منذ نجاح الثورة الإسلامية في إيران والإطاحة بنظام الشاه في عام 1979، أعاد النظام الإيراني ترتيب أولويات الجمهورية الإيرانية الجديدة اعتماداً علي توجهاته الدينية، التي رفعت شعار نصرة المستضعفين، ومعاداة الغرب، لاسيما الولايات المتحدة، بوصفها “الشيطان الأكبر”، ومن ورائها إسرائيل بوصفها “الشيطان الأصغر”.
وفي هذا الإطار؛ جاءت القضية الفلسطينية في مقدمة اهتمامات أجندة السياسة الخارجية للجمهورية الإيرانية، التي عمدت إلى اعتماد خطاب مختلف لتناول القضية الفلسطينية يحتوي على ثنائية دعم المقاومة الفلسطينية في مواجهة الممارسات الإسرائيلية، والعداء المطلق لإسرائيل. فيما جاء قرار الإمام الخميني في أغسطس 1979 بتخصيص يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان من كل عام، ليكون يوماً لنصرة القدس ومناهضة إسرائيل في إيران، وليكون رمزاً لتحول القضية الفلسطينية إلى محدد مهم في سياسات إيران الخارجية، التي تحاول استغلالها بصفة مستمرة لتعزيز حضورها في المنطقة.
ومع تكرار المواجهات بين حركات المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، استطاعت إيران أن تكون حاضرة في خضم هذه المواجهات من خلال خطابات داعمة للمقاومة، وتظاهرات ينظمها عناصر الباسيج لتجوب الشوارع الإيرانية معبرة عن دعم الشعب الإيراني للقضية الفلسطينية.
غير أن الحضور الإيراني التقليدي في مثل هذه الظروف قد بدا مختلفاً في عملية “طوفان الأقصى” وما تلاه من رد فعل إسرائيلي عنيف على قطاع غزة، من خلال العملية العسكرية الواسعة “السيوف الحديدية” على القطاع، حيث سارعت إيران إلى الإعلان عن دعمها الرسمي، ومباركتها لنجاح عملية المقاومة الفلسطينية في استهداف مستوطنات إسرائيلية داخل غلاف قطاع غزة، معتبرة أن معادلة الصراع قد اختلفت لصالح المقاومة التي باتت ذات جاهزية أكثر من ذي قبل.
لكن هذه المرة وجدت إيران نفسها في مأزق حرج، يضعها بين خيار المحافظة على ما استطاعت تحقيقه من مكاسب سياسية مع الولايات المتحدة الأمريكية، محدثة من خلال هذه المكاسب اختراقاً مهماً في ملف أموالها المجمدة في الخارج بفعل العقوبات الأمريكية عليها، وبين المحافظة على موقفها الداعم بالمال والسلاح لحركات المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حركة حماس، وهو ما بدا في تصريحات قادة الحركة أثناء المواجهات مع إسرائيل في مايو 2021، التي قدمت لطهران الشكر في أكثر من تصريح على الدعم بالمال والسلاح.
تغيير لافت
في ظل ما تمثله القضية الفلسطينية من أهمية للنظام الإيراني، كونها رأس الحربة في استراتيجية التقرب وخلق مساحات من التفاهم والتلاقي مع الدول العربية والإسلامية، من ناحية، ومنطلقا لمواجهة مبطنة مع إسرائيل، من ناحية أخرى، وكورقة ضغط في مواجهة الغرب والولايات المتحدة، من ناحية ثالثة، ومحور مهم من محاور التأثير على الرأي العام الداخلي، من ناحية رابعة؛ لم يكن أمام إيران رفاهية التخلي عن دورها وصورتها الذهنية التي كونتها لسنوات كداعم لفلسطين، وعدو صرف لإسرائيل، وبالتالي سعت إلى الموازنة بين مكتسباتها المحققة، ومكاسبها المتوقعة من موقفها الداعم للقضية الفلسطينية.
ففور بدء إسرائيل في تنفيذ عمليتها العسكرية الموسعة في قطاع غزة للرد على هجوم حركة حماس في السابع من أكتوبر، أجرت إيران تغييراً واضحاً في كيفية تناولها لدعم المقاومة الفلسطينية في مواجهة إسرائيل، حيث سارع المسئولون الإيرانيون إلى التأكيد على أن استمرار العملية العسكرية على قطاع غزة سيؤدي حتماً إلى اتساع الصراع، ودخول أطراف أخرى فيه، فيما بدأت الخارجية الإيرانية حراكاً دبلوماسياً غير مسبوق، ولعل أبرز ملامح هذا التغير تتضح فيما يلي:
1- عدم الاكتفاء بإعلان دعم المقاومة والتنديد بالاعتداء الإسرائيلي على قطاع غزة: صعّد المسئولون الإيرانيون من تصريحاتهم حيال العملية العسكرية على القطاع، مهددين بإمكانية توسيع الصراع ليشمل أطرافاً إقليمية أخرى، في تلويح مبطن بوكلاء إيران في المنطقة وإمكانية انخراطهم في الحرب وبالتالي توسعها إقليمياً.
وعلى الرغم من تأكيدات إيران على أن عملية “طوفان الأقصى” كانت فلسطينية خالصة، وأنها لم تنخرط بأي شكل في التخطيط والإعداد للعملية، وذلك رداً على اتهامات إسرائيلية بأن إيران قد خططت مع حركة حماس للعملية في بيروت أثناء اجتماع جمع بين ممثلي الحركة وضباط من الحرس الثوري الإيراني، فإن انخراط وكلاء إيران في الحرب لم يتأخر كثيراً، حيث أعلنت حركات المقاومة الإسلامية في العراق، استهدافها الأول لقاعدة أمريكية في العراق هي قاعدة “عين الأسد” الجوية في غرب العراق في 17 أكتوبر الماضي، وكذلك استهداف ثكنة “التنف” بسوريا في 19 من الشهر نفسه، ليتوالى بعد ذلك استهداف هذه الجماعات لمواقع أمريكية في العراق وسوريا، بلغت حسب التقديرات الأمريكية حوالي 64 هجوماً، كان آخرها هجوم نفذته حركات المقاومة الإسلامية في العراق في 21 نوفمبر الجاري، على قاعدة أمريكية من خلال طائرات مسيرة، في الشدادي جنوب مدينة الحسكة السورية.
إلى جانب المناوشات التي بدأت بين حزب الله اللبناني وإسرائيل في الثامن من أكتوبر الماضي، عندما نفذ الحزب هجوماً على مواقع إسرائيلية في منطقة مزارع شبعا، ردت عليها القوات الإسرائيلية باستهداف تلال كفر شوبا، لتتوسع بذلك المواجهات بينهما، ليؤكد الأمين العام للحزب حسن نصر الله في خطابه الأول منذ عملية “طوفان الأقصى” على أن حديثه ليس إيذاناً بدخوله على خط الحرب، لأن الحزب دخلها بالفعل منذ الثامن من أكتوبر –على حد تعبيره.
يضاف إلى ذلك مبادرة جماعة أنصار الله الحوثي بالتهديد بدخول الحرب واستهداف مواقع إسرائيلية في العاشر من أكتوبر، وذلك على لسان المتحدث باسم الجماعة يحيى سريع، نفذته الجماعة في الثاني عشر من الشهر نفسه، من خلال صواريخ مسيرة، تصدت لها القوات البحرية الأمريكية المتواجدة في البحر الأحمر، وعقب محاولات عدة استهدفت الجماعة مدينة إيلات بصواريخ باليستية في 9 نوفمبر الجاري، فضلاً عن احتجاز سفينة شحن إسرائيلية واقتيادها إلى ميناء غربي اليمن في 19 من الشهر نفسه.
2- تحركات دبلوماسية على أكثر من صعيد: منذ بدء العملية العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة، قام وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان بعدد من الزيارات إلى دول المنطقة، بهدف بحث تطور الأوضاع في قطاع غزة. كانت الزيارة الأولى لقطر، حيث التقى هناك قادة حركة حماس، كما قام بجولة أولى لكل من العراق وسوريا ولبنان أجراها في 12 أكتوبر الماضي. تبعها بجولة أخرى إلى قطر وتركيا في 31 من الشهر نفسه، وذلك في أعقاب إعلان أنقرة رفضها تصنيف حماس حركة إرهابية واعتبرتها حركة مقاومة، وكانت آخر جولاته في 22 نوفمبر الجاري عندما زار كلاً من لبنان وقطر.
وأثناء هذه الجولات شدد وزير الخارجية الإيراني على ضرورة وقف العملية العسكرية على غزة، محذراً من فتح جبهات جديدة للحرب الدائرة على قطاع غزة، وداعياً إلى عقد قمة إسلامية. وفور الإعلان عن التوصل لاتفاق هدنة إنسانية بين حركة حماس وإسرائيل توجه وزير الخارجية الإيراني إلى لبنان بهدف عقد عدة لقاءات مع مسئولين لبنانيين في مقدمتهم الأمين العام لحزب الله اللبناني.
وقد هدفت إيران من هذه الجولات إلقاء الضوء مجدداً على التحالف غير الرسمي الذي أنشأته وأسمته بـ”محور المقاومة”، وأعادته إلى الواجهة من خلال التلويح بدور ممكن له في هذه الحرب، وهو ما أكد عليه أيضاً الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي من خلال خطابه في مؤتمر القمة العربية الإسلامية غير العادية بالمملكة العربية السعودية، والذي أثار العديد من ردود الفعل، حيث اتسمت كلمة الرئيس الإيراني بالدعم المطلق لحركة حماس والمقاومة الفلسطينية بشكل عام، وجه فيها رئيسي للمرة الأولى حديثه بشكل مباشر إلى الفلسطينيين لاسيما في قطاع غزة، مرتدياً الكوفية الفلسطينية، في محاولة لاستمالة الرأي العام الفلسطيني، مما أضفى علي الخطاب “طابعاً عاطفياً”، إلى جانب طابعه الحماسي، المعتمد بشكل كبير على آيات من القرآن الكريم، للتدليل على مرتكزات الموقف الإيراني من القضية الفلسطينية برمتها، وتحقيق الهدف الأبرز من وراء كل ذلك وهو التأكيد على الهوية الدينية للنظام الإيراني، تلك الهوية التي يراها النظام أحد أهم أسباب تميزه إقليمياً وعالمياً.
الحفاظ على المكتسبات
على الرغم من التحركات الدبلوماسية المكثفة للخارجية الإيرانية، فإن أعضاء في البرلمان الإيراني قد قدموا طلباً باستجواب وزير الخارجية الإيراني على خلفية ما اعتبروه تقصيراً بشأن الضغط على روسيا والصين للتدخل بقوة لوقف الحرب على قطاع غزة، وهو ما أثار ردود فعل متناقضة بين مؤيد لطلب الاستجواب، ورافض له بحجة أن الاستجواب في هذا التوقيت سيعمل على إضعاف الجهاز الدبلوماسي وشغله عن القيام بجهوده في إطار السعى لوقف الحرب على قطاع غزة.
فيما يرى المراقبون أن تكريس إيران خطابها السياسي وتحركها الدبلوماسي المكثف لصالح القضية الفلسطينية والحرب على غزة، إنما يأتي في إطار الضغوط المتبادلة بينها وبين إسرائيل والولايات المتحدة، وأنها على الأرجح تأتي كمحاولات لرفع الحرج عن النظام الإيراني، كونه لم يتدخل بشكل مباشر حتى الآن لصالح حركة حماس وباقي فصائل المقاومة الفلسطينية، حرصاً منه على المكاسب السياسية التي حققتها خلال الأشهر الماضية مع الولايات المتحدة والتي انتهت بصفقة لتبادل الأسرى واتفاق تم بموجبه فك تجميد الأرصدة الإيرانية في الخارج مع العراق وكوريا الجنوبية، لاسيما وأن الأموال الإيرانية لدى البنوك القطرية لازالت عرضة للتجميد مرة أخرى من قبل الولايات المتحدة، التي تتعرض إدارتها لضغوط متزايدة من قبل الكونجرس لمعاقبة إيران على الهجوم على إسرائيل الذي نفذته حركة حماس على مستوطنات غلاف غزة.
ومع التسليم بأن الحرب المستمرة على قطاع غزة يمكن أن تتغير حساباتها في أي وقت، فإن اتخاذ إيران قراراً بتنحية مكاسبها السياسية مع الولايات المتحدة جانباً وانخراطها بشكل مباشر في الحرب، يظل مرهوناً بإقدام إسرائيل والولايات المتحدة على توجيه هجوم مباشر يستهدف الأراضي الإيرانية، إذ أنها لازالت قادرة حتى الآن على إدارة جهودها وحضورها في تطورات الوضع في غزة دون إدانة غربية وأمريكية رسمية مبنية على دليل بتورطها في عملية “طوفان الأقصى” أو كونها سبباً في قدرة الفصائل الفلسطينية على الاستمرار في المقاومة في غزة رغم العمليات العسكرية الموسعة على القطاع.