من وقت إلى آخر يخرج علينا مسؤول إيراني بتصريحات إعلامية للتعبير في حقيقة الأمر عن العنجهية في سياسة بلاده المتغطرسة والتوسعية تجاه الدول العربية، هذه التصريحات التي من ممكن أن يقال عنها إنها تنتهك سيادة بعض الدول العربية في المشرق العربي، لكن الملاحظ أن هذه التصريحات لم تك تعلن بشكل علني قبل الإحتلال الأمريكي للعراق في 9نيسان/إبريل عام 2003م. فعلى الرغم من الحصار الذي فرض العراق والذي عمل على إضعافه جراء احتلاله الكويت في 2آب/أغسطس عام1990م، إلا أنه كان يمثل رادعًا قويّا لإطماع إيران في الوطن العربي. وفي هذا الإطار سننتاول بعض من هذه التصريحات الإيرانية ومدى فاعليتها السياسية على ارض الواقع، والاشكاليات التي تطرحها هكذا نوع من التصريحات؟.
علي رضا زاكاني
بعد سيطرة مليشيات الحوثي على العاصمة اليمنية صنعاء في أيلول/سبتمبر من العام الماضي، صرّح النائب في البرلمان الإيراني، علي رضا زاكاني، المقرب من المرشد الإيراني علي خامنئي “أن العاصمة اليمينة صنعاء أصبحت العاصمة العربية الرابعة التابعة لإيران بعد كل من بيروت ودمشق وبغداد”، مبيناً “أن ثورة الحوثيين في اليمن هي امتداد للثورة الخمينية”. وقال زاكاني إن “ثلاث عواصم عربية أصبحت اليوم بيد إيران، وتابعة للثورة الإيرانية”، مشيرا إلى أن صنعاء أصبحت العاصمة العربية الرابعة التي في طريقها للالتحاق بالثورة الإيرانية. وأضاف -حينها- زاكاني خلال حديثه أمام أعضاء البرلمان الإيراني، أن إيران تمر في هذه الأيام بمرحلة “الجهاد الأكبر”، منوها أن هذه المرحلة تتطلب سياسة خاصة، وتعاملا حذرا من الممكن أن يترتب عليه عواقب كثيرة. وأوضح أن على المسؤولين في إيران معرفة كل ما يجري على الساحة الإقليمية، والتعرف على كافة اللاعبين الأساسيين والمؤثرين بدول المنطقة، لافتا إلى ضرورة دعم الحركات التي تسير في إطار الثورة الإيرانية لرفع الظلم، ومساعدة المستضعفين في منطقة الشرق الأوسط، على حد قوله. وتابع زاكاني بأنه قبل انتصار الثورة في إيران، كان هناك تيارين أساسين يشكلان المحور الأمريكي في المنطقة، “هما الإسلام السعودي والعلمانية التركية، ولكن بعد نجاح الثورة الإيرانية تغيرت المعادلة السياسية في المنطقة لصالح إيران، ونحن اليوم في ذروة قوتنا نفرض إرادتنا ومصلحتنا الاستراتيجية على الجميع في المنطقة”. وأشار إلى أن منطقة الشرق الأوسط تتجه الآن إلى تشكيل قطبين أساسيين، الأول بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من العرب، والثاني بقيادة إيران والدول التي انخرطت في مشروع الثورة الإيرانية. واعتبر زاكاني أن الثورة اليمنية امتداد طبيعي للثورة الإيرانية، وأن 14 محافظة يمنية سوف تصبح تحت سيطرة الحوثيين قريبا من أصل 20 محافظة، وأنها سوف تمتد وتصل إلى داخل السعودية، قائلا: “بالتأكيد فإن الثورة اليمنية لن تقتصر على اليمن وحدها، وسوف تمتد بعد نجاحها إلى داخل الأراضي السعودية، وإن الحدود اليمنية السعودية الواسعة سوف تساعد في تسريع وصولها إلى العمق السعودي”، على حد زعمه.
علي يونسي
شهد العراق في حزيران/يونيو من العام الماضي، أحداث أمنية متسارعة تمثلت بسيطرة تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام”داعش” على الموصل وغيرها من المحافظات السُنية، مما أدى في المقابل تشكيل مليشيات الحشد الشعبي الشيعية لصد هجمات تنظيم ضد عاصمة العراقية بغداد وبروز الجنرال الإيراني قاسم سليماني كقائد أعلى لهذه المليشيات، ففي هذا السياق صرّح علي يونسي، مستشار الرئيس الإيراني، حسن روحاني، في الآتي: “إيران اليوم أصبحت امبراطورية كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد حاليا، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما في الماضي”، وذلك في إشارة إلى إعادة الامبراطورية الفارسية الساسانية قبل الإسلام التي احتلت العراق وجعلت المدائن عاصمة لها”. وقال إن “جغرافية إيران والعراق غير قابلة للتجزئة وثقافتنا غير قابلة للتفكيك، لذا إما أن نقاتل معا أو نتحد”، في إشارة إلى التواجد العسكري الإيراني المكثف في العراق خلال الآونة الأخيرة. وهاجم يونسي الذي شغل منصب وزير الاستخبارات في حكومة الرئيس الإصلاحي، محمد خاتمي، كل معارضي النفوذ الإيراني في المنطقة، معتبرا أن “كل منطقة شرق الأوسط إيرانية”، قائلا “سندافع عن كل شعوب المنطقة، لأننا نعتبرهم جزءا من إيران، وسنقف بوجه التطرف الإسلامي والتكفير والإلحاد والعثمانيين الجدد والوهابيين والغرب والصهيونية”، على حد تعبيره. وأكد مستشار الرئيس الإيراني استمرار دعم طهران للحكومة العراقية الموالية، وهاجم تركيا ضمنيا، قائلا “إن منافسينا التاريخيين من ورثة الروم الشرقية والعثمانيين مستاؤون من دعمنا للعراق”، في تلميح إلى استياء تركيا من التوسع الإيراني. وأشار يونسي في كلمته إلى أن بلاده تنوي تأسيس “اتحاد إيراني” في المنطقة، قائلا “لا نقصد من الاتحاد أن نزيل الحدود، ولكن كل البلاد المجاورة للهضبة الإيرانية يجب أن تقترب من بعضها بعضا، لأن أمنهم ومصالحهم مرتبطة ببعضها بعضا”.
علي أكبر ولايتي
سوريا بعد الثورة التي أرادت إيران وحلفائها تغيير مسارها الإنساني كالعراق بعد الاحتلال الأمريكي له وبروز تنظيم الدولة في المشهد الأمني العراقي، أصبحت مرتعًا للمليشيات الشيعية الإيرانية التي تقاتل للحفاظ ليس على بشار الأسد وإنما على مصالحها الحيوية في سوريا، لذا كان من “مفهومًا” أن يهاجم علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي، منتقدي تدخل طهران في العراق وسوريا، قائلاً إن “تدخلنا في سوريا يأتي بدافع قومي، وهذا ينطبق على العراق أيضاً، حيث لو أن أميركا سيطرت على العراق لأنشئت قواعد بالقرب من حدودنا”. إن “إيران تدخلت في سوريا والعراق بهدف الاتحاد مع الدول الإسلامية عبر محور المقاومة”، حسب وصفه. وأضاف: “بما أن أميركا كانت تعتبر سوريا أضعف الحلقات في سلسلة محور المقاومة، لذلك سعت إلى تحطيم هذه الحلقة”، وفق تعبيره. وتابع قائلاً: “لكننا لن نسمح بتحقق هذا الأمر، لأن سوريا هي الحلقة الذهبية في محور المقاومة. إن الأميركيين يتحدثون اليوم عن تقسيم العراق وسوريا لأنهم يريدون شرق أوسط ضعيفاً ومتشتتاً”، على حد قوله. وهاجم ولايتي الدول العربية التي تسعى من أجل حل القضية السورية، وشدد على وقوف إيران إلى جانب بشار الأسد من أجل مصالحها، وقال: “على الجميع أن يعرف بأن الأسد باق. وإن لم نتصد للعدو في سوريا فإنه علينا مواجهته قرب حدودنا”.
ولنا أن نرد على هذا التصريحات في الآتي: أن تحقيق المصلحة الوطنية الإيرانية، سياسية كانت أو اقتصادية، لا يتطلب دعماً لنظام دموي في دمشق أو اجتياحاً حوثياً لصنعاء أو بناء نظام طائفي في بغداد، ولكن ببناء علاقات حسن جوار مع دول المنطقة التي إذا لاحظت أي تغيير جوهري وصادق في السلوك الإيراني تجاهها فإن جميع العواصم العربية –وليس الأربع فقط- ستفتح أبوابها أمام هذا الانفتاح الإيراني المفترض. التجارب الدولية أثبتت أن النماذج السياسية لا يمكن فرضها بالقوة من الخارج، والتجربة الأميركية لإحداث تغيير سياسي في العراق أكبر دليل على هذا الفشل. علاقات إيران الحالية مرتبطة بأنظمة وحركات مسلحة وليس بجماهير تؤمن بالنموذج الإيراني في الحكم، وهنا يجب على إيران أن تستخلص الدروس من التجرية الأميركية التي بنت علاقاتها مع أنظمة دكتاتورية عربية انهارت مع أول هبة جماهيرية ضدها.
بإمكان إيران بناء علاقات استراتيجية مع الجماهير العربية قائمة على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في شؤونها ومبتعدة عن الحشد الطائفي أو النعرات القومية المقيتة. إن علاقات حسن الجوار والاحترام المتبادل لن تشكل أي عبء أو استنزاف للاقتصاد الإيراني بل ستشكل داعماً أساسياً. العرب عندها سينتظرون وصول بواخر السجاد الفاخر من إيران وليس بواخر الأسلحة لإشعال حرب طائفية تأكل الأخضر واليابس في اليمن. فالسيطرة عنوة على العواصم الأربع لن تحقق المصلحة الوطنية الإيرانية، لكنها ستشكل عبئاً اقتصادياً وسياسياً وأمنياً لن تستطيع إيران الاستمرار بدعمه أو المحافظة عليه لمدة طويلة. وازدياد عدد العواصم إلى خمس أو ست أو أكثر كما تطمح طهران سيسرّع من انهيار الحلف الإيراني. وعليه، فإن التمدد الإيراني في المنطقة العربية يحمل بذور فنائه.
من الواضح أن إيران لم تتعلم شيئاً من تجربة الاتحاد السوفياتي الذي دعم حركات ثورية في أنحاء العالم استطاع معظمها الوصول إلى الحكم، وراهن الاتحاد السوفياتي على أن هذه الدول ستشكل الداعم الأساسي له في المواجهة المؤجلة مع الإمبريالية العالمية، لكن هذه الدول الحليفة ساهمت في الانهيار الاقتصادي للاتحاد السوفياتي قبل حدوث المواجهة مع الإمبريالية. فحتى لو أحكم حوثيو إيران السيطرة على مضيق باب المندب فإن ذلك لن يعود بدولار واحد على الخزينة الإيرانية وإغلاق المضيق لن يحدث، كون إيران معنية أكثر من الإمبريالية العالمية بعدم حدوث أي مواجهة عسكرية، وتوقيعها على تخفيض نسبة تخصيب اليورانيوم من 20 في المئة إلى 5 في المئة دليل على ذلك، ناهيك عن مقدرة إيران على تحمل النتائج القانونية لإغلاق أحد الممرات العالمية التي يكفل القانون الدولي حرية الحركة فيها. وفي هذا الإطار يقفز إلى الذهن السؤال الآتي: هل يقبل علي أكبر ولايتي تدخل الدول العربية للدفاع عن العرب الأحواز منطلق المصالح العربية العليا.
يبدو أن أن تصريحات المسؤولين الإيرانيين يؤمنون بنظرية”المجال الحيوي” وتنفيذها على مستوى سياسة إيران الخارجية، التي تقوم على التوسع الخارجي، وكان أول من فكر بهذه الطريقة هي ألمانيا في مرحلة ما بعد الوحدة في العام1871م، لتأمين المواد الأولية اللازمة لاقتصادها لبناء الأمة الألمانية. وضمن هذه النظرية لا يوجد حدود لهذه الأطماع بل حدودها يتناسب طردياً مع نموها الاقتصادي والعسكري، بهذه العقلية دخلت ألمانيا في حربها العالمية الأولى والثانية مع أغلب دول العالم وتسببت بدمار العالم وبخسائر بشريةٍ لا تعد ولا تحصى وتوقف الاقتصاد ودمرت المصانع وسرح العمال وانتشرت المجاعات والأوبئة والأمراض ونستطيع القول بأن العمل بنظرية المجال الحيوي دمرت العالم وأعادته إلى الخلف مئات السنوات. وثانيها، إسرائيل التي كانت نموذجاً لتطبيق الفكر التوسعي في نظرية المجال الحيوي منذ نشأتها في العام 1948 وحتى يومنا هذا. وثالثهما الثورة الإيرانية التي رفعت شعار “تصدير الثورة” فهى تحاول الآن استغلال الأوضاع غير مستقرة في البيئة العربية لتوسيع نفوذها.
فهذه النظرية أي المجال الحيوي كما أثبتت التجارب التاريخية مدخلها التوسع ومخرجها الحروب، لأنها لا تحترم سيادة الدول ولا تقيم وزنًا لمبادىء القانون الدولي العام، فإيران ليس من مصلحتها تنصيب أنظمة طائفية في العواصم الأربع تشكل عبئاً على الاقتصاد الإيراني وتستنزفه حتى الانهيار. فحقائق الجغرافيا والتاريخ والديموغرافية العربية أكثر وطأة ورسوخًا من إطماعها التوسعية.
وحدة الدراسات العربية
مركز الروابط والبحوث والدراسات الاستراتيجية