أعياد ميلاد حزينة في العراق خيم عليها حريق الحمدانية وأحداث غزة

أعياد ميلاد حزينة في العراق خيم عليها حريق الحمدانية وأحداث غزة

ما يروج في العراق من خطاب سياسي طافح بالتسامح الديني والمودّة لمسيحيي البلاد لا يعكس اهتماما حقيقيا بأوضاع هذا المكوّن الذي يوشك أن ينتهي وجوده في البلد بشكل نهائي، بقدر ما يعكس رغبة السياسيين في تلميع صورتهم وتحسين واجهة العملية السياسية التي يقودونها والموصومة بالطائفية والعرقية والتي ألقت بظلالها على المسيحيين من خلال فشلها في إدماجهم وحمايتهم وتوفير الأمان الضروري لهم.

بغداد – عادت أعياد الميلاد على مسيحيي العراق هذه السنة دون جديد يذكر في أوضاعهم الصعبة المحفّزة على رحيل من بقي منهم في البلاد. ولم يختلف إحياؤهم للذكرى عن سابقاتها سوى بغياب أغلب مظاهر الاحتفال تعاطفا مع سكان قطاع غزّة وقتلى حريق الحمدانية، وعلوّ نبرة الخطاب السياسي المجامل لهم، في عملية لا تعكس حقيقة أغلب السياسيين المنتمين إلى تيارات دينية وفصائل متشدّدة، بقدر ما تعكس رغبتهم في ارتداء لبوس التسامح والتعايش السلمي والقبول بالآخر المختلف دينيا ومذهبيا، عبر التودّد الشكلي للمسيحيين.

ولم تخل المناسبة من مسحة حزن أضفتها حادثة حريق قاعة الأفراح التي حدثت في شهر سبتمبر الماضي بقضاء الحمدانية وخلفت أكثر من مئتي ضحية بين قتيل وجريح.

وتقع الحمدانية ضمن سهل نينوى أحد معاقل مسيحيي العراق الذي عانى أقصى مظاهر التطرّف الديني أثناء سيطرة تنظيم داعش على معظم أجزاء شمال وغرب العراق بين سنتي 2014 و2017، وكذلك أثناء الحرب ضدّه بمشاركة ميليشيات ساهمت في طرد التنظيم، لكنّها واصلت بعد الحرب صراعها للسيطرة أمنيا واقتصاديا على أجزاء مهمّة من محافظة نينوى بما في ذلك مركزها مدينة الموصل التي نزح عنها الكثير من سكانها المسيحيين أثناء الحرب المذكورة تاركين بيوتهم وممتلكاتهم عرضة لعملية نهب وسرقة غير مسبوقة.

وعلى طرفي نقيض من الواقع الصعب لمسيحيي العراق الذين تناقص عددهم بشكل كبير بفعل كثافة الهجرة الناتجة عن حالة عدم الاستقرار وسوء المعاملة في ظل تجربة الحكم التي انطلقت بعد الغزو الأميركي للبلاد بقيادة أحزاب دينية شيعية في أغلبها، يأتي الخطاب السياسي تجاه المسيحيين على درجة كبيرة من الإيجابية، وهو ما عكسته تصريحات السياسيين بمن فيهم من يُعتبرون رموزا للتطرف الديني والمذهبي في العراق.

ولا يوجد في برنامج الحكومة الحالية المشكّلة من قبل الإطار التنسيقي الشيعي أيّ بند يخصّ وقف هجرة المسيحيين من البلاد بحمايتهم وتحسين أوضاعهم ومساعدة من نزح منهم على العودة إلى ديارهم واستعادة ممتلكاتهم المنهوبة، لكن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني لم يترك مناسبة أعياد الميلاد تمر من دون استثمارها في تحسين صورة حكومته التي تستند أساسا إلى مرجعية سياسية – دينية ذات بعد طائفي.

وقام السوداني الاثنين الماضي بزيارات إلى أسر من أبناء المكون المسيحي في العاصمة بغداد. وأصدر إثر ذلك بيانا قال فيه إن “المسيحيين هم ملح الأرض ومكون أصيل في بلدنا وشعبنا أسهم في بناء الدولة”، معتبرا أن “وجود المسيحيين في العراق عامل قوة للبلد”.

كما أكّد في بيانه حرص حكومته “على التواصل مع جميع المكونات في العراق وخصوصا المسيحيين للمشاركة في احتفالاتهم بهذه المناسبة الكريمة”.

من جهته نشر زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر بيانا عبر حسابه في منصة إكس قال فيه إنّه لا يستطيع تهنئة أبناء المكون المسيحي في العراق بأعياد الميلاد “بعد ما وقع عليهم من حيف ومآس بسبب داعش، واليوم لأسباب أخرى غير ذلك”. لكنه دعا لهم بأن يمنّ الله عليهم “بالأمان في ظل طاعة الله وحب الوطن وأن يرفع عنهم الظلم في ظل عراق مستقل بلا تبعية ولا فساد”.

كذلك لم يتوان بعض من يعتبرون رموزا للتشددّ الطائفي العنيف في أخذ حصّتهم من مجاملة مسيحيي العراق والتودّد إليهم على غرار قيس الخزعلي الذي يقود ميليشيا عصائب أهل الحق إحدى أشرس الميليشيات الشيعية في العراق وأكثرها عنفا بما في ذلك ضدّ المدنيين من مختلف الطوائف والأعراق والذين شاركوا في تظاهرات سنة 2019 وشاركت العصائب بكل قوة في قمعهم.

وقال الخزعلي في منشور على منصة إكس “في هذه المناسبة المباركة ذكرى ولادة سيدنا عيسى بن مريم عليه السلام نجدد الدعوة لكل العراقيين لترسيخ قيم الحوار والتسامح والتعايش السلمي، مستلهمين من سيرة المسيح عليه السلام رمز السلام والمحبة”.

وأضاف في منشوره “هذه القيم هي جوهر ديننا الإسلامي الحنيف ونهج وتعاليم أهل البيت عليهم السلام، التي تدعو إلى الاحترام المتبادل والتلاحم والتآزر بين جميع أبناء الوطن لاسيما أهلنا المسيحيين.. ولنجعل تعددنا مصدرا لقوتنا وتوحدنا تحت خيمة العراق”.

وقال عمار الحكيم زعيم تيار الحكمة الشيعي في بيان إنّ “ذكرى الولادة الميمونة العطرة لسيدنا المسيح عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام، مناسبة تدفع النفوس للتفاؤل والأمل بأن يجعل الله سبحانه وتعالى هذه السنة مباركة بالخير والوئام والأمن والسلام وترسيخ قيم التسامح والحوار والتعايش السلمي”. وأضاف “مبارك لأبناء شعبنا لاسيما إخوتنا المسيحيين وشعوب العالم كافة هذه المناسبة المباركة”.

لا يوجد في برنامج الحكومة الحالية المشكّلة من قبل الإطار التنسيقي الشيعي أيّ بند يخصّ وقف هجرة المسيحيين من البلاد بحمايتهم وتحسين أوضاعهم ومساعدة من نزح منهم على العودة إلى ديارهم واستعادة ممتلكاتهم المنهوبة

وعن ائتلاف دولة القانون بقيادة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، قام النائب ياسر المالكي بتهنئة “المسيحيين في العراق والعالم بميلاد السيد المسيح عليه السلام، الذي يمثل رمزا للوئام والتسامح بين الناس”، معتبرا عبر تويتر أن “مسيحيي العراق استلهموا هذه القيم النبيلة وجسدوها في التعاطي مع شركاء الوطن من مختلف المكونات”.

ولا يُعتبر نوري المالكي من الشخصيات المرغوبة لدى مسيحيي العراق الذين تعرّضوا خلال فترة حكمه بين سنتي 2006 و2014 لاعتداءات على أنفسهم ومقدساتهم وممتلكاتهم في عدة محافظات عراقية من بينها العاصمة بغداد، كما أنّه يعتبر لدى الكثيرين منهم المسؤول الأول عن إدخال داعش إلى العراق بفعل ترسيخه الطائفية السياسية ومساهمته في إضعاف المؤسسة الأمنية والعسكرية وانهيارها أمام زحف التنظيم المتشدد.

ويذكي فشل الحكومات العراقية المتعاقبة منذ سنة 2003 في حماية المسيحيين نزعة الانغلاق على الذات بل حتى الانفصال لدى عدد من أبناء المكوّن المسيحي. واستغل جوزيف صليوا عضو مجلس النواب العراقي نائب رئيس حزب “بيت نهرين” الآشوري فرصة أعياد الميلاد لتجديد مطالبته بتحويل سهل نينوى إلى منطقة حكم ذاتي لمسيحيي العراق على غرار إقليم كردستان.

وقال صليوا عبر حسابه في منصة إكس “تمرّ علينا مناسبة الأعياد المجيدة والقلوب تعتصر ألما وحزنا على من فارقونا الحياة من ضحايا مجزرة بغديدا (الحمدانية). لكن في نهاية المطاف جزء من رسالة مخلصنا يسوع المسيح، لا بل الجزء الأساسي، منها هو الرجاء والأمل”، مضيفا أنّ “الأمل يكمن توحيد الشعب بكنائسه لينتفض سوية كهبة شعبية كلدو – آشورية – سريانية للمطالبة بتحويل سهل نينوى إلى منطقة نوع من الحكم الذاتي ليكون هذا الشعب مدافعا عن نفسه بعدما خُذل من جميع دعاة الحماية باسم الدولة بكل تسمياتهم”.

وأضاف “عاما بعد عام تمر علينا الأعياد والحال هي ذاتها ولا يتغير شيء من واقع هذا الشعب المظلوم في أرضه طالما لم تكن هنالك هبة شعبية ورص الصفوف للمطالبة بحكم الذات بعدما خاننا الجميع . فلا يمكن لشعب أن يعتمد على عصابات تسمي نفسها حكومات وهي غير مؤمنة بالعيش المشترك، إنما تطلق فقط شعارات وكلمات لا تعنيها ولا تتجاوز حدود المجاملات الفارغة”.

العرب