في التاسع عشر من نوفمبر الماضي وبرفقة فريق تصوير سينمائي هبطت طائرة مروحية حوثية من مخلفات الجيش اليمني السابق على سطح سفينة الشحن غالاكسي ليدر. وفي مشهد “هوليوودي” بثه الحوثيون لاحقا، انتشر مسلحون ملثمون في أرجاء السفينة العملاقة قبل اقتيادها إلى ميناء الحديدة، لتدشن الجماعة المرتبطة عقائديا وسياسيا بإيران بذلك أول عملياتها لاستهداف ممر الملاحة الدولي في البحر الأحمر، في محاولة للإعلان رسميا عن ولادة لاعب إقليمي جديد في المنطقة، قادر على إحداث ضرر يتجاوز اليمن ومحيطه إلى تهديد اقتصاد العالم.
لم يكن هذا التطور الدراماتيكي في مسار الأحداث مفاجئا لمن يراقبون رسائل الحوثي المشفرة التي طالما تسربت من بين ثنايا خطابه الإعلامي الموجه الذي كان يؤكد بما لا يدع مجالا للشك بأن التصعيد التالي سيكون بحريا، في أعقاب التصعيد الجوي والصاروخي خلال السنوات الماضية الذي حمل توقيعه وبصمات الحرس الثوري الإيراني.
قبل هذه العملية التي كانت فاتحة للكثير من الهجمات التي طالت سفن التجارة العابرة بالقرب من مضيق باب المندب خلال الأيام الماضية، كان الحوثيون قد جسّوا نبض العالم عبر سلسلة متتالية من الهجمات التي استهدفت منشآت مدنية واقتصادية في السعودية والإمارات، كان أخطرها الهجمات التي وقعت على منشأتي النفط في بقيق وهجرة خُرَيص السعوديتين في منتصف سبتمبر 2019، حيث لم يبد المجتمع الدولي وخصوصا واشنطن حينها أيّ ردة فعل تتناسب مع حجم هذا الاعتداء الهائل الذي ألحق الضرر بمصادر إنتاج الطاقة ويشير إلى أن التالي سيكون أكثر فداحة، بل إن موقف واشنطن كان مخيبا للآمال أكثر مما يُحتمل في الحسابات السياسية، بعد تدشين إدارة الرئيس جو بايدن عهدها بإلغاء تصنيف الجماعة الحوثية من قائمة المنظمات الإرهابية في منتصف فبراير 2021. حدث ذلك في الوقت الذي كان فيه الحوثيون يحتجزون العشرات من موظفي السفارة الأميركية والأمم المتحدة في صنعاء ويجرون الاستعراضات العسكرية التي تهتف بشعار “الموت لأميركا”!
◙ الغرب رفع عام 2018 بطاقة حمراء بوجه قوات المقاومة المدعومة من التحالف العربي التي تقترب من تحرير الساحل الغربي لليمن وموانئ الحديدة
تجاهلت أميركا والدول الغربية عموما الكثير من تعقيدات الأزمة اليمنية، وفي مقدمتها طبيعة الجماعة الحوثية ذاتها التي تعمل كتنظيم عقائدي وضعته الأيديولوجيا الدينية والموجهات السياسية الإيرانية الصارمة على مسار تصعيدي ثابت، يلبي مقتضيات الحاجة الإيرانية ولا يتوقف إلا ليلتقط أنفاسه قليلا أو ليراوغ الضغوط الدولية الناعمة، ليعاود السير مجددا في طريقه المرسوم الذي لا يبدو أن له نهاية معلومة أو إشارات مرور أو خط نهاية، كما هو حال الجماعات العقائدية التي لا تؤمن بالحلول السياسية.
كانت الهجمات الحوثية على ممر الملاحة الدولي مآلا متوقعا، وورقة ظلت طهران تلوّح بها في وجه العالم، لكنها لم تعمد إلى تحريك هذا البيدق الشرس على رقعة الصراع الإقليمي إلا في الوقت الذي يلبّي حاجاتها الإستراتيجية ويمنح ذراعها الحوثي في نفس الوقت شيئا من البريق الإعلامي والوهج الأخلاقي الذي كان يفتقد إليه كثيرا، جراء تاريخ طويل من الانتهاكات والممارسات العنيفة والشعارات الخادعة التي كانت إحدى أبرز نقاط ضعف الحوثيين القاتلة على الصعيد الداخلي، في ظل حالة رفض متفاقمة تعتمل وتتصاعد في الشارع اليمني وأسئلة تكبر كل يوم على ألسنة اليمنيين وفي قلوبهم حول شعار “الموت لأميركا الموت إسرائيل” الذي كانت الجماعة تمارس القتل والتخوين تحت رايته، والذي وصفه الشقيق الأكبر لزعيم الجماعة ووزير تعليمها يحيى الحوثي، قبل تمكّن الحوثيين، بأنه مجرد “كلام”!
اختبأت الهجمات الحوثية على سفن الشحن في البحر الأحمر تحت رداء “مظلومية” غزة، وهي مظلومية حقيقية وفرصة سانحة للتحشيد والتصعيد المضاد، وفّرتها الوحشية الإسرائيلية والازدواجية الغربية. واستطاع الحوثيون ومن خلفهم محور إيران توظيف هذه الحالة واستغلالها بشكل جيد، استنادا إلى تاريخ طويل من الخبرة في الاختفاء خلف شعارات المظلومية والبكائيات التي تحوّلت في الكثير من الأحيان إلى غطاء أيديولوجي لتبرير آلة القتل التي استمدت منها أذرع إيران في المنطقة قوتها لسحق خصومها السياسيين والعقائديين على حد سواء. غير أن الارتباط الحوثي بمظلومية فلسطين ومحاولة تلبسها كانا الحيلة الأخطر والأوسع مدى التي انطلت على الكثير ممن لا يعرفون تاريخ هذه الجماعات أو حتى بعض من عاصروا ممارساتها الوحشة. وبينما منحت هذه الهجمات وما رافقها من استعراض إعلامي الحوثيين الجانب الدعائي الذي كان ينقصهم يمنيا وعربيا ويقرب بين شعاراتهم الزائفة وأفعالهم على الأرض، كان الجانب الخفي في ما يحدث يلبّي تماما الرغبات المستترة لطهران خلف شعار مناصرة فلسطين.
مع استمرار تداعيات الأحداث في قطاع غزة في ظل التصعيد الإسرائيلي الوحشي ضد الفلسطينيين الذي خلق حالة غير مسبوقة من التعاطف الشعبي على الصعيد العالمي، كانت الأنظار تتجه إلى حزب الله وأذرع إيران المباشرة في سوريا والعراق باعتبارها جزءا من مشروع إيراني يتصدر قائمة الانتقام الإسرائيلية والأميركية المحتملة، في سياق مخطط لإضعاف إيران وتفكيك نفوذها المتنامي في المنطقة. وفي هذا التوقيت الحاسم قامت طهران بنقلة غير متوقعة، تمثلت في تحريك بيدقها الحوثي أو من تسمّيهم “شيعة الشوارع”، لصرف الأنظار عن أذرعها المباشرة. واكتسبت هذه النقلة التكتيكة أهميتها من عامل التوقيت، حيث كان الحديث يجري في كواليس المجتمع الدولي عن قرب التوصل إلى اتفاق وشيك ينهي الحرب في اليمن ويطوي صفحة الصراع الذي كاد يتحول إلى صراع إقليمي مستعر بفعل التأجيج الإيراني.
نجح الحوثيون إلى حد كبير وبتكتيك وتدبير إيراني صرف، في استغلال حالة التعطش الدولي لانتزاع اتفاق سلام في اليمن، فأخذت الجماعة تسير في مسارين متوازيين، أحدهما يتماشى مع الرغبة الدولية الجامحة وخصوصا الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي في تحقيق انتصار دبلوماسي في ملف الأزمة اليمنية، والمسار الآخر ظلت تواصل الجماعة عبره عملياتها في البحر الأحمر التي تزعم بأنها تأتي ردا على الاجتياح والحصار الإسرائيلي لغزة، بهدف تضييق الخناق اقتصاديا على تل أبيب القابعة على البحر المتوسط من خلال تضييق الخناق عليها في خليج العقبة! غير أن الكثير من البيانات والحقائق على الأرض كانت تشير إلى أن جل السفن التي استهدفها الحوثيون لا تمتّ لإسرائيل بصلة ولم تكن في طريقها أصلا إلى ميناء إيلات الذي يتحدث الحوثيون يوميا عن رشقه بزخات من الصواريخ والطائرات المسيّرة، التي تضلّ طريقها أو يتم إسقاطها في البحر الأحمر من قبل السفن العسكرية التي ملأت البحر الأحمر وتتزايد كل يوم مع التحركات الأميركية لتشكيل تحالف دولي يتصدى للقرصنة الحوثية بالقرب من باب المندب.
ومن مراقبة طبيعة التفاعلات الإقليمية والدولية مع تداعيات الهجمات الحوثية على سفن الشحن في البحر الأحمر وطريقة تعاطي المجتمع الدولي معها، يبرز حجم الارتباك الذي تعاني منه الدول الفاعلة في العالم التي أهدرت منذ سنوات فرص استكشاف وتحجيم خطر ذراع إيران الحوثي في خاصرة إمدادات الطاقة العالمية ومضيق باب المندب، إما نتيجة للجهل بحقيقة الجماعة الحوثية التي ظلت تبادل طيلة السنوات الماضية ما بين تصدير خطاب المظلومية وخطاب القوة، أو بسبب حسابات أخرى انتهازية على الأرجح، كانت تهدف إلى خلق حالة مستدامة من التوتر في المنطقة بهدف ابتزاز الحلفاء.
◙ أميركا والدول الغربية تجاهلت عموما الكثير من تعقيدات الأزمة اليمنية، وفي مقدمتها طبيعة الجماعة الحوثية ذاتها التي تعمل كتنظيم عقائدي
رفع الغرب في العام 2018 وخصوصا واشنطن ولندن البطاقة الحمراء في وجه قوات المقاومة المشتركة المدعومة من التحالف العربي التي كانت على وشك تحرير الساحل الغربي لليمن وموانئ الحديدة ورأس عيسى والصليف، التي يشن منها الحوثيون اليوم هجماتهم على سفن الشحن في ممر الملاحة الدولي، وهو الموقف الذي يصعب تفسيره والذي تشي تصريحات المسؤولين الغربيين اليوم إلى أنه تم استبداله بحالة من الندم المتأخر والارتباك إزاء الطريقة المثلى للتعامل مع التطورات المتسارعة التي لم تكن في الحسبان، والتي وضعت الكثير من الدول الغربية الفاعلة في الملف اليمني بين مقصلة حديثها خلال السنوات الماضية عن الدواعي الإنسانية لوقف الحرب في اليمن وبين الذهاب اليوم نحو تشكيل تحالف دولي جديد يشن حربا جديدة.
واليوم في ظل الغيوم الملبدة بالشكوك وغبار حرب ربما تلوح في أفق المنطقة، يجمع المجتمعان الدولي والغربي على وجه التحديد حصاد فشلهما في التعامل مع ميليشيات مسلحة ظنّا أن بإمكانهما ترويضها، فيما تشهد تصريحات المسؤولين الغربيين تراجعا لافتا في منسوب التفاؤل المفرط الذي كان يغرق أحاديث المبعوثين الأممي والأميركي المتعطشة لتوقيع اتفاق سلام في اليمن، بينما يغلب اليوم على تلك المواقف الرغبة في إرجاء مثل هذا الاتفاق واستثمار خبرة التحالف العربي في مواجهة الحوثيين، وجرّه للانضمام إلى تحالف دولي جديد، غير واضح المعالم، ولا يبدو أن جهود إخراجه إلى النور تسير بالتوازي مع تحولات حقيقية وجادة في الموقف الدولي وتحديدا الأميركي تجاه إيران وأذرعها في المنطقة.
العرب