إن ما يحدث في غزة، وما سوف يحدث فيها وفي ما حولها، بعد انتهاء الملهاة الجديدة الإسرائيلية – الأميركية – الفلسطينية – العربية، يؤشر إلى أن العالم يحكمه مجانين، وأن الجماهير الأوروبية والأميركية التي تظاهرت في عواصم العالم الأخرى، ومن ضمنها يهود بقي فيهم شيء من آدمية، لكي تبكي على أطلال غزة وجثث نسائها وأطفالها وشبابها وشيوخها، ستخف وتهدأ وتنام من جديد، كما فعلت في كل حرائق الزمن الفلسطيني – الإسرائيلي – الأميركي – الإيراني السابقة.
أما الفاعلون الحقيقيون في غزة، ومن خلفهم السماسرة والوسطاء والمتمرسون في عقد الصفقات والمفاهمات والمقاسمات، فهم كانوا، وأصبحوا اليوم أكثر معرفة ويقينا بأن بروجهم وأسوارهم الحديدية العالية عصمتهم وتعصمهم من نار الجماهير الحامية.
وعن جماهيرنا العربية العريضة لا بد لنا أن نعترف اليوم بأنها، كما بدا ويبدو، أصبحت لا ترى في القتل الصهيوني والأميركي والإيراني والعربي والإسلامي شيئا يستحق الغضب، بعد أن كانت في الأزمنة الماضية تهب غاضبة، وتشعل ساحات الوطن العربي كله، إذا ما تجرأ شرطي إسرائيلي على صفع مواطن عربي، وتهتف بالثأر للكرامة العربية المهانة، “وامعتصماه”، ثم يتكدس شبابها أمام مكاتب التجنيد للتطوع لقتال المعتدي.
أما اليوم فالظاهر أن القوى الخفية الحاذقة العارفة كيف تُلاعب تلافيف أمخاخ جماهيرنا العريضة عرفت كيف تدجن هذه الجماهير، وكيف تقتل فيها الآدمية، إلى أن صارت الإعلانات المتلاحقة عن أعداد القتلى أمرا عابرا لا يستحق سوى غضب كلامي عابر، خائف متردد خجول، وهو أضعف الإيمان.
ربما تكون إيران فعلا هي الممول والمدبر للهجوم الأخير الذي قامت به حماس ضد مواقع إسرائيلية عسكرية ومدنية وأخذ أسرى ورهائن، ولكنها لم تكن في وارد دخولها بجيوشها أو بميليشيا حزب الله أو غيره مع إسرائيل وأميركا في مواجهة شاملة
إن غزة تشتعل. أطفالها ونساؤها طعام القنابل الحارقة، وجماهيرنا العربية العريضة تجادل، حماس سبب الكارثة أم بنيامين نتنياهو؟
حكومات عربية متشفية بحماس وبمأزقها السياسي والعسكري، وأخرى، رفعا للعتب، تناشد الجيوش الإسرائيلية الرحمة والشفقة بالمدنيين الأبرياء.
ومكرر القول إن طوفان الأقصى كان، بحق، عملا بطوليا نادرا هز الجيش الإسرائيلي، وأبطل مقولة الجيش الذي لا يقهر، كما يقول محللون ومعلقون ومذيعون عرب كثيرون. نعم.. ثم ماذا؟
فبالحساب العقلاني النهائي كانت عملية الرهائن المدنيين فرصة ذهبية لنتنياهو لقتل أكبر عدد ممكن، وتهجير أكبر عدد ممكن، وترحيل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، مدنيين أولا، ثم مسلحين ثانيا.
ولا شك في أن القياديين في حماس والجهاد كانوا يتوقعون ذلك الخراب والدمار والدم.
وأكثر ما يؤلمنا، نحن أحباب الشعب الفلسطيني ورفاقه المخلصين، أن نرى هذا العبث بالشعب البريء، ثم لا نستحي ونحن نباهي ونحتفل أخيرا بهذا النصر المبين.
هل كان قادة حماس في انتظار المدد من الرفاق؟ ربما. ولكن لا بد أن يكون ساذجا وحالما من كان منهم يتوقع أن تنتهز إيران الفرصة فتبادر إلى الانقضاض على إسرائيل من البر والجو والبحر، من لبنان وسوريا ومن داخل فلسطين ذاتها، لمحوها من الوجود، كما وعدتنا منذ عشرات السنين.
إيران لها حساباتها ومصالحها، وهي تعرف أن محو إسرائيل يتطلب أولا محو أميركا، أو هزيمتها على الأقل، أو تحويلها إلى دولة منزوعة الأسنان والأظافر.
ولا يمكن أن يكون الوليُ الفقيه غير متأكد من ذلك مئة في المئة، لأنه أثبت بالدليل أنه يعرف الممكن والمستحيل. بعبارة أخرى. يعرف حده ويقف عنده.
ومؤكد أنه سمع مثلنا، أو ربما قبلنا، تصريح جو بايدن بالقلم العريض “أن أميركا لو لم تكن لديها إسرائيل لاخترعتها”.
الآن أصبح في حكم المنتهي أي حديث عن احتمالات امتداد الحرب إلى باقي المنطقة.
فآخر تصريح لمحسن رضائي أمين المجلس الأعلى للتنسيق الاقتصادي لرؤساء السلطات الثلاث قال فيه “إن المقاومة الفلسطينية اخترعت أدوات حربية جديدة ضد الكيان الصهيوني في عملية طوفان الأقصى”. “نحن نؤيد زيادة قوة المقاومة، لكن ليس لدينا أي تدخل في التفاصيل الميدانية المتعلقة بها”. “حتى هتلر وجلادي التاريخ لم يهاجموا المستشفيات”. “إن الكيان الغاصب وبدلا من القتال بالمقاتلين والجنود، يقوم بقصف الأبرياء والعزل ويرتكب جرائم كبيرة”.
وردا على سؤال هل تدخل إيران المشهد أم لا؟ قال “إيران تراقب المشهد بعناية، ونعتقد بأن هذا الوضع لا ينبغي أن يستمر. لقد تم الكشف عن الوجه الحقيقي للنظام الصهيوني وداعميه. هناك أحداث مهمة للغاية تجري ويجب أن نكون مستعدين”.
وكان رضائي نفسه قد صرح سابقا حين كان يشغل منصب أمين مجمع تشخيص مصلحة النظام، قائلا “نحن جادُّون في إخراج الولايات المتحدة من المنطقة، ولو ردّت إسرائيل على استهداف عين الأسد لساوينا تل أبيب بالتراب”.
الفاعلون الحقيقيون في غزة، ومن خلفهم السماسرة والوسطاء والمتمرسون في عقد الصفقات والمفاهمات والمقاسمات، فهم كانوا، وأصبحوا اليوم أكثر معرفة ويقينا بأن بروجهم وأسوارهم الحديدية العالية عصمتهم وتعصمهم من نار الجماهير الحامية
وقد طمأن الفلسطينيين، بصريح العبارة، قائلا لهم إن “هناك إمكانات كبيرة للقضاء على إسرائيل، لكن الظروف ما زالت غير ملائمة”.
يعني صبرتم أربعين سنة، وليس صعبا عليكم أن تنتظروا أربعين سنة أخرى. العجلة من الشيطان!
حين اخترعت إيران أذرعا مسلحة موالية لها في لبنان والعراق وسوريا واليمن وفلسطين لم تكن في وارد استخدامها لمحو إسرائيل فعلا، ولا عازمة على مقاتلة أميركا ودول الحلف الأطلسي.
فهي، بعد أن تلقنت الدرس القاسي من حربها مع العراق عام 1980 وحتى العام 1988، وجدت أن استخدام هذه الأذرع خارج حدودها، وقت الحاجة، أكثر نفعا وأقل تكلفة لإجبار أميركا على مهادنتها، وعلى عدم المضي بعيدا في حصارها.
والعملية الأخيرة التي قامت بها حماس كانت، بوعي من قادتها السياسيين والعسكريين أو بغير وعي، ليس أكثر من بالون اختبار إيراني لقياس مدى ما ستذهب إليه أميركا في الوقوف إلى جانب إسرائيل إذا ما تعرضت لخطر جدي وحقيقي يهدد وجودها.
وربما تكون إيران فعلا هي المخطط والمحرك والممول والمسلح والمدبر للهجوم الأخير الذي قامت به حماس ضد مواقع إسرائيلية عسكرية ومدنية وأخذ أسرى ورهائن، ولكنها لم تكن في وارد دخولها بجيوشها أو بميليشيا حزب الله أو غيره مع إسرائيل وأميركا في مواجهة شاملة ماحقة ساحقة دفاعا عن حماس والجهاد الإسلامي وعن غزة وأهلها.
والعتب هنا ليس على إيران، أبدا، ولكن على من ارتضى أن يجعل نفسه إحدى أذرعها أو تابعا يتحرك حين تريده أن يتحرك، ويتوقف حين تريده أن يتوقف، ويطلق صاروخا هنا أو مسيرة هناك، وقت الحاجة وتبعا للظروف.
نعم إن القضية الفلسطينية، قضية عادلة، وإن الشعب الفلسطيني الصابر الصامد الشجاع من أجل الحرية والعدالة والاستقلال لا بد أن ينتصر وإن طال الزمن.
وكان يمكن أن يكون طوفان الأقصى عملا نافعا يخدم القضية، ويُعين الشعب الفلسطيني على أن يخطو خطوة ناجحة إلى الأمام في مسيرة نضاله الطويلة نحو دولته الآمنة المستقلة، لو كانت له قيادة موحدة وطنية غير مرتهنة لهذه الدولة أو تلك. ولكن ليس بالإمكان أفضل مما كان. ولله في خلقه شؤون.
العرب