في كلمته في قمَّة العشرين التي شاركَ بها عن بُعد، قالَ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان: إنَّ بلاده “مستعدة للاضطلاع بالمسؤولية مع دول أخرى في المنظومة الأمنية التي ستؤسَّس في غزة، بما في ذلك أن تكون دولة ضامنة”. وبقدر ما كان التصريح غريبًا ولافتًا، فقد أثار أسئلة إضافية حول تصوّر أنقرة للحل في غزة.
الموقف
منذ بداية معركة “طوفان الأقصى” تدرّج الموقف التركي وتبدل جزئيًا على مستوى الخطاب تحديدًا. إذ بعد الأيام الأولى التي تأثر فيها موقف أنقرة بالمفاجأة التي أحدثتها عملية كتائب القسام- وتبدّى ذلك في مفردات الخطاب الرسمي الذي ركّز على التنديد بـ “استهداف المدنيين” والمطالبة بإطلاق سراح “الرهائن” لدى حماس فورًا دون قيد أو شرط، إضافة لعرض الوساطة بين الجانبين- حملت الأسابيع اللاحقة موقفًا مختلفًا.
فقد دفعت المجازرُ “الإسرائيلية” المتكررة ضد المدنيين في غزة، والرأي العام الداخلي المتعاطف بشدة مع الفلسطينيين، وضغوط المعارضة التركية، والحشد العسكري الأميركي في المنطقة، أنقرةَ لخطاب مرتفع السقف ضد الاحتلال.
في تحدٍّ واضح لدولة الاحتلال وداعميها الغربيين، أعلن أردوغان عن أن حماس “ليست منظمة إرهابية”، مقابل ترديده أكثر من مرة أن “إسرائيل دولة إرهاب”، معلنًا عن وقف التعامل مع نتنياهو الذي بشّره بنهاية مسيرته السياسية.
إضافة لذلك استدعت أنقرة سفيرها في تل أبيب للتشاور، وأرسلت عددًا من القوافل الإغاثية لمصر بانتظار فتح معبر رفح، واستقبلت عددًا من مرضى السرطان في غزة للتداوي في مستشفياتها.
في برلين، وفي مؤتمر صحفي مشترك مع المستشار الألماني، هاجم أردوغان ازدواجية المعايير الغربية وعقدة النقص الألمانية- الغربية تجاه “إسرائيل”؛ بسبب الهولوكوست قائلًا: إن من “يشعر بالمديونية لإسرائيل لن يستطيع الحديث بحرّية”، عكس تركيا التي تتحدث بكل جرأة.
إعلان
بعد لقائه مع نظيره الأميركي، وضّح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أنّ ثَمة خلافين أساسيين بين بلاده والولايات المتحدة الأميركية بخصوص الحرب على غزة؛ الأول: مطالبة تركيا بوقف فوري ودائم لإطلاق النار، والثاني: رفضها الحديث في ترتيبات ما بعد الحرب أو ما بعد حماس.
الدول الضامنة
بَيدَ أن تصريح الرئيس التركي المشار له ضمن خطابه أمام قمة العشرين يبدو متناقضًا مع هذا الطرح، إذ أكد على استعداد بلاده للانخراط في البيئة أو المنظومة الأمنية التي ستنشأ في قطاع غزة، ما يحيل في النهاية إلى معنى الحديث عما بعد الحرب أو ربما بعد حماس.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يدعو فيها الرئيس التركي لتدخل خارجي في القضية الفلسطينية. في مايو/ أيار 2018، وردًا على وحشية قوات الاحتلال في التعامل مع مسيرات العودة، قال أردوغان: إنه من الضروري “تأمين الحماية للشعب الفلسطيني، بما في ذلك إرسال قوة حفظ سلام دولية”.
مع هذه الحرب، قدّمت أنقرة خطابًا أكثر تحديدًا معلنة استعدادها للتواجد على الأرض في غزة، في إطار مسار سياسي يرتكز على حل الدولتين، ولكن يشمل وجود دول ضامنة للطرفين، تكون فيه تركيا ضامنة للفلسطينيين.
عشية إعلان الهدنة الإنسانية في قطاع غزة، صرح أردوغان باستعداد بلاده ورغبتها في أن تكون جزءًا من “البنية الأمنية في غزة بما في ذلك أن تكون ضمن الدول الضامنة”، وهو تصريح مختلف نوعًا ما عن التصريحات المتكررة بخصوص فكرة الدول الضامنة
ضمن دوافع أنقرة لهذا الطرح؛ رغبتها في أن تلعب دورًا محوريًا في قضية مركزية في الإقليم مثل القضية الفلسطينية، أبعد وأعمق من الدور الإغاثي وحتى السياسي، وأن يكون لها إسهام مباشر دون المواجهة المباشرة مع الاحتلال وداعميه، ولا سيما الولايات المتحدة، وهي ترى أمثلة قائمة لهذا النموذج ناجحة نسبيًا، مثل: قبرص، وجنوب القوقاز، فضلًا عن أن الهدوء والاستقرار شرطان لإنجاح مشاريع الغاز الطبيعي في شرق المتوسط التي تعول عليها كثيرًا.
إعلان
يقوم التصور التركي على أن مجرد وقف الحرب الحالية لن يكون حلًا مستدامًا، وستكون هناك حالات تصعيد وحروب مستقبلية، ولذلك فهناك حاجة لتدخل الأطراف الدولية كدول ضامنة لكلا الطرفين للحيلولة دون ذلك؛ استلهامًا من نماذج قائمة وتشارك بها تركيا، مثل: جنوب القوقاز بين أرمينيا وأذربيجان، وجزيرة قبرص، وكذلك سوريا.
بَيدَ أنه من الصعب أن نتحدث عن مشروع متكامل أو خطة تفصيلية، إذ لم يقدم الجانب التركي أيَّ تفاصيل حول فكرة الدول الضامنة أكثر مما سبق ذكره. وزير الخارجية نفسه قال في إحدى المناسبات: إن تركيا تناقش هذه الفكرة مع عدد من الأطراف “لإنضاجها”، وقد أشار أردوغان إلى أن الفكرة تحظى بتفهم متزايد مع مرور الوقت من عدة أطراف.
وَفق هذا التصور، وعشية إعلان الهدنة الإنسانية في قطاع غزة، صرح أردوغان باستعداد بلاده ورغبتها في أن تكون جزءًا من “البنية الأمنية في غزة بما في ذلك أن تكون ضمن الدول الضامنة”، وهو تصريح مختلف نوعًا ما عن التصريحات المتكررة بخصوص فكرة الدول الضامنة. ليس واضحًا حتى كتابة هذه السطور ما الذي قصده الرئيس التركي بحديثه عن “البنية الأمنية” ما بعد الحرب، ولكن يمكن نقاش الفكرة من عدة زوايا.
نقاش
ثمة مشكلة أساسية في هذا الطرح، وهي الانخراط في نقاش “ما بعد الحرب” أو “ما بعد حماس”، وهذا ما أعلنت أنقرة أنها ترفضه بحزم. كما أن الحديث عن “بنية أمنية” وليس عن إطار سياسي يمثل قلقًا بالنسبة للفلسطينيين، وتحديدًا المقاومة، لا سيما أنّ الأمر يطرح للنقاش مع قوى دولية وإقليمية وليس مع الفلسطينيين أنفسهم مثلًا.
المشكلة الثانية في الطرح؛ أنه يغفل الفروق الهائلة بين القضية الفلسطينية والقضايا أو النزاعات التي كان من بين بنود حلها فكرة الدول الضامنة، مثل: الصراع بين أرمينيا وأذربيجان، والقضية القبرصية.
إعلان
كما أنّ هناك تحديًا بارزًا في الطرح التركي، وهو افتقاره حتى اللحظة فيما هو معلن لأي بنية متماسكة، أو خطة عمل، أو خطوات ملموسة تجعلنا نتحدث عن مشروع متكامل أو جاهز، إذ يبدو الطرح فكرةً أولية متروكة للوقت والتطورات والتفاهمات مع مختلف الأطراف، ولعل في ذلك مشكلةً إضافية.
فالطرح الأوّلي يحمل معه أسئلة كثيرة لا إجابات واضحة عنها الآن، مثل: الشكل الذي سينفذ من خلاله، وما هي بالتحديد مهمة القوات التي ستتواجد على الأرض؟ وكيف ستكون علاقاتها مع كل من الاحتلال والفلسطينيين، وخصوصًا المقاومة؟ وماذا لو حصلت اعتداءات “إسرائيلية” على غزة كما هو متوقع؟ وهل سيكون هناك ردّ وما شكله؟ وماذا عن حق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال؟ وماذا لو حصلت عملية من المقاومة؟.. إلى غير ذلك من الأسئلة الجوهرية.
من جهة ثانية، تدرك أنقرة- كما غيرها من الأطراف- أنه ليس ثمة أساس أو أرضية لمسار سياسي في الوقت الحالي، وأن المنظومة الدولية والإقليمية العاجزة اليوم عن إقناع دولة الاحتلال بوقف المجازر أو الضغط عليها بهذا الاتجاه ستكون أعجز في المستقبل عن دفعها لمسار سياسي يحقق حل الدولتين الذي بات شبه مستحيل؛ بعد كل ما أقدم عليه الاحتلال.
وفي المحصلة، ما زالت فكرة الدول الضامنة التي طرحتها تركيا مقترحًا أوليًا جدًا دون مضمون واضح، ومعالم تفصيلية، وتفتقر لمناسبة خصوصية القضية الفلسطينية ووضع قطاع غزة.
فإذا ما أحسنا الظن، يمكن افتراض أن أنقرة تحاول استباق التطورات لإيجاد موطئ قدم لها في المستقبل، وتحديدًا إلى جانب الفلسطينيين، وهو ما تسبب بالفكرة غير الناضجة. غير ذلك، سيكون طرح الفكرة بهذه الطريقة- ومن الزاوية الأمنية – مقلقًا للمقاومة الفلسطينية؛ لأنه يتناغم ضمنًا مع فكرة النظام السياسي والأمني بعد حماس في غزة الذي تطرحه “إسرائيل” والولايات المتحدة منذ بداية الحرب.
إعلان
ولعل ذلك من أسباب بقاء المقترح- حتى لحظة كتابة هذه السطور- دون تعقيب من مختلِف الأطراف، ولا سيما الاحتلال والمقاومة الفلسطينية، وتحديدًا حركة حماس.