برزت إيران في عصرها الحديث كدولة مترامية الأطراف على أثر إلحاق ممالك وبلدان كان لها حكمها المستقل أو شبه المستقل قبل نشوء السلالة البهلوية في الربع الأول من القرن الـ20، وقد تم توحيد هذه المناطق بقوة السلاح وإرسال العساكر لاحتلالها. فوفقاً لوثائق مؤسسة الاستخبارات البحرية البريطانية التي كانت تدعم تحويل النظام اللامركزي القاجاري إلى نظام مركزي حديدي بقيادة رضا خان البهلوي، أُخضعت الممالك التالية إلى الدولة الشاهنشاهية البهلوية التي حلت محل الدولة القاجارية للمالك المتحالفة: جيلان في عام 1921، ومملكة كردستان في عام 1922، ومملكة لورستان في عام 1924، ومملكة عربستان في عام 1925، ودولة بلوشستان في عام 1928، وذلك باستخدام العنف وإراقة الدماء وارتكاب المجازر في هذه المناطق غير الفارسية. فإذا استثنينا مملكة أذربيجان، ذات الغالبية التركية، التي كانت الشريك الرئيس في إدارة بلاد فارس في عهد السلالة القاجارية (1889 – 1925)، فإن العرب والبلوش والكرد والجيلاك والتركمان يتشابهون في سلطتهم المعزولة عن الحكومة المركزية في تلك الفترة، والتماثل أكثر بين العرب والبلوش في تاريخهم الحديث وعلاقتهم بسلطة طهران، بل وحتى في نسيجهم الاجتماعي.
لنلقي نظرة على ما حدث لمملكة عربستان ودولة بلوشستان لنشاهد التشابه والتفاوت بين ما شهده الشعبان الأحوازي والبلوشي منذ ذلك المنعطف التاريخي، أي تحويل الحكم القاجاري إلى الحكم البهلولي وما نشهده حالياً من أحداث وتطورات سياسية. وتقع حالياً عربستان في جنوب غربي إيران وبلوشستان في جنوب شرقي البلاد.
التشابه والتفاوت
يتبع معظم العرب في عربستان المذهب الشيعي فيما يعتبر المذهب السني، مذهب معظم البلوش في بلوشستان، وتعد اللغة العربية من عائلة اللغات السامية والثقافة الأحوازية امتداداً للثقافة العربية في العراق والدول العربية المجاورة، فيما تعد اللغة البلوشية فرعاً من اللغات الهندو – إيرانية، وهناك تشابه بين الثقافة والموسيقى والعمارة البلوشية مع نظيرتها الهندية، منها عمارة المساجد، وهذا ما شاهدته في زياراتي العديدة إلى إقليم بلوشستان. ويتماثل المجتمعان الأحوازي والبلوشي في نسيجهما الاجتماعي ويتميزان بالدور التاريخي للمؤسسة القبلية ورؤساء القبائل والعشائر، ولعب السردار، كبير القبيلة، في بلوشستان دور الشيخ نفسه في عربستان. وهذا ما رأيناه خلال بعض الفترات التاريخية بخاصة بعد فتور حكم السلالة المشعشعية في عربستان وأعني تعددية السلطة في مناطق الحويزة (وبني طرف)، والمحمرة، والفلاحية، وآل خميس، وآل كثير، ووجود شيوخ ذوي نفوذ في هذه المناطق، كانوا يتمتعون بحكم شبه ذاتي يخص منطقتهم.
وعقب فترة استقلال عربستان في عهد المشعشعين لم يتمكن أحد من أن يوحد كل هذه المناطق إلا الأمير خزعل بن جابر (1861 – 1936) بقواته وجيشه. وقد لعب الأمير دوست محمد خان في بلوشستان دوراً في توحيد معظم مناطق بلوشستان واتخذ نظاماً لا مركزياً بين تلك المناطق ومنها بهرة وبمبور، ومكران، وسراوان، وتشهبارودشتياري، وذلك بتقديم الهدايا والأراضي الأميرية، حيث تمكن من حشد أكثر من 10 آلاف جندي في أيام الحرب.
في عام 1841 احتلت الدولة القاجارية، المحمرة عاصمة السلالة الكعبية، وبعد مصادقة القوى الكبرى، بريطانيا وروسيا، على معاهدة أرض روم الثانية المنعقدة بين الدولتين القاجارية والعثمانية في عام 1947، فقدت مملكة عربستان استقلالها وأصبحت ضمن الممالك المتحالفة القاجارية التي كانت تضم عربستان ولورستان وكردستان وأذربيجان وجيلان وخراسان وبلوشستان.
وعقب الحروب التي شنتها الإمبراطورية الروسية على الدولة القاجارية واقتطاعها مناطق غرب القوقاز من إيران، استغلت منافستها، الإمبراطورية البريطانية، الوضع لدعم الدولة القاجارية للحد من النفوذ الروسي وإبعاده عن الهند، درة التاج البريطاني. وقد تجلى ذلك في انتداب بريطانيا لدولة بلوشستان في عام 1939 مما مهد الطريق للشاه ناصر الدين القاجاري (1831 – 1896) أن يفصل غرب دولة بلوشستان ويضمها إلى الدولة القاجارية ومن ثم يقوم، بمساعدة البريطانيين، بتحديد الحدود بينها وبين بلوشستان الشرقية وشبه القارة الهندية، وهي التي تعرف حالياً باسم بلوشستان – إيران.
تقول فيروزة كاشاني ثابت الباحثة الإيرانية وأستاذة التاريخ في جامعة “بنسلفانيا” في كتابها “خيالات الحدود: تشكيل الأمة الإيرانية، 1804 -1946” إن الحدود الإيرانية تم تحديدها في هذه الفترة الزمنية وفقاً للأساطير وليس على أساس حقائق تاريخية، وتؤكد أن حدود بلوشستان وجنوب خراسان تمت بالتعاون بين الدولة القاجارية والإمبراطورية البريطانية وفق أساطير “الشاهنامة” وهو ديوان شعر وليس تاريخاً حقيقياً.
ويذكر المؤرخ البلوشي حبيب الله سربازي أن فردريك غولد سميد الضابط الإنجليزي في الجيش البريطاني وشركة الهند الشرقية، كان وسيطاً في المفاوضات بين الحكومة البلوشستانية (تحت الانتداب البريطاني) والدولة القاجارية، التي أدت في عام 1871 إلى تقسيم بلوشستان رسمياً إلى بلوشستان الغربية (بلوشستان – إيران الحالية) وبلوشستان الشرقية التابعة لحكومة باكستان حالياً.
وفي السياق، تم تحديد حدود عربستان في عام 1856 عقب احتلال الدولة العثمانية مدينة المحمرة، عاصمة عربستان، لفترة باعتبارها مدينة عثمانية وكسبت في ذلك الادعاء تأييد بريطانيا، غير أنها، وعلى أثر إصرار روسيا القيصرية، غيرت رأيها وصوتت لصالح انتماء المحمرة إلى الدولة القاجارية في مفاوضات أرض روم الثانية في عام 1847. ونلاحظ هنا أن تحديد الحدود والسيطرة الإيرانية على عربستان وبلوشستان تمت في العهد القاجاري، وتحديداً في فترة حكم الشاه ناصر الدين.
وللكاتب الإيراني البارز جلال آل أحمد كلام في هذا المجال يقول فيه “لقد أنشأ الغربيون الحدود لمنع حركة البشر، وبغير ذلك لن تمنع أي حدود منتجات شركة كوكا كولا”.
وفي غرب بلوشستان يعتبر البلوش عام 1871 نهاية استقلالهم، كما يعتبر الأحوازيون عام 1847 عام نهاية استقلالهم، وبالطبع كانت عربستان وبلوشستان، لفترات محددة، ترزحان تحت حكم الأباطرة الأقوياء في العهد الصفوي والأفشاري لكنها لم تكن طويلة. وقد ذكرت في كتابي “عربستان ومصير الدولة – الأمة في إيران” أن عربستان وخلال 580 عاماً (1440 – 2020) كانت مستقلة لمدة 362 سنة، وقد حكم في هذه الفترة حكام من المشعشعين وبني كعب، ويوصفون عادة بالسلاطين أو الأمراء، كما حكم ملوك مكران من القرن الـ12 إلى القرن الـ18 الميلادي في غرب بلوشستان.
رضا شاه ونهاية حكام بلوشستان وعربستان
يتحدث بعض المؤرخين البلوش في إيران عن نشوء حكومة بلوشية مستقلة في غرب بلوشستان (قسم بلوشستان الإيراني حالياً) في أواخر العهد القاجاري. ويقول حبيب الله سربازي في هذا المجال “أنشأت سلالة بارانزهي بقيادة بهرام خان بارانزهي حكومة مستقلة في غرب بلوشستان في عام 1907، وذلك بعد اقتحام قلعتي بهرة وبمبور وطرد القوات التابعة للدولة القاجارية من بلوشستان، غير أن الجيش البهلوي قضى عليها في عام 1928″. ويرجع المؤرخ إنشاء تلك الدولة البلوشية إلى ضعف الحكومة المركزية في طهران بسبب ثورة الدستور (1906 – 1909) وتداعياتها. ويؤكد أن بهرام بارانزهي هزم القوات الإيرانية والبريطانية، ثلاث مرات، ولقب بحاكم بلوشستان ووصف نفسه بـ”شاه جهان” أي ملك العالم. وقد خلفه السردار دوست محمد خان بن محمد علي خان عقب وفاته في عام 1920، والذي اختار مدينة بهرة (پهرة بالبلوشي وغيرانشهر بالفارسي) عاصمة له، غير أن دولته المستقلة سقطت في عام 1928 بعد أن تمكن الشاه رضا بهلوي من احتلال الممالك المتحالفة (المحروسة) القاجارية.
ويؤيد الجنرال أمان الله جهانباني، الذي قاد قوات الجيش التابع لرضا شاه إلى بلوشستان، في مذكراته، كلام حبيب الله سربازي قائلاً “أمير دوست محمد خان من أسلاف بهرام خان كان الشخص الأخير الذي حكم بلوشستان بالاستقلال حتى عام 1928”. ويذكر أن في تلك الفترة، لم تكن شمال بلوشستان الغربية كمناطق خاش وميرجاوة ودوزاب (زاهدان بالفارسي) تحت سيطرة دوست محمد خان ولم تسيطر عليها أيضاً الحكومة المركزية في طهران.
وفي حالة مملكة عربستان وآخر حكامها العربي الأمير خزعل الجابر الذي حكم المملكة لمدة 28 عاماً (1897 – 1925)، يمكن أن نعتبره مستقلاً إذا استندنا إلى عدم دفعه الضرائب لحكومة طهران المركزية القاجارية، كما كان يفعل بهرام خان بارانزهي ودوست محمد خان بارانزهي، أو وفق ما كتبه بعض المؤرخين الإيرانيين، على رغم أن خزعل لم يدع بالاستقلال صراحة إذ كان يتمتع بشبه استقلال ويعتبر نفسه في أواخر حكمه بأنه تابع لإيران رسمياً فقط.
وفي أهمية عربستان وقوة الأمير خزعل ينبغي أن نقول إن الشاه رضا بهلوي، عندما كان وزيراً للحرب بعيد سقوط السلالة القاجارية، قاد جيشاً لاحتلال عربستان بنفسه فيما أرسل قائد لواء شرق إيران الجنرال جهانباني لدحر دوست محمد خان واحتلال بلوشستان. وفي الحالتين، اعتمد الجيش الشاهنشاهي في خططه للقضاء على حاكمي عربستان وبلوشستان على الخلافات بين أي منهما من جهة ورؤساء القبائل العربية والبلوشية من جهة أخرى، كما أن البريطانيين في الحالة البلوشية كانوا، منذ اليوم الأول لإنشاء حكومة غرب بلوشستان، إلى جانب الحكومة المركزية القاجارية، فيما في حالة عربستان، كان الأمير خزعل يتمتع بعلاقات جيدة مع الدولة البريطانية، غير أنها خذلته بعد تواطئها مع الشاه رضا البهلوي وخططها الجديدة الداعمة لحكومة مركزية قوية تقف أمام المد الروسي السوفياتي إلى المياه الدافئة.
وقد كافأ الشاه رضا بهلوي العقيد أبو الفضل زاهدي والجنرال أمان الله جهانباني بمنحهما ميدالية “ذو الفقار”، وهي أعلى وسام في عهد الشاه رضا، لما قاما به ضد الأمير خزعل والسردار دوست محمد خان. ونحن نعرف أن العقيد زاهدي الذي أصبح جنرالاً في ما بعد نفذ خطة لخطف الأمير خزعل من يخته أمام قصره في شط العرب. ومن أخطاء الأمير خزعل، التي يشير إليها عديد من الأحوازيين، هي عدم قيامه باغتيال رضا خان البهلوي عند زيارته الأولى إلى مدينة الأحواز للتفاوض حول مستقبل الحكم في عربستان في عام 1925، فيما قام رضا شاه باغتياله في طهران في عام 1936 خلافاً للوعود التي وعد بها الأمير خزعل والبريطانيين.