أثار صمت بشار الأسد على مدى أكثر من شهر بعد الهجوم الإسرائيلي على غزة الذي أعقب عملية طوفان الأقصى في السابع من شهر تشرين الأول/أكتوبر الفائت، الكثير من الأسئلة والتعليقات. وهو صمت يتكامل إلى حد كبير مع ما تحدث به الأسد نفسه في شهر آب/أغسطس المنصرم، حول قيادة حماس، ووصفه لسلوكها بمزيج من الغدر والنفاق.
فالأسد هو في نهاية المطاف حصيلة نظام تاجر بالقضية الفلسطينية على مدى سبعة عقود، خاصة في مرحلة صعود نجم والده كقائد للقوة الجوية، ثم وزيراً للدفاع إلى حين انقلابه على رفاقه في الحزب والجيش في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1970.
ولعله من المناسب أن نلفت الانتباه في هذا السياق إلى مدى تحكّم حافظ الأسد بالورقة الفلسطينية، وتطاوله على القيادات الفلسطينية المعروفة نفسها، حتى أنه تمكّن من إحداث انشقاقات ضمن الفصائل الفلسطينية الأساسية بما فيها فتح نفسها، وقام بتشكيل أو إعادة هيكلة فصائل مرتبطة عضوياً بأجهزته المخابراتية؛ ويُشار هنا على سبيل المثال لا الحصر إلى منظمة الصاعقة، والجبهة الشعبية-القيادة العامة.
أما حكاية حماس مع السلطة الأسدية، فهي تتمثل في توصّل قيادة الحركة إلى قرار بشأن ضرورة الخروج من سوريا مع بداية الثورة السورية في آذار/مارس عام 2011؛ وذلك خشية الإدانة من الوسط السوري العربي السني تحديداً، وهو مكون يمثل غالبية المجتمع السوري من دون أي جدال.
لقد اتخذت قيادة حماس قرارها بالخروج رغم وجود بعض الأصوات التي كانت تطالب بأهمية البقاء في دمشق التي كانت تعتبرها الجوهرة التي لا يمكن الاستغناء عنها في «عقد مشروع المقاومة» التي انضوت الحركة تحت لوائه؛ وكان أصحاب هذه الأصوات يذكّرون أقرانهم في قيادة حماس بالدعم الكبير الذي قدمته لهم سلطة الأسد مقابل بقائهم في خندقها إلى جانبها.
فمنذ العملية النوعية التي نفذتها الفصائل المسلحة التابعة لكل من حماس وحركة الجهاد الإسلامي في غلاف غزة ضد المستوطنات والقواعد الإسرائيلية والمدنيين المشاركين في حفلة موسيقية تزامنت مع الاحتفال بعيد الغفران اليهودي؛ وما تبع ذلك من هجوم إسرائيلي واسع بمختلف أنواع الأسلحة على المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة بغية إرغامهم على ترك منازلهم، والتوجه نحو الجنوب، وهو الهجوم الذي أسفر حتى الآن عن مقتل أكثر من 14 ألفاً من المدنيين، معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى؛ وذلك في سياق عقوبة جماعية قاسية فرضتها السلطات الإسرائيلية بذريعة الانتقام من هجوم حماس.
لم نسمع تصريحاً أو تعليقاً واضحاً جاداً، ولم تكن هناك أي إدانة صريحة من جانب الأسد للهجوم الإسرائيلي الانتقامي المتوحش الواسع النطاق على الاجتماع والعمران في غزة؛ وقد أثار هذا الأمر انتباه الكثيرين، وكان مجالاً لتعليقات واسعة، وتفسيرات متباينة.
ومع تبلور ملامح موقف النظام الإيراني الذي آثر، كما كان متوقعاً، مصالحه بالدرجة الأولى، حتى ولو اقتضى ذلك عملياً التضحية بحماس عبر عملية تمويهية شعاراتية كبرى، لا تستطيع أن تقدم أجوبة محددة لضحايا الهجوم الإسرائيلي المتوحش على الاجتماع والعمران المدنيين في غزة وذويهم. مع اتضاح ملامح الموقف الإيراني ظهر للعيان أن موقف سلطة الأسد مما حدث، ويحدث، في غزة لم يتجاوز هو الآخر حدود مصالح السلطة المعنية.
فالأسد يدرك أن المجتمع الدولي الذي غضّ النظر عن دوره في قتل نحو مليون سوري، وتسبّبه في تشريد وتهجير نحو 14 مليونا في الداخل الوطني السوري والجوار الإقليمي، إلى جانب تغييب مئات الآلاف؛ لن يشغل نفسه كثيراً بمقتل 20 ألف أو حتى 50 ألفا من الفلسطينيين، أو تشريد وتهجير نحو مليون أو مليونين من الفلسطينيين. كما أنه يعرف تماماً أن الدول الكبرى التي غضت النظر عن دخول القوات الإيرانية مع أذرعها الميليشياوية المذهبية إلى سوريا لتقاتل إلى جانب سلطته ضد الشعب السوري، قادرة، إذا شاءت، على تغيير الموازين بالتفاهم مع الجانب الإسرائيلي الذي كان وما زال له الكلمة الأولى والأخيرة في تحديد مصير السلطة المعنية. لذلك كله، وربما لغيره أيضاً، آثر الحاكم بأمر غيره وأركان سلطته اعتماد اسلوب رفع العتب، والاكتفاء بالإدانة الشعاراتية للهجوم الإسرائيلي على غزة، والاكتفاء بالدور الأقرب إلى مهمة المراقب المحايد، الأمر الذي أفسح المجال أمام النظام الإيراني ليقدّم نفسه ولي أمر «محور المقاومة» الذي يشمل أيضاً الفصائل العراقية المرتبطة عضويا بالنظام المذكور، رغم حصولها على المال والسلاح من الخزينة العراقية، وذلك بموجب الهرطقة التي اعتبرتها جزءاً من المنظومة الدفاعية الوطنية العراقية.
وقد كان حرص النظام الإيراني على استغلال الفرصة واضحاً لافتاً في القمة العربية الإسلامية المشتركة التي انعقدت في الرياض بتاريخ 11 تشرين الثاني/نوفمبر الحالي. إذ كان الرئيس الإيراني من الشخصيات الأساسية في المؤتمر المذكور، وأجرى سلسلة لقاءات مع القادة العرب والمسلمين، ووافق على بيان المؤتمر المتناقض بصورة بينة، لا غبار عليها، مع ميثاق حماس، وشعارات محور المقاومة الثوروية جداً، وذلك على أمل أن يكون له دور علني واضح في المفاوضات الخاصة باطلاق سراح الأسرى، والتوصل إلى صيغة ما لوقف إطلاق النار، وهو الأمر الذي لم يتحقق للنظام الإيراني، بعد نجاح المبادرة القطرية بالشراكة مع مصر.
هذا في حين أن الأسد كان يتصرف في المؤتمر المذكور من موقع من لا يعنيه الأمر تماماً، وذلك على عكس والده الذي كان يتدخل في التفاصيل، ويحرص على الإمساك بجميع الأوراق. أما خطابه الإنشائي كالعادة، فقد كان في واقع الحالي إدانة له قبل أن يكون إدانة لإسرائيل، وذلك جرّاء ما فعله بالشعب السوري على مدى 12 عاما الأخيرة. فجرائمه التي استهدفت السوريين تتجاوز بكثير تلك التي أقدمت عليها إسرائيل ضد الفلسطينيين منذ عام 1948 وإلى يومنا هذا، وعلى جميع المستويات.
وقد بدا واضحاً أن دور سلطة آل الأسد في الموضوع الفلسطيني أصبح هامشيا من خلال مؤشرات عدة، من بينها إبعاد هذه السلطة عن اللجنة العربية الإسلامية المكلفة بإجراء الاتصالات مع الدول الكبرى المؤثرة في مجلس الأمن من أجل الدفع نحو وقف إطلاق نار شامل في غزة، والعمل على معالجة التفصيلات عبر الحوارات والتفاهمات. وهو الأمر تحقق بصورة أولية عبر هدنة مؤقتة قابلة للتمديد وإطلاق سراح مجموعة من الأسرى من قبل الطرفين، وذلك بفضل وساطة قطرية نشطة، وبشراكة مصرية وأمريكية، وموافقة الطرفين المعنيين بالدرجة الأولى: إسرائيل وحماس.
فسوريا، كما هو معروف، دولة أساسية من دول «الطوق» إلى جانب كل من مصر والأردن؛ ولكن دورها في الموضوع الفلسطيني قد بات هامشياً في عهد الأسد الذي سلم مقادير الأمور في سوريا إلى نظام ولي الفقيه، وآثر التمّسك بكرسي سلطة وهمية في بلد محطم على مستوى البشر والحجر والشجر. بلد ممزّق على صعيد الجغرافيا والديموغرافيا بين مناطق نفوذ في انتظار توافق الإرادات الدولية والإقليمية، وفق المعادلات الجديدة الخاصة بضبط الأمور في المنطقة، وهي المعادلات التي لم تكتمل ولم تضبط بعد.
وربما يفسّر هذا الموقف من جانب آخر عبر عدم شعور الأسد بضرورة الالتزام ببيان الموقف المعبر المساند للشعب الفلسطيني، أمام من تبقى من السوريين في دائرة سلطته التي تضيق يوماً بعد يوم، حتى في المناطق التي كانت، أو ما زالت خاضعة لهيمنة أجهزته من الناحيتين الفعلية العلنية، والضمنية المستترة. فالانتفاضة التي انطلقت في السويداء منذ أكثر من 4 أشهر، والاعتصامات والمظاهرات التي تجري من حين إلى آخر في محافظة درعا؛ وحتى ارتفاع بعض الأصوات الناقدة للسلطة الأسدية في منطقة الساحل المعروفة بولائها التقليدي للسلطة المعنية؛ كل ذلك، وغيره، من المؤشرات الملموسة التي تؤكد تآكل رصيد السلطة المذكورة في المناطق التي كانت، أو ما زالت، تعتبر من المناطق الخاضعة لها. وهذا فحواه أن الهم الأساس لهذه السلطة يتحمور أصلاً حول كيفية البقاء والاستمرار بأي شكل من الأشكال. أما موضوع المتاجرة الاستراتيجية بالقضية الفلسطينية، فيبدو أنه قد غدا من اختصاص المعلم أو الأخ الكبير في «محور المقاومة»، فهو الذي يوزع الأدوار، ويُسند المهام، ليكون هو في نهاية المطاف المتحدث باسم الجميع على طاولة المفاوضات. أما الهدف من العملية برمتها، فهو يتجسد في الجهود الساعية من أجل تأمين المصالح، واستمراريتها. وذلك عبر تطبيع العلاقات مع دول مجلس التعاون الخليجي، لا سيما السعودية؛ والانتقال بهذه الطريقة أو تلك من مرحلة التفاهمات غير المباشرة إلى تفاهمات وتوافقات مباشرة مع الدول الغربية، ومع الولايات المتحدة الأمريكية تحديداً.
أما بالنسبة إلى الأسد، فالعلومات والمؤشرات المتوفرة حتى الآن، تبين أن مسألة إبعاده عن السلطة ما زالت خارج دائرة الأولويات الأمريكية الإسرائيلية، وذلك مقابل استمراره في الالتزام بشروط الصفقة التي فتحت المجال أمامه ليكون وارث الجمهورية.