أفضى الهجوم المفاجئ الذي نفّذته حركة حماس على البلدات الإسرائيلية الواقعة في غلاف غزة يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر إلى زعزعة عدة ديناميات إقليمية كانت قيد التشكّل على مدى السنوات الماضية. كان أوّلها وأكثرها ووضوحًا التصوّر الخاطئ أن قضية فلسطين لم تعُد محور اهتمام الشعوب العربية، وأن تحقيق الاستقرار في المنطقة ممكنٌ فيما الفلسطينيون يرزحون تحت وطأة احتلال إسرائيلي همجي. أتت ردود الفعل الشعبية لتُثبِت أن القضية الفلسطينية وضروب الظلم والإجحاف التي يقاسيها الفلسطينيون لا تزال تكتسي رمزيّةً سياسية قوية قادرة على إشعال موجات عارمة من الغضب في مختلف أرجاء العالم العربي، أكثر من أي قضية أخرى.
كان استياء الرأي العام العربي من المعاملة السيئة والانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين ملموسًا حتى قبل تاريخ 7 تشرين الأول/أكتوبر، لكن جاءت الأحداث التي تشهدها غزة اليوم لتؤجِّج أكثر فأكثر مشاعر السخط في المنطقة. في موازاة ذلك، بتنا نلمُس أيضًا تصاعد المزاج المُعادي للغرب جرّاء الدعم غير المشروط الذي تحظى به عمليات القصف الإسرائيلي على قطاع غزة داخل أروِقة القرار في الولايات المتحدة والكثير من بلدان أوروبا الغربية. إذًا، عادت فلسطين إلى واجهة المشهد الدولي وإلى صُلب الخطاب العام، على وقع تنامي زخم الدعوات للتوصّل إلى حلٍّ سياسي عادل للقضية الفلسطينية، وتوجيه بوصلة النقاش مجدّدًا نحو حلّ الدولتَين في ظلّ سياسات إسرائيلية أسّست لدولة واحدة على أساس الفصل العنصري. يُضاف كذلك أن الازدواجية الغربية الفاضحة في المعايير تجاه حرب غزة، أسهمت كلّها في تقويض مساعي الغرب إلى حشد مواقف داعمة لأوكرانيا ضدّ روسيا في أوساط أبرز دول الشطر الجنوبي من العالم، علاوةً على تقويض الجهود الرامية إلى تعزيز الاحترام لقواعد القانون الدولي.
أما ثانيًا، فقد أسفر هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر أيضًا عن تجميد مسار التطبيع بين عددٍ من الدول العربية وإسرائيل، أي ما يُعرف على نطاق واسع بالاتفاقات الإبراهيمية التي تسعى إلى تأسيس إطار أمني واقتصادي جديد يشمل دول الخليج وإسرائيل، إضافةً إلى المغرب. لكن اتفاقات التطبيع هذه قوّضت مبدأ الأرض مقابل السلام الذي نصّ عليه القراران 242 و338 الصادران عن مجلس الأمن الدولي، ثم كرّسته مبادرة السلام العربية في العام 2002. إزاء هذا الواقع، بات الفلسطينيون من دون سند إقليمي داعمٍ لهم، ما أفسح المجال أمام إيران لملء الفراغ القائم. من خلال الاتفاقات الإبراهيمية، ركّزت الولايات المتحدة، باعتبارها الدولة الراعية والداعمة الأساسية لها، على دول الخليج في الغالب وهمّشت دور دول المشرق العربي ومعها الفلسطينيين. ولم يسهم الإعلان عن مشروع الممرّ التجاري بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، الذي يُفترَض أن يربط الهند بدول الخليج ثم بإسرائيل، إلا بتسليط الضوء أكثر على هذا الوضع.
كان تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل لا يزال قيد التفاوض عند وقوع الهجوم، ومن شأن نجاحه أن يُشكّل الركيزة الأهمّ لهذا النظام الإقليمي الجديد. لكن الصراع في غزة أدّى إلى تعليق هذه المفاوضات إلى أجَل غير مسمّى. والواقع أن المزاج العام في البلدان التي سبق أن وقّعت اتفاقات مع إسرائيل هو معارضٌ إلى حدٍّ كبير لهذه الأخيرة بسبب إراقتِها دماء الفلسطينيين في غزة، وتزايد الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين في الضفة الغربية، ناهيك عن سلبِهم أراضيهم وممتلكاتهم. ولذا، ستكون عملية إعادة إحياء المحادثات السعودية الإسرائيلية مشروطةً بوقف القتال، والنتائج السياسية التي تعالج الوضع الكارثي للفلسطينيين، وتركيبة الحكومة الإسرائيلية الجديدة.
أما الافتراض الثالث الذي أسقطه هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، فهو أن الجهود التي بذلتها إيران على مدى العقود الماضية لتوطيد نفوذها الإقليمي، كانت بدأت تؤتي ثمارها. ففي وقت سابق من هذا العام، يشي التقارب بين السعودية وإيران باعتراف الرياض الضمني بشبكة القوى المسلّحة التابعة لإيران في بلدان رئيسية في الشرق الأوسط، بما فيها سورية والعراق ولبنان واليمن. وبعد أن أدان القادة السعوديون ذات يوم “أفعى” النفوذ الإيراني، أصبحوا الآن على استعداد للتعاطي بشكل براغماتي مع طهران. في موازاة ذلك، كان الحوار الأميركي الإيراني قد أحرز تقدّمًا، إذ أفضى إلى صفقة للإفراج عن خمسة أميركيين مزدوجي الجنسية كانوا مُحتجَزين لدى طهران، مقابل رفع التجميد عن 6 مليارات دولار من الأصول الإيرانية في كوريا الجنوبية. هذا واستعانت إيران بوكلائها لتطويق إسرائيل بنجاح من خلال إرساء خطوط ردعٍ في لبنان وغزة وسورية، لا بل أبعد من ذلك أيضًا، في العراق واليمن.
لكن ذلك كلّه أصبح اليوم على المحكّ. فالنجاح غير المتوقّع الذي حقّقته حماس في العملية قد دَفَع المنطقة، ومعها العالم بأسره، إلى التأرجح على حافّة صراع إقليمي وربما عالمي. وواقع الحال هو أن استراتيجية إيران القائمة على “وحدة الساحات وترابط الجبهات” أصبحت ترزح تحت الضغط نظرًا إلى الارتفاع المتزايد في حصيلة الضحايا الفلسطينيين التي بلغت نحو 9000 قتيل وأكثر من 22 ألف جريح، وفقًا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فضلًا عن تدمير 30 في المئة من الوحدات السكنية في غزة. صحيح أن إيران ليست متحمّسة على دخول الصراع، ولكنها أيضًا لا تستطيع، بعد توحيد حلفائها في لبنان وسورية والعراق واليمن وغزة والضفة الغربية في قتالهم ضدّ إسرائيل، أن تبقى مكتوفة اليدَين إذا تعرّضت حماس للتهديد. في المقابل، تدرك إيران أن أيّ انخراط قد يكون كارثيًّا، إذ سيُشكّل تهديدًا مباشرًا لأصولها الإقليمية التي أمضت الجزء الأكبر من العقود الثلاثة الماضية في بنائها وتعزيزها.
إزاء هذه المعضلة، تبنّى حزب الله التصعيد التدريجي مع إسرائيل على طول الحدود اللبنانية الجنوبية. وفيما لا يزال الوضع تحت السيطرة حتى الآن، تسهم الضربات المباشرة التي تشنّها المجموعات الموالية لإيران ضدّ إسرائيل انطلاقًا من العراق واليمن وسورية، في جرّ المنطقة نحو مُنزلَق خطير يمكن أن ينتهي إلى صراع أوسع بكثير. ولهذا السبب، مَن يحثّون إسرائيل على السعي إلى تحقيق أهداف قصوى في عملياتها في غزة قد يدفعون حليفتهم والعالم إلى شفا الكارثة. إنّ خطر التصعيد الإقليمي الداهم لَكبيرٌ جدًّا، وسيجذب على الأرجح القوى الدولية للانخراط فيه. لكن، وإن كان هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر قد قَلَب المنطقة رأسًا على عقب، فليست للكثير من الأطراف مصلحة في تركه يقلب النظام الدولي أيضًا.