لا يخفى على أحد أن ما صرح به الرئيس الأمريكي جو بايدن مؤخرا، يعكس حالة جدلية وفوضى سياسية يعيشها البيت الأبيض، وذلك محاولة منه في اللعب على خطين غير متوازيين، أولهما دعم «إسرائيل» المطلق سياسيا وعسكريا ودبلوماسيا، وإطلاق يد العسكرتارية الإسرائيلية لمواصلة حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والعتب الخجول على أعضاء الحكومة المتطرفين والمستوطنين، لتعمد مواصلة اجتياحهم للبلدات والمدن والمخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية. والخط الآخر هو التركيز على الناخب الأمريكي للحصول على صوته، وبالتالي إحراز التقدم المطلوب على المنافس الجمهوري وفي النهاية الفوز بولاية رئاسية ثانية.
بيد أن المعضلة تكمن في كيفية تمكن الرئيس بايدن من التوفيق بين هذين الخطين، وانتهاج سياسة وسط توفق بين سياستين متناقضتين في المواقف والنتائج؛ لأن استمرار الرئيس الأمريكي بايدن في المضي قدما بالخط الأول الداعم «لإسرائيل» يعني في المقام الأول خسارة أصوات المناوئين والمعارضين لحرب قادة «إسرائيل» على قطاع غزة، بحجة القضاء على حماس أولا، وإحلال سلطة بديلة لها تضمن أمن مستوطناتها ثانيا، وثالثا تحرير الرهائن.
تدني شعبية بايدن إلى أدنى مستوياتها، يضعه أمام تحديات جسام، خاصة أمام «حملة التخلي عن بايدن»، التي أطلقها معارضو سياسته في دعم «إسرائيل» وحربها ضد الفلسطينيين
هذه الأصوات التي صدحت عاليا في المظاهرات الضخمة، التي شهدتها الولايات والمدن الأمريكية، مطالبة بوقف الحرب والدعم اللوجستي والسياسي للاحتلال والمضي بحل الدولتين. والجدير بالذكر أن نسبة المناهضين للإدارة الأمريكية الداعمة للحرب الإسرائيلية في تزايد مستمر، إذ تشير استطلاعات الرأي التي أجريت في 5 ولايات بخسارة بايدن أكثر من 10 نقاط، بعدما كانت خسارته 6 نقاط في بداية الحرب. وفي استطلاع أجرته رويترز/أبسوس أظهر تدني شعبية بايدن إلى أدنى مستوياتها هذا الشهر، ما يضعه أمام تحديات جسام، خاصة أمام «حملة التخلي عن بايدن»، التي أطلقها معارضو سياسته في دعم «إسرائيل» وحربها ضد الفلسطينيين. وهذا بدوره يعني أن هناك فجوة كبيرة في الحصول على تأييد هؤلاء، الذين جلهم من المهاجرين العرب والمسلمين والأمريكيين اللاتينيين والفئات الأخرى، التي تعاني من إدارة بايدن الاقتصادية، وحسب بايدن فإن استمرار سياسة نتنياهو القائمة على قتل المزيد من الضحايا المدنيين، من شأنه أن يمس بالمكانة الأخلاقية للولايات المتحدة الأمريكية؛ وكأن هذه المكانة لم تمس بعد، من جراء تبرير المجازر التي ارتكبها الاحتلال، سواء في الضفة أو قطاع غزة، مثلما كان التبرير لمجزرة المعمداني وجنين والشفاء والفاخورة وجباليا، وغيرها من المجازر التي أدانها العالم برمته؛ الأمر الذي ظهر جليا من خلال المظاهرات الصاخبة الداعية لوقف العدوان والإبادة الجماعية، ومحاسبة القتلة وداعميهم. إن دعوة الرئيس بايدن لنتنياهو بضرورة تغيير حكومته، فإنها تنطوي على خشية الديمقراطيين من تفاقم أعداد الضحايا من المدنيين الفلسطينيين، على يد المتطرفين المتدينين أمثال بن غفير وسموتريتش. كما ترمي هذه الدعوة إلى إظهار حرص إدارة بايدن على الظهور بمظهر المعتدل المراعي للقانون الدولي الإنساني، أمام الرأي العام العالمي والمحلي، من خلال إبراز تأييده «لحل الدولتين، الذي يراه ليس ممكنا فحسب، بل ضروريا»، كما عبر عن ذلك جون كيربي منسق الاتصالات الاستراتيجية في البيت الأبيض، كذلك تعبر الدعوة عن رفض بايدن لسياسة نتنياهو القائمة على نسف فرص أي حل سياسي حتى «لا يكرر السوء الذي حدث في أوسلو»، على حد تعبير هذا الأخير. إن عزف بايدن على وتر السلطة، جاء ردا على ما ورد على لسان نتنياهو عندما ذهب بعيدا في تهديده بفتح «حرب على قوات السلطة» على أرض الضفة، واصفا إياها بحليفة حماس .
كما يهدف الرئيس بايدن من خلال تصريحاته الأخيرة إلى تهدئة نقمة التيار التقدمي، أو اليساري في الكونغرس، ولمواجهة غضب الأمريكيين المتصاعد، بينما تستمر خطط إدارة بايدن في تقديم الإمدادات العسكرية واللوجستية بلا توقف وبلا خطوط حمر على رأي المتحدث الأمريكي لوكالة CNN ، على أية حال، تبقى تصريحات بايدن هذه حديث اللحظة لكل المحللين والمراقبين للمواقف الأمريكية. فهل نقرأ بها تغييرا جوهريا، أم أنها نوع من الترنح فوق حبال الانتخابات الأمريكية المقبلة للخروج من مأزق اللاتوازن، بين الدعم المقدم «لإسرائيل»، والدعم المطلوب من أصوات مؤيديها وأصوات الناخبين المناوئين لها؟ وهل جاء مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان إلى المنطقة لإعادة رصف التوازن السياسي بين خطي سياسة بايدن، أم لتقديم آليات جديدة للسلطة الفلسطينية وقادة «إسرائيل» للتعامل مع الواقع الجديد الذي فرضته المقاومة ونتائج الحرب؟ وهل مجيء لويد أوستن وزير الدفاع الأمريكي لتأكيد الخط الأول من سياسة بايدن في دعم «إسرائيل» بإقامة حلف عسكري لفك الحصار البحري، الذي فرضه اليمن لتمكين قادتها من إحكام استمرار حربهم العدوانية ضد الشعب الفلسطيني، واستكمالا لما بدأه سوليفان لتحقيق التوازن المنشود بين خطي سياسة بايدن التي تشهد هزيمة محققة حتى الآن.