تدلل الحرب في غزة وبجلاء صارخ على أنه لا يوجد وزن حقيقي في المنظومة المعاصرة للعلاقات الدولية لالتزام الأمم والشعوب فيما بينها بالقيم الديمقراطية العالمية المتمثلة في تجنب الحروب والصراعات المسلحة والمواجهات العسكرية وفي رفض توريط البشرية المعاصرة في معاناة مستمرة من جراء المذابح وجرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وسقوط الأبرياء ضحايا لحروب التوسع والاحتلال والاستيطان وللحروب الأهلية – المدفوعة بصراعات الموارد كما بصراعات العرق والدين والمذهب – وضحايا لجنون الإرهاب ولانتهاكات حقوق الإنسان.
لا يوجد أيضا وزن حقيقي في المنظومة المعاصرة للعلاقات الدولية لالتزام الأمم والشعوب بحقوق الإنسان حين تمتنع القوى الكبرى عن التدخل الإنساني والدبلوماسي والعسكري الفعال عندما تنشب الحروب الأهلية والصراعات المسلحة في بلدان لا أهمية استراتيجية كبرى لها ولا مصالح حيوية للغرب فيها، بل وحين تتجاهل المذابح وجرائم الإبادة في مقابل الاندفاعات المتكررة للتدخل العسكري في المناطق والبلدان ذات الأهمية الاستراتيجية وبمعزل عن مظلة الشرعية الأممية.
الانحياز الغربي الأعمى لإسرائيل والصمت الأمريكي والأوروبي على جرائم الحرب المرتكبة منذ أسبوعها الأول والحصيلة المرعبة للقتلى من الأطفال والنساء والرجال، يفقد واشنطن وحلفاءها على الضفة الأخرى من المحيط الأطلنطي الفاعلية السياسية
أما تناول الأسباب الحقيقية لغياب هذه المبادئ والقيم التحليل، فيدفع حتما إلى إدراك أن الفكرة الديمقراطية تمر بأزمة عاصفة وإلى الاعتراف بأن خطاب «الانتصار النهائي» للديمقراطية لم يعد له ذات التوهج المعرفي والمجتمعي والسياسي الذي كان له في خواتيم القرن العشرين بعد سقوط الاتحاد السوفييتي السابق وانهيار الكتلة الشيوعية.
فالولايات المتحدة والبلدان الأوروبية، وهي كانت تأتي تقليديا في طليعة المجتمعات والدول التي يشار إليها إيجابيا فيما خص الالتزام بقيم سيادة القانون وتداول السلطة وصون الحقوق والحريات في إدارة الشؤون الداخلية، تواجه اليوم عصفا منظما بالفكرة الديمقراطية وقيمها. من جهة، تتواصل انتكاسات سيادة القانون بسبب نزوع الحكومات المنتخبة في الغرب الأمريكي والأوروبي للتغول على المواطن وإخضاعه جهرا أو سرا لصنوف مختلفة من المراقبة الدائمة، وتمرير القوانين الاستثنائية لإضفاء شرعية إجرائية على تشويه هوية المواطن الحر باختزال وجوده الفردي والخاص وكذلك وجوده في سياقات جماعية وعامة إلى مكمن خطر أو مصدر تهديد محتمل ينبغي بالضرورة إخضاعه للمراقبة وبالتبعية ضبطه والسيطرة عليه.
كذلك تحكم النخب الحزبية والسياسية والإدارية ومعها المصالح الاقتصادية والمالية، وعلى الرغم من توفر ضمانات قانونية وإجرائية لصون حرية التعبير عن الرأي ولابتعاد المؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة عن العبث بها ولمنع السطوة الاحتكارية، فرض قبضتها على المجال العام عبر حقائق الثروة والنفوذ والملكية الخاصة لوسائل الإعلام ودور النشر وغيرها، وتوظف مساحاته لتدوير قناعاتها ورؤاها وأنساقها مدعية احتكار الحق الحصري للحديث باسم الأخلاق والإنسانية وقيم الديمقراطية التي يروج للتحايل على أزمتها العاصفة. كذلك تتورط نفس النخب في التشكيك دون نقاش موضوعي وباستعلاء صارخ في أسباب جاذبية منظومات الأفكار البديلة إن تلك التي تعترف من داخل الانتماء للفكرة الديمقراطية بأزمتها وتبحث لها عن مخارج أو الأخرى التي تسعى لتجاوز القيم الديمقراطية مع استمرار عجزها عن ضمان الحقوق والحريات وضمان الأمن والسلم العالميين.
وفيما خص الحرب في غزة، وبفعل السياسات والممارسات المنحازة إلى إسرائيل، تخاطر الولايات المتحدة الأمريكية ومعها الدول الأوروبية بفقدان قدرتها على التأثير في مجريات الأمور. يبدو أن حكومة الحرب الإسرائيلية تعتبر انحياز الحكومات الغربية بمثابة ضوء أخضر لمواصلة قصف غزة وتنفيذ الهجوم البري عليها وارتكاب جرائم حرب مفزعة سقط فيها آلاف المدنيين بين قتيل وجريح. ومع الضوء الأخضر الذي أعطي غربيا بداية لبنيامين نتنياهو والمؤسسات العسكرية والأمنية الإسرائيلية، ليس لبايدن ورفاقه الأوروبيين اليوم أن يطالبوا بهدنة إنسانية أو وقف لإطلاق النار أو دخول عاجل للمساعدات إلى القطاع أو بإعادة النظر في الهجوم البري الذي شرعت فيه القوات الإسرائيلية بالفعل. هذا هو لسان حال حكومة تل أبيب التي تتصرف بانفرادية شبه تامة وتعلم مسبقا أن الحكومات الغربية لن تضغط عليها بجدية.
بل أن الانحياز الغربي الأعمى لإسرائيل والصمت الأمريكي والأوروبي على جرائم الحرب المرتكبة منذ أسبوعها الأول والحصيلة المرعبة للقتلى من الأطفال والنساء والرجال، يفقد واشنطن وحلفاءها على الضفة الأخرى من المحيط الأطلنطي الفاعلية السياسية حين تأتي منهم تساؤلات هامة لا تملك إسرائيل إجابات عليها. بينما تواصل آلة القتل الإسرائيلية ارتكاب جرائم حرب بانتقامها الأعمى وعقابها الجماعي لأهل غزة وتورطها في تهجيرهم داخل القطاع، تتحايل الحكومات الغربية على الرأي العام العربي والعالمي اللذين تروعهما مشاهد المقتلة الإسرائيلية والأعداد المفزعة للضحايا من الأطفال والنساء والرجال بإطلاق التصريحات التي تطالب حكومة الحرب في تل أبيب باحترام القانون الدولي العام والقواعد المنظمة للحروب ومقتضيات حماية المدنيين وتدعو إلى إدخال المساعدات الإنسانية العاجلة إلى غزة. وهذه، جميعها، تصريحات فارغة من المضمون لكونها لا ترتبط بممارسة ضغوط فعلية على إسرائيل لكف آلة القتل عن الفلسطينيين في غزة وللامتناع عن إصدار أوامر التهجير، ولكونها لم تحل بين الحكومات الغربية وبين إغراق إسرائيل بالمساعدات العسكرية والمالية.
إلا أن الحكومات الغربية تمارس زيفا آخر يرفض أن يقر للشعب الفلسطيني حقوقه الأساسية المتمثلة في تقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة وعودة اللاجئين ويصنفها كحقوق يمكن التحايل عليها والتنصل منها والامتناع عن العمل على وضعها موضع التنفيذ.