المقاربة الفرنسية المتشددة في التعامل مع الانقلاب العسكري في النيجر فشلت في تحقيق أهدافها وهو ما ساهم في مزيد عزلها بعد أن فتحت الحكومات الغربية والولايات المتحدة جسور تواصل مع نيامي.
نيامي – تتجه النيجر لاعتبار اليوم الجمعة 22 ديسمبر 2023 يوما تاريخيا بالنسبة إليها، حيث سيرتبط بالإعلان عن مغادرة آخر جندي فرنسي لترابها الوطني. وجاء في تقرير حكومي تم نشره على التلفزيون الرسمي الأسبوع الماضي أن ما لا يقل عن 1346 عسكريا فرنسيا قد غادروا البلاد، مع 80 في المئة من المعدات العسكرية الثقيلة.
وأوضح التقرير أن عدد الجنود الفرنسيين المتبقين في النيجر لا يتجاوز 157 عسكريا، بينهم 75 من اللوجستيين، وأضاف التقرير أن جميع الجنود الفرنسيين سيكونون قد غادروا البلاد بشكل نهائي بحلول 22 ديسمبر.
في المقابل، ستبدأ النيجر تصدير نفطها الخام إلى السوق العالمية في يناير المقبل، حيث سيتم نقل النفط الخام من شرق البلاد إلى دولة بنين المجاورة عبر خط أنبوب عملاق تم تشييده بالتعاون مع شركة سينوبك الصينية. ومن المتوقع أن تبدأ الصادرات الأولى في يناير، بإنتاج أولي قدره 90 ألف برميل يوميا، وهو ما سيساهم بقسط كبير في تجاوز الأزمة المالية والاقتصادية الناتجة عن العقوبات المسلطة على البلاد من قبل المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس”.
وبحسب مراقبين، فإن الوضع في النيجر يشهد انفراجا على مختلف الأصعدة، لاسيما بعد الإعلان رسميا عن اعتراف لجنة أوراق اعتماد الأمم المتحدة بالمجلس العسكري الحاكم كممثل وحيد للسلطات النيجرية لدى جميع هيئات الأمم المتحدة. ويعتبر هذا الاعتراف منطلقا مهما لتكريس التحول السياسي الناتج عن الانقلاب العسكري الذي عرفته البلاد في 26 من يوليو 2023، فيما بدأت العواصم الغربية فتح جسور التواصل مع النظام العسكري في النيجر أمام أنظار فرنسا المطرودة بشكل مهين من مستعمرتها السابقة.
أعلن وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس خلال زيارة صداقة وعمل إلى النيجر، الثلاثاء، رغبة بلاده في مواصلة وتعزيز الشراكة مع النيجر خاصة في المجال العسكري، مشيرا إلى استئناف كافة المشاريع المتوقفة بعد الانقلاب العسكري ابتداء من عام 2024.
ويوجد في النيجر حوالي 120 مستشارا عسكريا ألمانيا لتدريب القوات المسلحة النيجرية، وبدعم من ألمانيا قامت النيجر بتطوير مراكز تدريب الضباط والقوات الخاصة وكذلك مشاريع أخرى بما في ذلك مشاريع النقل العسكري. ويعتبر الموقف الألماني دعما مباشرا للسلطات العسكرية في نيامي، وتأكيدا على عدم الاكتراث بالموقف الفرنسي المناهض لها.
وكانت إيطاليا قد دشنت حوارا دبلوماسيا مع نيامي حول العلاقات الثنائية وملف الهجرة غير الشرعية، وذلك بعد أن أعلن وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاجاني أنه يجب استبعاد أي تدخل عسكري غربي في النيجر لأنه سيعتبر استعمارا جديدا، وأضاف “يجب أن نعمل لضمان أن تسود الدبلوماسية في النيجر واستعادة الديمقراطية”.
والأسبوع الماضي، أوضحت مساعدة وزير الخارجية الأميركية للشؤون الأفريقية مولي في، خلال زيارتها إلى العاصمة نيامي أنّ الولايات المتحدة مستعدة لاستئناف تعاونها مع النيجر، شريطة أن تلتزم قيادات المجلس العسكري بمرحلة انتقالية قصيرة.
والتقت مولي في أثناء زيارتها إلى نيامي مع العديد من المسؤولين النيجريين بمن فيهم رئيس الوزراء الأمين علي محمد الأمين زين، حيث شددت على ضرورة أن يعلن المجلس العسكري “موعدا نهائيًا لانتقال سريع وذي مصداقية” يؤدي إلى “حكومة منتخبة ديمقراطيا”، في الوقت الذي يقترح فيه الجيش فترة انتقالية مدتها 3 سنوات كحد أقصى، على أن يتم تحديد مدتها من خلال “حوار وطني” يعقد قريبا قبل عودة السلطة إلى المدنيين.
ويرى المراقبون، أن العواصم الغربية تسعى للحفاظ على مصالحها في دول الساحل، وإيجاد مواقع لها أمام زحف نفوذ روسيا والصين وتركيا على وسط أفريقيا وغربها، وأن واشنطن ترفض ترك الكراسي فارغة لمنافسيها الأساسيين في المنطقة، خصوصا وأنها تدرك أهمية المنطقة من حيث الجغرافيا السياسية والأبعاد الإستراتيجية والحرب على الإرهاب والثروات الطائلة التي تحتكم عليها دول الساحل والصحراء.
ويضيف المراقبون، أن ملف التدخل العسكري المباشر في النيجر قد طوي تماما، وهو ما تدركه دول الجوار، كما أن شرط بعض الدول على المجلس العسكري في نيامي بضرورة تقليص الفترة الانتقالية للدخول معه في علاقات طبيعية ليس سوى محاولة لتبرير الاعتراف بالانقلاب العسكري والإطاحة بنظام ديمقراطي منتخب.
وينتظر أن تشهد الأسابيع القادمة جملة من المستجدات المهمة، وخاصة من حيث دعم الخيارات الوطنية داخل النيجر، والانفتاح على مبادرات غربية ذات علاقة بالاستثمار والتنمية في مواقع كانت سابقا حكرا على فرنسا، وذلك بالتزامن مع الرفع من مستويات العلاقة مع موسكو، حيث أكد رئيس وزراء النيجر علي محمد الأمين زين، قبل أيام، أن الأسلحة الروسية ساعدت بلاده في مواجهة الجماعات المسلحة بفعالية، وأن بلاده ترغب في تعزيز التعاون مع روسيا.
وأضاف “مرة أخرى، لا بد من القول إن النيجر وروسيا تتعاونان مجددا، ونحن نحاول المضي قدما في جميع مجالات الاقتصاد والأمن”، مشيرا إلى أن المعدات العسكرية التي تم شراؤها سابقا من روسيا سمحت لسلطات البلاد بمواجهة الجماعات المسلحة بشكل أكثر فعالية.
وتجد فرنسا نفسها في وضع صعب داخل مستعمراتها السابقة بمنطقة الساحل، ودون أن تحظى بأيّ تعاطف من العواصم الغربية الأخرى، وذلك لأسباب عدة، منها أن باريس تدفع ثمن تاريخ من الأخطاء في التعامل مع شعوب المنطقة من حيث استغلال ثرواتها الباطنية وتجاهل تطلعاتها التنموية وقضاياها المصيرية وخصوصياتها الثقافية والحضارية، ودعم الدكتاتوريات وخنق نزعة التحرر لدى النخب الوطنية.
وفي خطابه للشعب الأحد الماضي بمناسبة الذكرى الخامسة والستين لإعلان قيام جمهورية النيجر اعتبر رئيس الدولة رئيس المجلس الوطني لحماية الوطن الجنرال عبدالرحمن تشياني أن بلاده ومنطقة الساحل في طريقهما إلى استقلال حقيقي خال من العقد تجاه الغرب.
وقال “اعتقدت كل من إيكواس والاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا، أنه بإمكانهما إخضاعنا وإجبارنا على الركوع، وإعادتنا إلى نظام الحكم السابق الذي كانت فرنسا تدعمه، لكنّ هاتين المنظمتين الإقليميتين لم تكونا على دراية بأنهما تتحديان شعبا شجاعا وعريقا، من نسل وروح وشجاعة شخصيات تاريخية بارزة ساهمت في بناء دولة النيجر”، مردفا ” لقد ولّى زمن الألاعيب والتهديدات والابتزاز، النيجر هو وطننا ويخصنا نحن، ونحن من نقرر مصيره”.
وفي حديثه عن علاقات النيجر مع مالي وبوركينا فاسو قال الجنرال تشياني “تتمثل رؤية وحدتنا – مع بوركينا فاسو ومالي- في السعي نحو هدف موحد وواضح يتمثل في خدمة مصالح شعوب منطقة الساحل وتحقيق حلم أفريقيا المستقلة والقوية بلا عقدة ولا نقص، وعليه أود التأكيد بصفة خاصة على دور إخوتنا في بوركينا فاسو ومالي الذين كانوا دوما حلفاءنا في مواجهة قوى الشرّ، اليوم، وبالتعاون مع إخواني إبراهيم تراوري وعاصمي غويتا، نقف متحدين بعزم لصياغة فصل جديد في تاريخ أفريقيا؛ أفريقيا التي تتمتع بحرية حقيقية واستقلال تام لشعوبها”.
واتهم الرئيس النيجري فرنسا باستغلال ضعف بلاده لتوقيع اتفاقيات غير مفيدة للشعب، وقال “لقد تم تكميم أفواهنا بما فيه الكفاية، ومن السهل أن نرى مدى الحرمان الذي وقعنا ضحاياه من خلال الاتفاقيات التي ألغيناها، وسنستمر في اتخاذ إجراءات في الأيام والأشهر المقبلة من شأنها أن تؤكد بشكل أكبر سيادة بلادنا والازدهار المتجدد”، وفق تعبيره.
واستنكر الجنرال مجددا العقوبات التي فرضتها إيكواس على النيجر، مشيرا إلى أن إيكواس أصبحت أداة بيد دول أجنبية معروفة، تملي عليها القرارات، وأكد أنه لا تراجع عن المسار الجديد الذي رسمته النيجر في علاقاتها الدولية، مردفا “المسار الجديد الذي رسمناه لأنفسنا سيقودنا إلى الاستجابة لآمال الشعب النيجري”.
وجاءت هذه المواقف بعد أيام من اعتراف قمة رؤساء دول وحكومات إيكواس بالوضع الحالي في النيجر، وقرارها إجراء مفاوضات مع المجلس العسكري بهدف وضع جدول زمني لمرحلة انتقالية تفضي إلى انتخاب حكومة ديمقراطية مدنية.
وفي الوقت الذي أمرت فيه محكمة العدل التابعة لإيكواس بالإفراج عن الرئيس المخلوع محمد بازوم وزوجته خديجة وابنه سالم، وإعادته إلى السلطة لممارسة مهامه الرئاسية، أعلن المتحدث باسم المجلس العسكري العقيد أمادو عبدالرحمن إدانة المجلس والحكومة الانتقالية والشعب النيجري لاستفزازات إيكواس بشأن مشاركة بعض عناصر النظام المخلوع، في قمة دول إيكواس التي عقدت أعمالها في أبوجا بنيجيريا.
اتهم المجلس العسكري إيكواس بالمشاركة في خطة لزعزعة استقرار النيجر بقيادة دولة أجنبية، في إشارة إلى فرنسا، وأشار العقيد أمادو إلى أن إيكواس يجب أن تعلم أن استفزازاتها للسلطات النيجرية لن تساهم أبدا في الحل السلمي للأزمة السياسية، معتبرا أن المنظمة الإقليمية “تتعامل مع النيجر بازدواجية، حيث أعلنت تعليق عضويتها في جميع مؤسساتها، في حين تدعو عناصر النظام المخلوع إلى المشاركة في أعمال القمة باسم النيجر”.
◙ الدول الغربية تسعى للحفاظ على مصالحها في دول الساحل وإيجاد مواقع لها أمام زحف النفوذين الروسي والصيني
وردت إيكواس على اتهامات المجلس العسكري لها بالقول إن مشاركة عناصر النظام المخلوع في قمتها الأخيرة كانت قبل اعترافها بالإطاحة ببازوم رسميا، وأنها كانت تعتبر ما حدث في النيجر محاولة الانقلاب.
ووفقا للمنظمة الإقليمية، فإنها لم تعترف بأن حكومة محمد بازوم قد أطيح بها فعليا عن طريق انقلاب عسكري إلا في نهاية قمة 10 ديسمبر الجاري، واعتبارا من ذلك اليوم، فقد تم تعليق عضوية النيجر في جميع هيئات صنع القرار في المنظمة حتى استعادة النظام الدستوري في البلاد.
وقال رئيس مفوضية المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إكواس) عمر أليو توراي إن فريقا من رؤساء الدول سيعمل مع المجلس العسكري ”للاتفاق على برنامج انتقالي قصير” بخلاف السنوات الثلاث التي اقترحها المجلس العسكري الحاكم في وقت سابق.
لكن سلطات النيجر ترى أن أيّ تدخل في شؤونها وقراراتها يعتبر أمرا غير مقبول، وتعتبر أن عددا من العواصم الغربية بدأت تنفتح على التعامل معها، وهو ما يشكّل تحولا مهما في مواجهة الموقف الفرنسي المتشدد ضد الوضع الحالي القائم في البلاد، حيث تجد باريس نفسها على الهامش بينما تشهد مستعمراتها السابقة تحولات مهمة في توجهاتها السياسية وتموقعها الإستراتيجي وعلاقاتها الدولية.
العرب