تأثيرات الوضع السياسي الإسرائيلي على إدارة الحرب على غزة

تأثيرات الوضع السياسي الإسرائيلي على إدارة الحرب على غزة

مقدمة
يتفاعل المشهد الداخلي في إسرائيل حول كيفية الحرب على غزة وتحقيق أهدافها، بدأت تظهر بوادر تصدعات في الإجماع الإسرائيلي الداخلي بشأن أهداف الحرب وخيارات وقف إطلاق النار، كما تتجاذب المشهد السياسي الداخلي بشكل كبير، مصالح الفاعلين السياسيين الإسرائيليين. ترمي هذه الورقة إلى نقاش المشهد السياسي الداخلي الإسرائيلي وتأثيره على مسار العمليات العسكرية وأهداف الحرب.

نتنياهو وإدارة الحرب
بات واضحًا أن نتنياهو يدير الحرب بناء على مصالحه السياسية الداخلية، محاولًا البقاء في المشهد السياسي بعد أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول التي وقعت تحت حكمه. ويرى نتنياهو في إطالة الحرب وسيلة مركزية للحفاظ على بقائه، ومحاولة ترميم مكانته السياسية والشعبية. تلتقي مصالح نتنياهو مع مصالح المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، فالطرفان معنيان باستمرار الحرب حتى تحقيق الأهداف العسكرية منها، وهو القضاء على حركة حماس ولو استمرت الحرب شهورًا عديدة أو حتى سنوات. وعلى الرغم من التوتر المتراكم بين نتنياهو وحكومته والجيش، والذي بدأ قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول واستمر خلال الحرب على غزة، فإنهما متفقان على استمرار الحرب كل لمصالحه. نتنياهو يبحث عن البقاء السياسي، في حين أن الجيش يريد استعادة هيبته التي كُسرت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول وغير مهتم بالمشهد والسجالات السياسية الداخلية في إسرائيل، ولا شك أن الجيش كان سيفضِّل تغيير نتنياهو بشخص آخر قادم من عمق المؤسسة العسكرية، ولكن نتنياهو يضمن له استمرار الحرب.

يعمل نتنياهو بمثابرة للحفاظ على حكمه، ففضلًا عن إطالة الحرب، وتصريحاته المتكررة بأنه لن يوقف الحرب حتى القضاء على حركة حماس(1)، فإنه عمل على تثبيت حكومته من خلال الحفاظ على مصالح مركباتها المختلفة؛ فقد حافظ على الميزانيات المخصصة للأحزاب الدينية الأرثوذكسية في الموازنة العامة للعام 2023 في أعقاب الحرب، ولم ينفذ تقليصات جوهرية في الأموال المخصصة للتعليم الديني، كما أنه دعم مساعي وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، في توزيع السلاح على الناس، وإقامة فرق حراسة محلية مسلحة في البلدات اليهودية والتي وصل عددها لحوالي 750 فرقة حراسة. كما توافق مع اليمين الاستيطاني الذي يمثله حزب الصهيونية الدينية برئاسة وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، فيما يتعلق بتجميد الأموال المخصصة للسلطة الفلسطينية، وتصريحه بأنه لن يسمح بعودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة.

إلى جانب تصميمه على إطالة الحرب، وتثبيت أركان حكومته، فإن نتنياهو ينتج سردية يمينية لأحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول لتسويقها لقواعد اليمين، وتتمحور هذه السردية في النقاط التالية:

أولًا: أن المؤسسة العسكرية والأمنية هي المسؤولة عن إخفاق السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فهي من تقع على عاتقها مهمة الإنذار بتحضيرات حماس بتنفيذ هجوم كبير في جنوب إسرائيل، وأن المستوى السياسي كان يثق بالمؤسسة الأمنية والعسكرية التي كانت تقول له بأن حركة حماس غير معنية بمواجهة عسكرية مع إسرائيل، وأنها تقع تحت الردع الإسرائيلي.

ثانيًا: تحميل الاحتجاجات الشعبية التي خرجت في إسرائيل ضد حكومته بسبب التغييرات الدستورية التي كانت تنوي الحكومة تنفيذها، والعصيان العسكري الذي رافق هذا الاحتجاج، وخاصة في سلاح الجو الإسرائيلي، مسؤوليةَ الانطباع الذي وصل لأعداء إسرائيل أن الأخيرة منقسمة داخليا، وأن المؤسسة العسكرية ضعيفة بسبب رفض الخدمة العسكرية، مما شجع حركة حماس على تنفيذ هجماتها ضد إسرائيل.

ثالثًا: تحميل اتفاقيات أوسلو وفك الارتباط عن قطاع غزة عام 2004، مسؤولية الأوضاع في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ حيث إن هذه الأحداث هي التي أدت إلى صعود حركة حماس كقوة عسكرية، بسبب غياب السيطرة العسكرية والأمنية على الضفة الغربية وقطاع غزة، وهي أحداث لا يتحمل اليمين عمومًا ونتنياهو خصوصًا المسؤولية عنها. وهي محاولة من نتنياهو لإرجاع إخفاق السابع من أكتوبر/تشرين الأول إلى مراحل وفترات لم يكن هو فيها رئيسًا للحكومة، ولم يتحمل مسؤوليتها. لذلك يصرح نتنياهو بأن لا عودة لاتفاق أوسلو، ولا عودة للسلطة الفلسطينية لقطاع غزة، لا بل صرح بأن إسرائيل تستعد لمواجهة عسكرية مع السلطة الفلسطينية(2).

يهدف نتنياهو إلى تقديم صورة انتصار في الحرب، يستطيع من خلالها التغطية على إخفاق السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وتثبيت مركّبات حكومته، وإعادة تشكيل وبناء قواعده الانتخابية حول قيادته لليمين وإسرائيل(3). يدرك نتنياهو أن بقاءه في السلطة يكمن في إقناع مؤيديه بدعمه بعد الحرب، وبهذا هو يراهن على غياب الإجماع في الشارع الإسرائيلي على وجوب خروجه من المشهد. يُظهر تحليل الاستطلاعات التي أُجريت في المجتمع الإسرائيلي منذ بداية الحرب، أن التغيير الأساسي الذي أحدثه نتنياهو هو إعادة تجميع قواعده التقليدية حول قيادته من جديد. في الاستطلاع الأخير للقناة 13 الإسرائيلية تبين أن 72% من الإسرائيليين يؤيدون استقالة نتنياهو فورًا أو بعد الحرب مباشرة (31% عليه الاستقالة فورًا، 41% عليه الاستقالة مباشرة بعد انتهاء الحرب). وعند فحص مواقف الذين صوَّتوا لحكومة نتنياهو وأطرافها في الانتخابات الأخيرة، يشير الاستطلاع إلى أن 70% من هؤلاء يؤيدون بقاء نتنياهو في الحكم حتى بعد انتهاء الحرب، وفقط 20% منهم يعتقدون أن عليه الاستقالة بعد الحرب(4).

بناء على ذلك، فبعد نهاية الحرب، أو وقف العمليات العسكرية، فإن خط الدفاع لدى نتنياهو سيكون التالي:

أولًا: ليس هناك إجماع في المجتمع الإسرائيلي على خروجه من المشهد السياسي، وهو نفس الخط الذي تبنَّاه في مشروع التغييرات الدستورية وخروج الاحتجاجات ضد حكومته؛ حيث زعم أن هناك مجموعة من الشعب تؤيد التغييرات الدستورية.

ثانيًا: تشكيل لجنة تحقيق رسمية وانتظار نتائجها، لمعرفة المسؤول عن أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وهي نتائج قد تأخذ اللجنة سنوات لإصدارها.

ثالثًا: التصويت ضد اقتراحات حجب الثقة عن الحكومة، فثبات حكومته (64 مقعدًا) يعطيه الإمكانية لصد هذه المقترحات والبقاء في الحكم.

خيارات إسرائيل لوقف الحرب
يشير السجال في المجتمع الإسرائيلي إلى تحول، وإن تدريجيًّا بطيئًا، في الثقة بقدرة إسرائيل على تحقيق أهداف الحرب، المتمثلة -كما تصرح بشكل رسمي- في القضاء على حركة حماس، واستعادة المحتجزين الإسرائيليين في قطاع غزة. ويمكن الإشارة إلى أن السجال يدور حول النقاط التالية:

أولًا: التناقض الجوهري بين هدفي الحرب: القضاء على حماس وتحرير المحتجزين، فلا يمكن تحقيقهما معًا، وتحقيق واحد منها سيعني التنازل عن الآخر. فالذهاب إلى حرب طويلة هدفها المعلن هو القضاء على البنية المدنية والعسكرية لحركة حماس سيكون ثمنه تعريض حياة المحتجزين للخطر، وربما موتهم جميعًا، سواء جراء القصف والعمليات العسكرية الإسرائيلية، أو كما يزعم بعض الخبراء، جراء قتلهم من طرف آسريهم عندما يشعرون أن نهايتهم اقتربت. في المقابل، فإن استعادة المحتجزين الإسرائيليين أحياء سيكون معناه التنازل عن هدف القضاء كليًّا على البنية المدنية والعسكرية لحركة حماس، التي أعلنت أن أي حديث عن صفقات تبادل أسرى ورهائن سيكون فقط بعد وقف إطلاق النار وانسحاب القوات الإسرائيلية من قطاع غزة. وهذا ما دفع رئيس الحكومة السابق، إيهود أولمرت، إلى المطالبة بوقف الحرب من أجل تحقيق الهدف المتمثل في تحرير المحتجزين الإسرائيليين، الذي يجب أن يكون برأيه الهدف الأساسي من الحرب(5).

ثانيًا: السؤال عن واقعية فكرة القضاء على حركة حماس. فهذا الهدف أصبح في نظر الكثير من الإسرائيليين هدفًا غير واقعي ولا يمكن تحقيقه، أو أن تحقيقه يعني استمرار الحرب لسنوات واحتلال قطاع غزة مع ما يترتب على ذلك من تكاليف اقتصادية وعسكرية، بشرية ودولية. لذلك تحول الالتفاف الجماهيري حول هذا الهدف إلى بداية التشكيك في واقعية تحقيقه، أو أن تحقيقه يتأتى من خلال الأدوات العسكرية فقط(6).

ثالثًا: تحييد الخلافات السياسة في زمن الحرب. فمع بداية الحرب تم الإجماع على تحييد الخلافات السياسية والحزبية جانبًا، والحديث عن أهمية الوحدة في زمن الحرب، حتى لو استدعى ذلك، في نظر المعارضين للحكومة، عدم مطالبة نتنياهو بالاستقالة والمبادرة إلى الانضمام لحكومة وحدة وطنية، والتي تمخضت بالنهاية عن حكومة الطوارئ. في بداية الحرب، أعلن رئيس المعارضة، يائير لبيد، عن استعداده المشاركة في الحكومة، ورفض المطالبة باستقالة نتنياهو بسبب السابع من أكتوبر/تشرين الأول. أما في الأسابيع الأخيرة فقد تصدع هذا الإجماع نحو مطالبة نتنياهو بالاستقالة، وغيَّر لبيد موقفه السابق مطالبًا نتنياهو بالتنحي عن الحكم(7). كما أن شعار الحرب “معًا ننتصر” لم يعد محل إجماع في المجتمع الإسرائيلي فقد ظهرت الخلافات السياسية من جديد، حتى إن هناك تيارًا في حزب المعسكر الرسمي برئاسة بني غانتس يطالب بالانسحاب من الحكومة(8)، وبدأت المظاهرات تخرج مطالبة باستقالة نتنياهو.

بناء على ذلك، يمكن الإشارة إلى مجموعة من الخيارات التي ظهرت في المشهد الإسرائيلي وتتعلق بوقف الحرب:

الخيار الأول: طرَحه ويقوده نتنياهو المتمثل في المضي بالحرب حتى تحقيق الهدف المركزي بالنسبة له، ألا وهو القضاء على القدرات العسكرية لحركة حماس، وتفكيك البنية المدنية الحكومية للحركة في قطاع غزة. هذا الخيار يعني احتلال قطاع غزة، والمكوث فيها وبناء إدارة مدنية تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية. وتحقيق هذا الخيار يتطلب مدة طويلة للحرب قد تستغرق أشهرًا وحتى سنوات، ويحمل تكلفة باهظة أمنيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا ودوليًّا. ينطلق هذا الخيار من أن وقف القتال يعتمد على تحقيق هذا الهدف بالأساس. في مقال نشره نتنياهو في صحيفة وول ستريت جورنال، أشار إلى تصوره للأفق السياسي، المتمثل في ثلاثة محاور: القضاء على حركة حماس، وتحويل غزة إلى منطقة منزوعة السلاح، وتعليم الفلسطيني وتثقيفه بعدم كراهية اليهود(9).

الخيار الثاني: وهو الخيار الذي يجعل موضوع الأسرى والرهائن هدفًا مركزيًّا للحرب. فمن أجل استعادتهم على إسرائيل أن تدفع ثمن ذلك من خلال إعلانها وقف إطلاق النار. ينطلق هذا الخيار من أن الحرب حتى الآن ضربت بنية حماس بشكل كبير؛ مما يستحيل بعدها عودتها لسلطة حاكمة في قطاع غزة، لذلك فإن استعادة الأسرى والرهائن يجب أن تكون الهدف الأساسي لإسرائيل في هذه المرحلة، وعلى إسرائيل وقف الحرب والذهاب لصفقة تبادل أسرى في سبيل تحقيق هذا الهدف.

أما الخيار الثالث، فهو الخيار الأميركي إن صح التعبير. ينطلق من أن وقف الحرب يجب أن يكون بتحقيق الأفق السياسي لها، المتمثل في عودة سلطة فلسطينية متجددة تحكم الضفة الغربية وقطاع غزة، وإذا استطاعت الحرب تحقيق هذا الهدف السياسي الذي يحمل طابعًا إستراتيجيًّا، سيكون هو الإنجاز الحقيقي لإسرائيل وليس تحقيق أهداف عسكرية. فالحرب يجب أن يكون لها معنى سياسي، وفي حالة تحققه أو خلقت الحرب ظروفًا لتحققه فيجب وقفها. ويرتبط هذا الخيار بالتوجه الأميركي الذي يدعم تجديد السلطة الفلسطينية، وتعزيز قوتها الأمنية لتكون مسؤولة عن الضفة الغربية وقطاع غزة.

خاتمة
يواجه توجه نتنياهو في الحرب مجموعة من العقبات، أهمها المعارضة الأميركية لتصوره لما بعد الحرب، ومعارضة داخلية لبقاء إسرائيل دولة محتلة في قطاع غزة، والأهم عدم قدرته على تحقيق هذا التوجه ميدانيًّا دون تكبُّد خسائر كبيرة على جميع المستويات. في المقابل، هناك صعود لتيار في المجتمع الإسرائيلي يدعو للتفكير من جديد بأهداف الحرب، وأولوياتها، وواقعية أهدافها، فضلًا عن النقاش الداخلي حول الأفق السياسي لها. يرى اليمين الإسرائيلي في الحرب فرصة لتحقيق أحلامه الاستيطانية، ومنها تهجير سكان قطاع غزة من جهة، وإعادة بناء المشروع الاستيطاني الذي انتهى عام 2004، لا بل وتوسيعه. في المقابل، ترى المعارضة الإسرائيلية خطورة في العودة إلى قطاع غزة واحتلالها، وتتماهى مع التصور الأميركي في إعادة سلطة فلسطينية متجددة إلى القطاع تزيل عن كاهل إسرائيل أعباء الاحتلال.

يراهن نتنياهو على أن مخاطبة الأحلام الاستعمارية الاستيطانية لليمين سوف تبقيه في السلطة، وتنتج تباينًا جديدًا حول مستقبل قطاع غزة، ويعتمد هو عليه في بقائه في السلطة في المرحلة القادمة، مسوقًا نفسه على أنه الوحيد القادر على تحقيق هذه الأحلام، وإعادة بناء الكتلة اليمينية حوله من جديد، استعدادًا للمرحلة السياسية القادمة في المشهد السياسي الإسرائيلي. في النهاية، تبقى نتائج الميدان والمعارك هي العامل الأساسي في تقرير مستقبل قطاع غزة.