة بين أميركا وإسرائيل في تصفية حركة حماس في القطاع وخارجه، وهو ما يحاول نتانياهو أن يقوم به في هذه الحرب
بنود الخلاف الأميركيّ الإسرائيليّ
لأنّ هناك مصلحة مشتركة بين أميركا وإسرائيل في تصفية حركة حماس في القطاع وخارجه، وهو ما يحاول نتانياهو أن يقوم به في هذه الحرب، فقد أعلن في الساعات الماضية أنّه أوعز إلى الموساد بتصفية قادة حماس في أيّ دولة خارج القطاع. وهكذا كان اغتيال مسؤول حمساوي جنوب لبنان قبل يومين.
إلا أنّ الخلاف في المقاربات بدأ يظهر بين الرجلين اللذين لم تجمعهما أيّ كيمياء منذ انتخاب بايدن رئيساً. بل إنّ نتانياهو لم يدخل البيت الأبيض بعد في عهد بايدن، علماً بأنّ حليفه الأساسي هو الرئيس الأسبق دونالد ترامب.
عليه، ما بين الرجلين أكثر من اختلاف نعدّد منها:
– دعت واشنطن التي تخضع لضغوط كبرى في هذه الحرب، إسرائيل إلى تجنّب قصف المدنيين في حين استمرّ نتانياهو باستراتيجية تدمير شمال قطاع غزة على من فيه.
– ترفض واشنطن، المنظّرة لحلّ الدولتين وإنشاء دولة فلسطينية، تهجير أهل قطاع غزة، معتبرة أنّ القطاع جزء من الدولة المستقبلية للفلسطينيين. فيما لا يعترف نتانياهو بحلّ الدولتين ويعمل في هذه الحرب على تهجير أهل القطاع من شماله إلى جنوبه ويخطّط لإبقاء قواته في الشمال حتى إشعار آخر والتقدّم ولو بأمتار قليلة يومياً.
– في حين دعمت واشنطن حليفتها إسرائيل في حرب مدمّرة على غزة في شهرها الأول، إلا أنّ واحداً من الخطوط الحمر بالنسبة إلى واشنطن هو توسيع رقعة الحرب إلى خارج غزة، أي إلى لبنان أو إيران، لأنّها حينها تصبح معنيّة بشكل مباشر. أمّا نتانياهو فهو يعمل بثقله على توريط واشنطن بحرب لا تستطيع الانسحاب منها. وما هي ضرباته على جنوب لبنان واغتياله قادة فرقة الرضوان ومواقفه من تحويل بيروت إلى غزة، إلا دليل على الاستفزاز الذي يقوم به سعياً إلى حرب تسانده فيها أساطيل الدول الكبرى، كي تجد واشنطن نفسها أمام مفترق خطير وتتحرّك سريعاً تداركاً لتصعيد أكبر.
خلاف في الضفّة أيضاً
– تسعى واشنطن إلى إرساء هُدن إنسانية متتالية تخفّف من وطأة الحرب وتستكمل اسرائيل محاولة تصفية قادة حماس مع الوقت. أمّا نتانياهو فيؤكّد أنّ حربه لن تتوقّف مع الهدنة وأنّه سيعاود عملياته العسكرية بعد اليوم الأخير من الهدنة مباشرة.
– يظهر الخلاف بين المقاربتين الأميركية والإسرائيلية في الضفة الغربية أيضاً، التي يسمح فيها نتانياهو للمستوطنين بتنفيذ اعتداءات على الفلسطينيين وصلت إلى حدّ قتلهم وطردهم من منازلهم. أمّا البيت الأبيض فعبّر عن قلقه من هذا العنف بحقّ الفلسطينيين. والقيادة الفلسطينية في الضفّة هي “حليفة” خطة واشنطن في خطّة السلام.
إقرأ أيضاً: واشنطن تُمهل نتانياهو حتى آخر الشهر…
وبالتالي فإنّ الساحة مفتوحة على صراع لم تحدَّد نهايته، على الرغم من الكلام عن تحوّل مسار الحرب من حرب مفتوحة وقصف جوّي مستمرّ إلى حرب بطيئة وعمليات اغتيال محدّدة لقادة حماس.
تزامناً مع سعي نتانياهو إلى إطالة عمر حربه المفتوحة تُطرح تساؤلات حول ما إذا كانت إسرائيل قادرة على تحمّل أعبائها، وما إذا كانت ستسمح لنتانياهو بأن يطيل حياته السياسية على حسابها. لأنّ كلّ الكلام في الكواليس بدأ عن “مرحلة ما بعد الحرب” على أن يكون نتانياهو خارجها. وهي مرحلة ستكون برعاية دولية عربية خليجية إسلامية.
ربّما يكون أوّل من افتتح الكلام عنها هو الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الذي أقام الحُرم السياسي على نتانياهو، فأعلن مقاطعته الشخصية له، قائلاً إنّ تركيا مستعدّة لتولّي المسؤولية مع دول أخرى في الهيكل الأمني الذي سيتمّ إنشاؤه في غزة.