بعد مرور خمسة أعوام على اندلاع الربيع العربي وأكثر من عامين على محاولات إعاقته، لم تتمكن قوى الشد العكسي والقوى المضادة للتغيير والثورة في دول الربيع العربي من إعادة الوضع السياسي إلى ما قبل الربيع الذي اندلع عام 2011.
استمرت قوى التغيير والإصلاح بالتأثير في المشهد السياسي العربي عموما، وفي دول الربيع العربي خصوصا، حتى في ظل جهود العزل والاجتثاث والإقصاء والتهميش بل والملاحقة الأمنية التي تعرضت لها قوى الثورات وفي مقدمتها الحركة الإسلامية (تيار الإسلام السياسي المعتدل) بوصفها الحامل الأهم للثورة والتغيير والإصلاح، وكثير من حلفائها في الثورة والتغيير في مختلف الأقطار العربية، برغم افتقادها للدعم الإقليمي والدولي المؤثر.
وما زال المشهد السياسي في هذه الدول يشهد تحولات وتغيرات ترفض العودة إلى الخلف، كما ترفض قبول الأمر الواقع ما بعد الارتداد على الربيع، وذلك رغم إدخال البلاد في كل من ليبيا واليمن وسوريا في حروب أهلية، وإدخال مصر في حالة عدم استقرار وأعمال عنف وتوتر أمني عالي المستوى، وإضعاف التحولات السياسية في تونس وإبطائها، ولذلك فقد تكاثر اللاعبون الإقليميون والدوليون من ذوي المصالح في كل هذه البلاد حيث الفوضى وأعمال العنف والإرهاب وعدم الاستقرار.
وفي المقابل استمرت حالة الاستقرار السياسي والأمني في كل من الأردن والمغرب اللذين شهدا عمليات إصلاح سياسي غير مكتملة نحو الديمقراطية، لكنها وجدت قبولا مرحليا من عموم المجتمع، رغم محاولات إدخالها في منظومة الفوضى من قبل أطراف متطرفة ومن بعض الدول ذات المصلحة في ذلك، غير أنها كرست ثقافة الإصلاح السياسي بديلا للعنف والفوضى والثورة في لحظة التقاء سياسي بين أنظمة الحكم والقوى السياسية المعارضة، مع استمرار التباين والاختلاف بينها إزاء العديد من السياسات الداخلية والخارجية.
في ضوء ذلك، فإن التحولات النوعية التي تشهدها دول الربيع -خاصة في سوريا واليمن- تعطي مؤشرات جديدة على اتجاهات التحول المحتملة في مسار الربيع العربي، كما تخلق هذه التحولات حالة من الترقب وإعادة النظر في مواقف وسياسات بنيت سابقا على أساس مواجهة تيار الإسلام السياسي، ومواجهة مطالب الشعوب بالديمقراطية والحرية.
وساعد على تشكل حالة الترقب هذه تداخل الملفات الأمنية والسياسية والاقتصادية بشكل ربما لم يكن مقصودا، مما جعل الاستقرار في المنطقة مهددا برمته، سواء بفعل مغامرات استخباراتية تدعم منظمات إرهابية، أو تشجع إثارة الفوضى، أو تتواطأ مع عمليات اجتثاث أمني ضد قوى الإسلام السياسي عموما، وأحيانا على أسس طائفية كما في حالتي العراق وسوريا.
لذلك فإن قرار السعودية مواجهة تزايد النفوذ الإيراني في اليمن، وزيادة دعمها للمعارضة السورية لمنع إيران من تحقيق أهدافها في سوريا، وتردد دعمها للنظام السياسي الحالي في مصر ما بعد الربيع، ربما فتح الباب على تحولات لم يحسب لها معارضو الربيع حسابا دقيقا، وبدت بذلك أجندة بعض الدول عاجزة عن التعامل مع هذه التحولات، وربما تكون بحاجة إلى مساعدة للنزول عن السلم.
من جهة أخرى فقد شكل التدخل الروسي العسكري المباشر في الحالة السورية استفزازا عميقا لمنظومة مصالح إقليمية ودولية، ودفعها إلى إعادة النظر في سياساتها القائمة على عدم الانخراط في الصراع بشكل مباشر، وبرغم نجاح الولايات المتحدة في محورة سياساتها حول محاربة الإرهاب وتنظيم الدولة (داعش) على وجه الخصوص، غير أن هذه السياسة لم تحقق النتائج والأهداف المعلنة لها، كما زاد ذلك من حدة الاستقطاب الإقليمي لقناعة الجميع بأن أجهزة استخبارية عديدة تقف وراء دعم تنظيم داعش.
وساد الساحة السياسية تقاذف المسؤولية عن دعم هذا التنظيم إقليميا ودوليا، مما أربك التوجه الأميركي والغربي، وشجع روسيا على الانخراط المباشر في حماية النظام السوري، ومنع المعارضة السورية من الوصول إلى الحكم.
تحولات مرتقبة
وبذلك يمكن القول إن ثمة تحولات مهمة ونوعية تتبلور، ستدفع بالمشهد السياسي إلى مربعات جديدة ومحددات أكثر وضوحا، ربما يكون عنوانها تحقيق الاستقرار، وهي:
– تنامي الأزمة في العلاقات الدولية، وتبلورها على شكل تحركات وحشودات عسكرية لم تشهد المنطقة مثلها منذ عقود، مما يهدد كيانات دول إقليمية ومصالحها، ويدفعها للعودة إلى سياسة المحاور القديمة إبان الحرب الباردة، ويلقي بظلال التخوفات من أي مواجهات عسكرية محتملة حتى لو كانت محدودة، الأمر الذي قد يدخل المنطقة لأول مرة في مقدمات صراع دولي عسكري مباشر، وهو ما تسارع مختلف الأطراف إلى بذل الجهود لمحاولة تجنبه.
ومن شأن هذا أن يجعل من السعي الدولي والإقليمي لحلول سياسية للأزمات القائمة، ولاستعادة الاستقرار واستئناف عمليات الإصلاح والتغيير السياسي بتنازلات متبادلة من مختلف الأطراف، أساسا لسياسات دولية وإقليمية جديدة في المنطقة، تهدف إلى منع اندلاع أي مواجهات إقليمية أو دولية مسلحة فيها، ولاحتواء ظاهرة التطرف والإرهاب والعنف في وقت واحد.
– فشل الحملة الدولية لمحاربة تنظيم الدولة ( داعش)، وتزايد الشكوك السياسية والأمنية حول جدية هذه السياسات وأهدافها أصلا، بينما رفع ذلك من منسوب عدم الثقة في هذه الدول من جهة، وزاد من حدة الفوضى في المنطقة من جهة أخرى، وجعل من داعش علامة “تجارية” للمتاجرين بالإرهاب تنفيذا واستغلالا، يستخدمها من شاء في أي وقت وأي مكان لتحقيق أهدافه الخاصة، الأمر الذي تسبب في تضخيم حقيقة الظاهرة، وزاد من صعوبات القدرة على إنهائها.
– تزايد الضجر الشعبي من فشل القوى التي حكمت على أنقاض الربيع أو التي أسقطت حكومات ما بعد الربيع سواء في مصر وتونس واليمن وليبيا، ناهيك عن الإنهاك الذي أصاب جميع الفرقاء من اتساع دائرة الحرب الأهلية في سوريا لتتحول إلى عملية اجتثاث للشعب السوري ولسوريا ودورها العربي وبتدخلات دولية وإقليمية متضاربة الرؤية والمصالح. كما تزايد الضجر من القوى التي تحارب قوى الربيع بالسلاح كما في ليبيا واليمن.
– تنامي قدرة الحركة الإسلامية (التيار الإسلامي المعتدل) وحلفائها الوطنيين والإقليميين على الاستمرار والتعايش مع المتغيرات وتحمل الضربات والملاحقات في دول الربيع، ونجاح تجربتها في الحكم في المغرب، وتحقيق الحزب الحاكم في تركيا (المحسوب على تيار الإسلامي السياسي المعتدل) فوزا كبيرا في الانتخابات البرلمانية، الأمر الذي قوَّى من عود هذه الحركة وصلابتها، ونمَّى الثقة لديها في قوتها السياسية وقدرتها على الاستفادة من فرصة التحولات النوعية الجارية.
وقد شجع تقارب تركيا مع دولة قطر، وتطور علاقات تركيا بالسعودية على هذا التحول في التفكير لدى تيار الإسلام السياسي، خصوصا أن دوره يُعد حاسما في كل من سوريا وليبيا واليمن بالنسبة لهذه الدول، حيث يشكل أفضل الرهانات لاستعادة الاستقرار وتحجيم نفوذ إيران ووقف الإرهاب وأعمال العنف في البلاد.
عودة الربيع
ولذلك فإن الشرق الأوسط بعمومه مقبل على تحولات سياسية كبيرة خلال العام 2016، أساسها إعادة الاستقرار واستئناف عمليات الإصلاح السياسي، وقيادة مصالحات وطنية وإقليمية واسعة، ستقود إلى استئناف عملية الربيع العربي لدورها، ولكن بمعادلات جديدة، لاستكمال بقية الأهداف التي من أجلها اندلعت، خاصة ما يتعلق منها ببناء أنظمة سياسية توفر أجواء أفضل للحريات العامة.
هذا فضلا عن اختيار حكومات تتمتع بالشرعية الشعبية وخاصة في دول الربيع الخمس، وتحقيق الشراكة الوطنية في نقل البلاد من حالة الصدام والتنازع إلى تحمل المسؤولية في تحقيق الديمقراطية والتنمية وحماية الحريات العامة، وقيادة مصالحات تاريخية تقوم على التنازل لشريك الوطن بديلا عن الرهان على قوى المجتمع الدولي، حيث يتوقع أن يكون لتيار الإسلام السياسي دور أساسي وحاسم في إنجاح هذه التجربة مستندا إلى تجربته الصعبة في سنوات الربيع الأولى ودروسها القاسية!
أسئلة صعبة
وتثار في ظل هذه التحولات الممكنة وتوقعات اتجاهاتها أسئلة صعبة ليس أمام الأطراف المعنية إلا الإجابة عليها بصدق ودقة، وأهمها: هل تملك الدول العربية والإقليمية وبعض القوى الدولية التي سارت برهانات أدت إلى الفوضى والعنف والإرهاب من جهة، واستنزاف مواردها من جهة أخرى، كما زادت من مصادر التهديد لأمنها.. هل تملك أن تراجع حساباتها وتقدم تنازلات واقعية عن بعض السياسات والأفكار ضد قوى التغيير والربيع؟
وهل تستطيع قوى التغيير والربيع العربي الأساسية توفير ضمانات وتطمينات للنظام العربي -وخاصة دول الخليج- بأنها غير معنية بالتدخل في شؤونها الداخلية، وأنها لا تستهدف أمنها بل تعتبره جزءا من أمن أقطارها؟!
وهل تستطيع إيران أن تخرج من أحلام الهيمنة والطائفية إلى رحاب الجوار الإسلامي مع العرب والأتراك نحو بناء منظومة عمل إسلامي واسعة لدعم قضايا الأمة الكبرى والتعاون في الاقتصاد والأمن والسياسة الدولية؟ وهل تنجح الزعامات الدينية -وخاصة الطائفية منها- في كبح جماح التطرف العقائدي، نحو سعة الأمة ورسالتها الإنسانية السمحة العامة للقضاء على بؤر التوتر الطائفي صعبة المراس تاريخيا؟!
وهل تدرك الدول الكبرى -وخاصة روسيا والولايات المتحدة- أن إثارتها للعنف والفوضى في المنطقة ومغالبتها لرغبات الشعوب، لا توفر لمصالحها الاقتصادية الاستقرار ولا تخدم أمنها الوطني والقومي، وأن الحرية والديمقراطية في العالم العربي ستنعكس عليها أمنا وسلاما، وتوقف الإرهاب والعنف الذي يتهددها، والذي تتعرض له على يد مجموعات إرهابية تمتطي مبادئ الدين زورا، وتمتطي قضايا الأمة الكبرى حجة في حشد الأنصار واستقطاب الشباب، وهي تتلقى دعما من استخبارات إقليمية ودولية لها مصالحها الخاصة؟
وما مدى قدرة الحركة الإسلامية السياسية على الاستفادة من هذه الفرصة لاستعادة دورها وتقديم تنازلات سياسية لشركاء الثورة أو الوطن نحو بناء شراكة سياسية حقيقية؟ وهل لديها الاستعداد للدخول في مصالحات قد لا تحقق لها كل شروطها أو أهدافها أو تطلعاتها لنقل المنطقة نحو الاستقرار واستعادة أجواء التنافس السياسي بديلا للفوضى التي ضربت مشروع الحركة الإسلامية وبقية المشاريع العربية للتغيير والإصلاح؟
وهل تتمكن بقية القوى السياسية العربية القومية واليسارية والليبرالية من استعادة نفسها الوحدوي وبوصلتها الوطنية والعربية بعيدا عن مواقع التشفي والحزبية ودعم برامج الإقصاء للإسلاميين واعتبارهم حجر عثرة في الطريق، وبالتالي العودة إلى مسار التعاون معهم لبناء دول مستقرة تتمتع بالحرية والديمقراطية أولا؟!
بالتأكيد إن هذه عملية معقدة كما تُظهر الأسئلة وأطرافها، ولكنها ربما تبدأ بحل الأزمة في اليمن أو سوريا أو ليبيا أو مصر أو كلها معا، لكنها أصبحت اليوم أقرب إلى الواقعية مما كانت عليه قبل عامين في ظل التحولات الأربعة الآنفة الذكر، والتي أكدت أن كل الأطراف تعيش حالة أزمة واستنزاف، وأنها كلها تبحث عن مخرج في السر والعلن، وأنها كلها أدركت أن الخروج من حالة الفوضى والمخاطر إلى الاستقرار والتعاون والشراكة على كل المستويات سيحقق كثيرا من مصالحها وإن لم يكن كلها، ولكن بكلفة أقل، وبنسبة استقرار أعلى، ولفترة أطول.
فلماذا لا يلج الجميع إليها اليوم؟ ولماذا لا يبادر أحد من المعنيين بأخذ زمام المبادرة؟ وإن كان التفضيل أن تأخذ الأطراف العربية والإسلامية الأمر بيدها لأن خلافها الداخلي سبب أساسي للتدخلات الدولية، خاصة أن اندلاع الأزمات المحلية والحروب الأهلية في عدد من الدول يتم بدعمها المالي والعسكري والأمني والإعلامي.
ولذلك فإن السعودية من جهة، وكلا من تركيا وإيران من جهة أخرى، وبالتعاون مع تيار الإسلام السياسي المعتدل من جهة ثالثة، هي الأطراف الأقدر اليوم على التقدم بمبادرة كهذه، تقوم على أساس التنازلات السياسية المتبادلة بين كل الفرقاء لمصلحة بناء الأوطان، وحماية الشعوب، واستئناف الحياة السياسية، واستعادة عافية الاقتصاد، ووقف هدر الدماء والأموال، وتحقيق مصالحات وطنية وعربية وإسلامية.
ومن شأن ذلك أن يحقق استجماع القوة لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية وطنيا وإقليميا ودوليا بشكل جماعي، وعلى أساس الوحدة الوطنية الصلبة، والتضامن العربي والإسلامي الواسع، وتقصي بذلك -في حال نجاحها- كل أدوات العنف والحقد والكراهية ومساراتها من داخل مجتمعاتها ومن بينها، مهما كانت القوى المعادية التي تقف خلفها.
جواد الحمد