هل الخبر الرئيسي في غزة ارتفاع عدد الشهداء إلى ما يقارب 20 ألفاً أو يتجاوزه، وأكثر من نصفه نساء وأطفال، أم الخبر الأهمّ هو بدء إغراق شبكة الأنفاق بمياه البحر؟ بغضّ النظر عن فعّالية الإغراق وآثاره الضارّة في مخزون المياه الجوفية بغزة التي تعاني أصلاً من شحّ مياه، أو احتمال حدوث خسوفات وانهيارات في ما بقي من أبنية القطاع، سالماً أو آيلاً إلى السقوط، لا يمكن إغفال جانب مهمّ من أيّ حرب، ولا سيما في الأزمان الحديثة، وهو الحرب النفسية، التي تتضمّن قدراً لا يستهان به من التمويه والتضليل للتأثير في معنويّات الطرف الآخر من المعادلة، وهو العدوّ. وفي حالة غزة، ثمّة موضوعان أساسيّان هما: الأوّل هو الكثافة السكانية (أكثر من مليونَي نسمة) على رقعة ضيّقة (حوالى 365 كلم مربّعاً)، والثاني هو شبكة الأنفاق العنكبوتية تحت القطاع، وجملة من الأساطير التي تحيط بها، ويستعملها طرفا الحرب في الدعاية، كلٌّ لغايات مختلفة عن الآخر. في البدء، كانت حركة حماس من أذاعت الحجم الإجمالي للشبكة وقدراتها الفائقة لترهيب العدوّ. ثمّ تلقّفتها إسرائيل وبنت عليها استراتيجية التدمير المنهجي للمدارس والمشافي والمجمّعات السكنية على اعتبار أنّ تلك المنشآت القائمة فوق الأرض تُخفي تحتها منشآت لا تقلّ طولاً وعرضاً عن تلك التي فوق الأرض. وكلا الترويجين الفلسطيني والإسرائيلي، بعيد عن الدقّة العلمية، بالنظر إلى وقائع الحصار المستديم منذ عام 2007 عندما انقلبت حماس على السلطة بقيادة فتح، وخاصة بعد عام 2013 حين قامت السلطات المصرية بجهد هندسي استثنائي لإقفال أنفاق التهريب بين غزة وسيناء، وكان الدافع أمنيّاً بالدرجة الأولى. فكيف تمكّنت حماس من تطوير الشبكة الدفاعية/الهجومية ما بين ذاك التاريخ وموعد هجوم 7 تشرين الأول؟ وهل امتلكت الموارد المالية والبشرية والتقنية الكافية لإنجاز شبكة الأنفاق التي طولها مئات الكيلومترات، وتضاهي ضعف ما حفرته قوات المقاومة الفيتنامية في الجنوب إبّان الحرب الأميركية على فيتنام الشمالية، كما قال مرّة رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية عام 2016 حلال تشييع عدد من “شهداء الإعداد” الذين يحفرون الأنفاق (طول الأنفاق الفيتنامية أكثر من 270 كلم)، أو تماثل أنفاق مترو لندن (أكثر من 400 كلم) بحسب المزاعم الإسرائيلية؟
في خلاصة أوّلية، يبدو بالنظر إلى محدودية الإمكانات الطوبوغرافية والعمرانية والاقتصادية والتقنية في قطاع غزة، أنّ شبكة الأنفاق ليست بالسعة التي يروَّج لها
8 أسئلة أساسيّة
في هذا المجال، طرح الباحث الأردني أسامة عكنان ثماني أسئلة جوهرية عن حقيقة شبكة الأنفاق التي تستعملها حماس بشكل خاص، في مقطع نُشر حديثاً على منصة Tik Tok، تحت عنوان: “شبكة أنفاق غزة بين الحقيقة والخيال”. ولا تتعلّق الأسئلة بحقيقة وجود أنفاق، بل هي موجودة ومنتشرة في طول القطاع وعرضه، بل عن إمكانية وجود شبكة متطوّرة ومزوّدة بكلّ الإمكانيات التقنية واللوجيستية كما يُشاع في الإعلام. والأسئلة كما يلي:
– هل من الممكن واقعياً وعلمياً نظراً للطبيعة الطوبوغرافية للقطاع، وتضاريسه، حفر أنفاق باتّساعها ومرافقها وبناها الداخلية وطبيعة الحياة فيها وطوابقها وتجهيزاتها وقدراتها المعيشية؟
– ما هي المعدّات والتجهيزات التكنولوجية اللازمة لحفر الأنفاق بالمواصفات المذكورة، وهل هي متوافرة أو من الممكن توفيرها في القطاع لتقوم بمهمّة الحفر والربط ورفع الركام من الأعماق ونقله إلى حيث يراد له أن يكون؟
– ما هي المدّة الزمنية لحفر هذه الشبكة، وما هي قوة العمل اللازمة لذلك؟ وما هي أنواع الكفايات والمؤهّلات من الناحيتين العلمية والهندسية، وهل كانت متوافرة لحكومة حماس؟
– ما هي الكلفة الدنيا المطلوبة لحفر شبكة الأنفاق؟ وهل أُتيحت مثل هذه التكلفة الضخمة التي تُقارن بتلك التي صُرفت على شبكة أنفاق مترو لندن؟
– هل من الممكن أن تقوم أشغال عمومية في القطاع مخفيّة وغير مراقبة وغير مكشوفة للإسرائيليين على مدى سنوات من مراحل تنفيذ المشروع، بالنظر لحجم الحركة ونوع العمل؟ وهل يمكن أن ترى إسرائيل أعمال الحفر المستمرّ ليلاً ونهاراً وتتغاضى عنها دون أن ترصدها الأقمار الصناعية التجسّسية؟ ولماذا لم تنشر إسرائيل صوراً تثبت ذلك لتبرير تدمير القطاع؟
– ما هي كمية التراب والموادّ الأخرى المستخرجة من الأنفاق التي يجب إخراجها من أعماق الأرض؟ وكيف استُخرجت تقنيّاً؟ وما هي المعدّات اللازمة لذلك؟ وأين تُرسل؟ وهل يمكن إخفاؤها عن أعين الرقابة الجوّية والأرضية (عيون إسرائيل وجواسيسها)؟
– هل يُعقل أنّ سكان القطاع لم يشعروا بأعمال الحفر والنقل التي تجري منذ سنوات وهي قرب سكناهم وأماكن عملهم وشوارعهم وأراضيهم؟ وكيف كانت تسير حياتهم وسط الضوضاء والحركة؟
– أليس هناك عوائق في الأرض أمام عمليات الحفر والتدشيم، مثل شبكات الصرف الصحّي، والآبار التي تُعدّ بالآلاف في القطاع، وهو ما يصعّب مسألة إقامة الشبكة؟
عوائق إنشاء شبكة أنفاق
في محاولة الإضاءة على ما أثاره الدكتور عكنان، يمكن اللجوء إلى بعض المعطيات العلمية التي تشكّل عوائق حقيقية أمام إنشاء شبكة أنفاق مترابطة وممتدّة على مساحة القطاع. وهي عوائق طوبوغرافية وجغرافية وجيولوجية واقتصادية وتقنية.
1- تتناول دراسة صادرة عن جامعة النجاح الفلسطينية عام 2021، مشكلة انجراف التربة في القطاع، وتهدف إلى قياس كميات انجراف التربة وتحديد المناطق الأكثر تعرّضاً للانجراف من أجل اعتماد الوسائل والإجراءات المناسبة، وخلُصت الدراسة إلى أنّ المناطق المعرّضة لخطر انجراف عالٍ أو عالٍ جداً، تشكّل 10% من مساحة القطاع، وتتركّز في مدينة غزة وأحواض الأودية (وادي غزة، وادي بيت حانون، وادي السلقا)، وفي منطقة الجروف الشاطئية. بالمقابل، فإنّ مناطق الجنوب أفضل حالاً من الشمال بالنسبة إلى خطر انجراف التربة.
2- في دراسة أخرى هي “ورقة حقائق” صدرت عام 2022 عن مركز الميزان لحقوق الإنسان، تركّز على أزمة المياه في القطاع، تحت عنوان: “واقع محطات تحلية مياه الشرب الخاصة في قطاع غزة وأثرها على الصحة والبيئة”، ورد أنّ الاحتلال الإسرائيلي استنزف الخزّان الجوفي من مياه غزة، ثمّ حفر آباراً على طول السياج الفاصل شرقي القطاع، وأقام حواجز تمنع انسياب المياه السطحية نحو القطاع، وهو ما دفع أهالي غزة إلى حفر مئات الآبار الجوفية في كلّ أنحاء القطاع. وبما أنّ الاستهلاك السنوي هو أضعاف التعويض الطبيعي (190 مليون متر مكعب مقابل 55 مليون متر مكعب)، فإنّ مياه البحر تتسرّب إلى الآبار وتلوّثها، إضافة إلى ما يُحدثه الحفر المفرط للآبار والاستهلاك المكثّف لمياهها من تصدّعات جيولوجية.
3- تكشف دراسة صادرة عن مركز الأمن الاستراتيجي Journal of Strategic Security، عام 2016، تحت عنوان: “الحفر تحت إسرائيل: شبكة الأنفاق المتطوّرة لحماس”(Digging Into Israel: The Sophisticated Tunnelling Network of Hamas) أنّ الأنفاق كانت في غزة لأغراض اقتصادية أوّلاً، لتهريب البضائع إلى غزة عبر صحراء سيناء. وكان التهريب من أساسيات الاقتصاد الغزّيّ، ويدرّ سنوياً ما يقارب 700 مليون دولار. ووصل عدد الأنفاق ما بين غزة ومصر إلى أكثر من ألف نفق. وأوّل نفق للتهريب اكتشفه الإسرائيليون عام 1983. ويرجَّح أنّ المقاومة الفلسطينية بدأت باستعمال الأنفاق عسكرياً خلال انتفاضة الأقصى عام 2000. وعندما سيطرت حركة حماس على القطاع عام 2007، طوّرت الأنفاق التي حفرها الفتحاويون، واستعملوها منذ ذلك الحين، في جولات القتال المتعاقبة مع إسرائيل، وكان استعمالها كأنفاق هجومية داخل إسرائيل وباتجاه المواقع العسكرية، بهدف قتل الجنود الإسرائيليين واختطافهم، أو دفاعية لردّ الهجمات الإسرائيلية، أو لوجستية لتخزين السلاح وتصنيعه. لكنّ الجهد المبذول على حفر الأنفاق لأغراض عسكرية تضاعف مع إغلاق الأنفاق التجارية على حدود مصر، من الجهة المصرية ولأسباب أمنيّة، أي ما بين عامَي 2014 و2023. فهل كان الوقت كافياً لإنشاء شبكة مترامية الأطراف؟ ومن أين توافرت التقنيات والمهارات؟ بحسب الدراسة الآنفة الذكر، يتطلّب تنفيذ هذا المشروع المعقّد مجموعة متنوّعة من أصحاب الخبرة التقنيّة، ومن بينهم الأفراد ذوو المعرفة المتخصّصة في الهندسة المدنية والمعمارية والجيولوجيا والهندسة الكهربائية والتعدين. ولا يوجد، بحسب الدراسة، ما يكفي من معلومات للإشارة بأيّ قدر من اليقين إلى ما إذا كانت حماس قد سعت إلى الحصول على خبرة محدّدة لإثراء جهودها في حفر الأنفاق الهجومية أو ما إذا كانت قد اكتسبت الخبرة من خلال تكرار عملية التجربة والخطأ.
4- الأهمّ من كلّ ذلك، كيف يمكن الحفاظ على سرّية العمل في الأنفاق، وعلى مواقعها، وهناك الآلاف من العمّال الذين يحفرون على مدى سنوات طويلة؟ إنّ الحرص الأمنيّ يفرض استخدام أدوات غير متطوّرة للحفر والتدعيم، كي لا تصدر أصوات قوية، وهو ما يؤدّي عادة إلى انهيارات في الأنفاق وسقوط ضحايا بين العمال، وهو ما شهده القطاع في السنوات التي سبقت الحرب الجارية.
في خلاصة أوّلية، يبدو بالنظر إلى محدودية الإمكانات الطوبوغرافية والعمرانية والاقتصادية والتقنية في قطاع غزة، أنّ شبكة الأنفاق ليست بالسعة التي يروَّج لها. ولدى إسرائيل معرفة كافية بالعوائق الطبيعية وغيرها، وهي بنت استراتيجيتها العسكرية على هذا الأساس. فهناك مناطق لا يمكن الحفر فيها بخلاف مناطق أخرى. وهناك شبكات مترابطة في مناطق دون سواها. وثمّة ملاجئ للمقاتلين من القصف، وفتحات لإطلاق الصواريخ، وهذا النوع الأكثر انتشاراً.