شكّل يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر أمورًا كثيرة لإسرائيل، لكنه أتى في المقام الأول تأكيدًا على المأزق الذي تشهده طموحات القيادة الإسرائيلية الحالية. فقد أظهر الهجوم الذي نفّذته حماس على بلدات وقواعد عسكرية إسرائيلية أن فكرة الالتفاف على الفلسطينيين لعقد صفقات مع الدول العربية هي محض وهم. والمشكلة في إسرائيل وحولها ما زالت هي نفسها: فمن دون أي أفق سياسي للفلسطينيين، ستبقى إسرائيل دولة قائمة على أساس القمع البنيوي، وستواصل إمعانها في إخضاع الفلسطينيين والتغاضي عنهم وإذلالهم إلى أجل غير مسمّى. وحين يدرك الإسرائيليون أن هذا الوضع غير قابل للاستمرار، سيكون أمامهم خيار واحد من بين خيارَين لا ثالث لهما: إما إبرام اتفاق سلام دائم مع الفلسطينيين، أو إيجاد طريقة لتهجير الفلسطينيين قسرًا من الضفة الغربية وقطاع غزة (وربما أيضًا أولئك داخل حدود 1948) إلى دول عربية مجاورة.
مع أن طريق السلام هو أفضل الخيارَين، غالب الظن أن إسرائيل ستفضّل البديل، أي التطهير العرقي. نلمس اليوم إجماعًا واضحًا بين مختلف ألوان الطيف السياسي الإسرائيلي على أن أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر أظهرت استحالة التعايش بين اليهود والفلسطينيين. وبالتالي، بات الحلّ الوحيد التخلّص من أكبر عددٍ ممكن من الفلسطينيين في جوار إسرائيل.
لطالما كان مفهوم “الترانسفير”، أو طرد السكان العرب من فلسطين، حاضرًا في النقاش العام الإسرائيلي، وشكّل محور الفكر الصهيوني، كما أظهر نور مَصالحة في كتابه الفذّ بعنوان Expulsion of the Palestinians: The Concept of “Transfer” in Zionist Political Thought, 1882–1948 (طرد الفلسطينيين: مفهوم “الترانسفير” في الفكر والتخطيط الصهيونيَّين، 1882-1948). ويُشار إلى أن التركيبة السكانية الراهنة تسهم في زيادة حدّة التفكير الإسرائيلي في هذا الصدد. وقد شهدنا في الآونة الأخيرة مسؤولين إسرائيليين وصنّاع قرار حاليين وسابقين يخوضون نقاشات علنية حول التهجير الجماعي للفلسطينيين من غزة، في حين أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو طلب من قادة أوروبيين الضغط على مصر للموافقة على استقبال فلسطينيي غزة بعد أن تقدِم إسرائيل على ترحيلهم إلى سيناء.
ونظرًا إلى أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر هي، بحسب وصفها، إحدى المنظمات الأكثر انخراطًا في “الحماية والمساعدة في المجال الإنساني لضحايا النـزاعات المسلحة وحالات العنف الأخرى”، وأنها “تتّخذ إجراءات لمواجهة حالات الطوارئ وتعزّز في الوقت ذاته احترام القانون الدولي الإنساني وإدراجه في القوانين الوطنية”، من المُجدي أن نبدأ بالتعريف الذي تقدّمه عن التطهير العرقي. تعرّف هذه المنظمة التطهير العرقي على أنه “سياسة هادفة تضعها مجموعة عرقية أو دينية واحدة للتخلّص من السكان المدنيين من جماعة عرقية أو دينية أخرى ومن مناطق جغرافية معينة، عن طريق العنف والوسائل المُستلهمة من الإرهاب”.
لقد أعدّت وزارة الاستخبارات الإسرائيلية وثيقة أسمتها السلطات “ورقة مفهومية” للتقليل من أهميتها، وتضمّنت قائمةً من الخيارات المطروحة للتعامل مع الفلسطينيين في غزة. ومن ضمن هذه الخيارات أن تعمد إسرائيل إلى “إجلاء السكان من غزة إلى سيناء”، و”إنشاء منطقة عازلة بعمق كيلومترات عدّة داخل الأراضي المصرية، وعدم السماح بعودة الفلسطينيين إلى النشاط أو السكن بالقرب من الحدود الإسرائيلية”. وفقًا لتعريف اللجنة الدولية للصليب الأحمر، تُعدّ اقتراحات وزارة الاستخبارات وإجراءات نتنياهو، بما لا يقبل الجدل، خطواتٍ في إطار مشروع يرمي إلى ارتكاب التطهير العرقي بحق الفلسطينيين في غزة.
لكن حينما جوبِهَت ورقة وزارة الاستخبارات بالمعارضة، جرّب بعض الإسرائيليين مقاربةً أخرى. فنشر السياسيان الإسرائيليان داني دانون من حزب الليكود، ورام بن باراك من حزب يش عتيد الأكثر وسطيةً، مقال رأي في صحيفة وول ستريت جورنال، دعَيا فيه دول العالم إلى استقبال ما أسمَياه “عددًا محدودًا من عائلات غزة التي أبدت رغبتها في مغادرة القطاع”. في الظاهر، بدت هذه الدعوة بمثابة لفتةٍ إنسانيةٍ لصالح الفلسطينيين، ولكنها في الحقيقة كانت أمرًا مختلفًا تمامًا. فبما أن إسرائيل دمّرت مساحات واسعة باتت غير صالحة للسكن في غزة، يمكننا الافتراض أن عددًا غير قليل من سكان القطاع سيرغب على الأرجح في الرحيل إذا سنحت له الفرصة. بتعبيرٍ آخر، إنّ ما اختار الكاتبان تصويره بشكل ماكرٍ على أنه خطة تطال عددًا محدودًا من الفلسطينيين، هو في الواقع خطة يُرجَّح أن تستهوي في نهاية المطاف عددًا أكبر من السكان الذين دُمّرَت حياتهم في غزة.
لا عجب في أن تكتيك التطهير العرقي الناعم هذا قد لقي تأييد الجهات الأكثر تطرّفًا في السلطة السياسية الإسرائيلية، إذ وافق على هذا الاقتراح بتسلئيل سموتريتش، رئيس الحزب الديني القومي-الصهيونية الدينية اليميني المتطرّف. سموتريتش نفسه كان قدّم في العام 2017 ما عُرِف بـ”خطة إسرائيل الحاسمة”، داعيًا فيها إلى توسيع هائل للمستوطنات في الأراضي المحتلّة، حتى “يصبح الحلم العربي بإقامة دولة في يهودا والسامرة غير قابلٍ للتطبيق”. عندئذ يبقى أمام الفلسطينيين احتمالان: “مَن يرغبون في التخلّي عن تطلّعاتهم الوطنية يستطيعون البقاء هنا والعيش كأفراد في الدولة اليهودية”، أو “مَن يختارون عدم التخلّي عن طموحاتهم الوطنية سيحصلون على المساعدة للهجرة إلى إحدى الدول الكثيرة حيث يحقّق العرب طموحاتهم الوطنية، أو إلى أيّ وجهة أخرى في العالم”. يمكن للمرء أن يسمع صدى آراء سموتريتش في مقال دانون وبن باراك، وهي آراء تعبّر على ما يبدو عن وجهات النظر السائدة.
فلنفكّر في أحد الاحتمالَين: إذا افترضنا أن الفلسطينيين تخلّوا عن تطلّعاتهم الوطنية، واختاروا العيش في دولة يهودية، فما الذي ينتظرهم فعليًا؟ إن كانت الأحداث الماضية تُنبئ بالمستقبل، فمن المحتمل جدًّا أن يُكتَب للفلسطينيين الذين سيبقون في إسرائيل والأراضي المحتلّة القبولَ بالعيش كمواطنين من الدرجة الثانية على الدوام، في ظلّ نظام قانوني يميّز بين اليهود والفلسطينيين، وهذا هو التعريف القانوني للأبرتهايد، أو نظام الفصل العنصري.
إن التلفّظ بمثل هذا الكلام هو على ما يبدو مثالٌ على معاداة السامية وفقًا لمسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، الذي يتبنّى تعريف معاداة السامية المثير للجدل الخاص بالتحالف الدولي لإحياء ذكرى ضحايا الهولوكوست. لكن المشكلة الوحيدة هي أن عددًا متزايدًا من الإسرائيليين يبدو موافقًا على مصطلح الأبرتهايد، بمَن فيه منتدى محاضرات ومحاضري القانون من أجل الديمقراطية، وهو مجموعة تطوّعية من الخبراء القانونيين الإسرائيليين. فقد عبّر المنتدى عن ذلك في تقرير نشره في آذار/مارس 2023، واستعرض فيه كيف أُخضِعَت الإدارة المدنية في الضفة الغربية المحتلّة، عبر اتفاق حكومي لتقاسم السلطة، للوزير الإضافي في وزارة الدفاع الإسرائيلية، أي بتسلئيل سموتريتش. هذه الخطوة تمثّل قطيعةً مع الماضي، حينما كانت الضفة الغربية تخضع لحكم الجيش الإسرائيلي في ظلّ احتلال عدائي، لا لسلطة الحكومة الإسرائيلية.
ويرى أساتذة القانون هؤلاء أن الاتفاق، من خلال وضعه إدارة الضفة الغربية في يدَي وزيرٍ في الحكومة، “يفاقم الخلافات القائمة أصلًا بين الإسرائيليين والفلسطينيين القاطنين في الضفة الغربية، في ما يتعلّق بالأُطر القانونية والقانون الساري الذي يحكمهم، ويزيد شدّة التمييز بين الشعبَين. إن الاتفاق إجراء ٌمُعلَن ورسمي يؤكّد صحّة الادّعاءات بأن إسرائيل تمارس الفصل العنصري المحظور بموجب القانون الدولي”. وقد توصّل آخرون أيضًا إلى الخلاصة نفسها، بمَن فيهم منظمة العفو الدولية، ومنظمة هيومن رايتس ووتش، والمقرّرة الخاصة للأمم المتحدة المعنيّة بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلّة منذ العام 1967.
لقد لقّنت غزة الإسرائيليين دروسًا عدّة في ما يتعلّق بالتعامل مع الشعب الفلسطيني. أولًا، عندما يُنظَر إلى إسرائيل على أنها ضحية، لا يتردّد المجتمع الدولي في السماح لها بانتهاك القانون الدولي، وفي هذه الحالة ارتكاب جرائم الحرب، بما في ذلك العقاب الجماعي. وثانيًا، يمكن للمبادرات الإنسانية أن تشكّل بسهولة تمويهًا لأهدافٍ وخيمة أكثر. فإذا وافقت مصر على إقامة ممرٍّ إنساني للسماح للفلسطينيين باللجوء إلى سيناء، لكان ذلك ربما أتاح لإسرائيل فرصة إغلاق الباب أمامهم ومنع عودتهم إلى القطاع. لهذا السبب رفض المصريون منذ البداية فكرة الممرّ الإنساني.
أما ثالث هذه العبر فهو أن يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر شكّل في نظر الكثير من الإسرائيليين تهديدًا وجوديًا لدولتهم (وهو ما لم ينكره أعداؤهم قطّ)، ما دفعهم ليكونوا أشدّ تصميمًا على اتّخاذ إجراءات متطرّفة وعنيفة بحقّ الفلسطينيين. ومجرّد أننا لم نرَ إلا القليل من الاستنكار بعد خمسة أسابيع من القصف على غزة، حيث قُتِل ما يقرب من 15000 إلى 20000 شخص، الكثير منهم من الأطفال، يُظهِر كم يمكن للخوف أن يدفع الناس إلى الموافقة على أفعال جديرة بالإدانة.
إنه لأمرٌ طبيعي إذًا أن تفكّر إسرائيل بهذه الطريقة. لقد بات الإسرائيليون في مأزق نتيجة انزلاق الناخبين نحو يمين الطيف السياسي، وتطرّف حكومة نتنياهو، وتسهيل الولايات المتحدة للسياسات الإسرائيلية الأكثر إثارةً للجدل. وبات الشغل الشاغل لإسرائيل على ما يبدو حرمان ملايين الفلسطينيين الخاضعين لسيطرتها من حقوقهم، وذلك عبر رفضها النظر في إقامة دولة فلسطينية، وتقويضها السلطة الفلسطينية، ودعمها الأنشطة غير القانونية للمستوطنين اليهود في الأراضي المحتلّة، فضلًا عن تضييقها الخناق على غزة، ودفعها الفلسطينيين إلى جيوب صغيرة، تتقلّص أكثر فأكثر، في الضفة الغربية وراهنًا في غزة.
بعبارة أخرى، يتعيّن على الإسرائيليين، وهم يحاولون اختيار أي مسار يسلكون، بين التطهير العرقي أم الإبقاء ببساطة على نظام الأبرتهايد، أن يفكّروا في ما إذا كانوا يريدون ترسيخ نظرة أعدادٍ متزايدة من الناس في مختلف أنحاء العالم إلى إسرائيل على أنها دولة منبوذة. قد تكون الإجابة نعم، ولكن أيّ أمنٍ يتحقق من ذلك، وإلى متى؟ فخلال العقود الأخيرة، عزّز أعداء إسرائيل استراتيجياتهم وترسانتهم من الأسلحة، فيما ازدادت عزلة الولايات المتحدة، الحليف الأقوى لإسرائيل. إن رفض القادة الإسرائيليين منح الفلسطينيين دولة خاصة بهم، حتى لو كانت مشوّهة ومحاصَرة من جيش تعسّفي وتسيطر إسرائيل على منافذها كافة، ومواردها كافة، وأرواح سكانها كافة، هو أمرٌ لم يَعُد مقبولًا للأجيال الشابة في جميع أنحاء العالم.
لا بدّ أن الإسرائيليين يشعرون بأنهم مُحاصَرون، ويواجه كثرٌ منهم موجة متصاعدة من معاداة السامية. ونظرًا إلى الأعداد الكبيرة من اليهود في إسرائيل والخارج ممَّن يرفضون هذا المنطق العديم الرحمة للاحتلال الإسرائيلي، لا تُعدّ معاداة السامية فقط ردَّ فعل بغيضًا على ما تفعله إسرائيل، بل هي أيضًا استجابة غبيّة بشكل خاص. وإذ تقف إسرائيل أمام خيارَين هما السلام العادل مع الفلسطينيين، أو التطهير العرقي، ينبغي إقناعها بانتقاء الخيار الأول. ثمّة مَن يرفضون السلام في إسرائيل، وكثرٌ منهم في السلطة، ولهذا السبب تحديدًا يجب على أولئك الذين يبحثون عن حلّ، في العالم العربي ومناطق أخرى، توحيد قضيتهم مع اليهود الساعين إلى الأمر نفسه في مختلف أنحاء العالم.
عندما تهدأ أخيرًا ردود الفعل على أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر، سيدرك كثرٌ ما يجب أن يكون واضحًا الآن. فما من خيار أمام اليهود والعرب سوى التعايش، إذ لن ينجح أيٌّ من الشعبَين أبدًا في القضاء على الآخر، حتى وإن كان سعيهما إلى ذلك يحطّ من قدْرِهما معًا.