صراعات أكثر وتعاون أقل. هذا هو ملخص ما جرى في العالم خلال عام 2023، وهي مؤشرات على التأزم الذي يمر به النظام الدولي. عام 2023 فيه صراعات أكثر مما في العام السابق، وهي صراعات أكثر حدة، فيما عجزت آليات الضبط والسيطرة وحل النزاعات المتاحة عن وضع حد لهذه الصراعات، بما يشير في جوهره إلى عجز القوى الكبرى عن التوصل إلى توافقات وتسويات فيما بينها.
الصراعات الدولية تحدث طوال الوقت، لكن الصراعات الجارية في هذه المرحلة هي صراعات نظمية Systemic، تجري من أجل تغيير هيكل قيادة النظام الدولي، وتغيير تراتبية الدول حول القمة، وتغيير قواعد إدارة النظام الدولي. في نفس الوقت فإنَّ الصراعات النظمية تخلق بيئة دولية مواتية لنشوب صراعات أهلية وإقليمية، يجد أطرافها في الصراعات النظمية فرصة لتحقيق أهداف لم يمكن ممكنا تحقيقها في ظروف أخرى.
تحدث الصراعات الدولية عندما تشعر دول بعدم الرضا عن وضعها في النظام الدولي، وأنها تستحق ما هو أفضل مما يتيحه لها النظام الدولي القائم، وعندما ترى في نفسها القدرة على مراجعة الواقع الدولي، بحيث تخلق واقعا دوليا جديدا يتلاءم مع تصوراتها. الوجه الآخر للمطالبة بمراجعة النظام الدولي القائم هو تراجع قدرة القوة العظمى المهيمنة على النظام الدولي على إرضاء المتمردين أو ردعهم، أي أنها أزمة قيادة النظام الدولي، حيث القيادة القديمة، متمثلة في الولايات المتحدة، غير قادرة على ممارسة القيادة بنفس الفعالية، في مواجهة تحديات قوى صاعدة ومراجعة، الأمر الذي يفسح مساحات لنشوب الصراعات، والتي من المرجح لها أن تزيد عددًا وحِدَّةً كاتجاه تاريخي عام، حتى لو نجحت جهود احتواء هذا الصراع أو ذاك.
تناقش هذه المقالة خريطة التفاعلات في النظام الدولي عام 2023، من خلال تناول أبرز الصراعات “النظمية”، والتي تأتي في مقدمتها الصراع الأمريكي الصيني، والحرب في أوكرانيا، وكيف استفادات قوى إقليمية ومتوسطة من حالة التنافس الاستراتيجي والصراع بين القوى الكبرى لتعزيز مصالحها؟ وهل تُعد الانقلابات العسكرية في إفريقيا والصراع المحتدم في السودان إحدى تجليات الصراع على قمة النظام الدولي، وامتداداتها الإقليمية؟ وهل يمكن أن تؤثر الحرب في غزة على مكانة وموقع الغرب في العالم ومستقبل النظام الدولي؟
أولًا: الصراع المركزي
الصراع الصيني – الأمريكي هو الصراع النظمي المركزي في النظام الدولي الراهن. يتجنب الطرفان الأمريكي والصيني وصف العلاقة بينهما بالصراع، فعلاقاتهما سلمية، تتضمن مساحة واسعة من المصالح المشتركة، كما تنطوي على قدر كبير من التوتر أيضًا. مصطلح التنافس الاستراتيجي هو الأكثر ملاءمة لوصف العلاقات الأمريكية الصينية، فهو من ناحية يتجنب وصف العلاقة بالصراع، في حين يؤكد على الطبيعة الاستراتيجية لهذه المنافسة، بما يعني أنها منافسة ليست من أجل تحقيق مكاسب مباشرة أو قصيرة الأمد، أو كمية وجزئية، ولكنها تسعى لتحقيق مكاسب غير مباشرة، بعيدة المدى، وهي مكاسب تستهدف خلق حالة كيفية معينة في النظام الدولي.
أصبح التوتر سمة أساسية للعلاقات الأمريكية الصينية منذ اللحظة التي رأت فيها الولايات المتحدة أنَّ النمو السريع للصين يجعل منها تحديًا استراتيجيًا، ومنذ شرعت الصين في السعي لاحتلال مكانة دولية عظمى، ولإعادة صياغة النظام الدولي بما يتناسب مع وضعية الصين الجديدة، وقد حدث هذان التحولان بشكل متزامن تقريبا حول بداية العشرية الثانية في القرن الحالي. فالولايات المتحدة تريد الحفاظ على النظام الدولي القائم، والذي لعبت الدور الأبرز في تأسيسه ووضع قواعده، وتريد الاحتفاظ لنفسها بمكانة القوة رقم واحد، وتريد للصين أن تبقى لاعبًا ضمن هذا النظام الدولي. الصين من ناحيتها تسعى إلى نظام دولي متعدد الأقطاب، وتريد الوصول إلى قمة النظام الدولي قوة مكافئة للولايات المتحدة، وتريد وضع قواعد جديدة لإدارة النظام الدولي مختلفة عن قواعد النظام الدولي الليبرالي التي وضعتها الولايات المتحدة والغرب.
منذ بدأ التحول في العلاقات الأمريكية الصينية، مرت هذه العلاقات بثلاث مراحل، ارتبطت بثلاثة رؤساء أمريكيين: أولها، حينما أطلق الرئيس أوباما صفارة التحذير، وأشار إلى اتجاه التحول الاستراتيجي القادم، وصك مبدأ التموضع الأسيوي Asia pivot. ثانيها، حينما أضفى الرئيس ترامب على العلاقات الأمريكية الصينية طابع الصراع التجاري الاقتصادي، وقام بفرض عقوبات اقتصادية في شكل ضرائب جمركية إضافية على الواردات الصينية. ثالثها، عندما قرر الرئيس بايدن البناء على السياسات التي نفذها سابقيه، وركز على الأبعاد التكنولوجية والجيوسياسية للصراع، فحوله إلى منافسة استراتيجية وتكنولوجية وجيوسياسية.
خلافًا للصراعات السابقة على قمة النظام الدولي، فإنَّ التعاون بين الولايات المتحدة والصين حتميا للتعامل مع تحديات وجودية تواجه الجنس البشري، خاصة تحدي المناخ. أيضا فإنه يوجد بين الولايات المتحدة والصين مصالح مشتركة وصلت إلى مستوى غير مسبوق في علاقات القوى العظمى المتنافسة من قبل. فالصين قدمت للولايات المتحدة في عام 2022 ما نسبته 16.5% من إجمالي واردات الولايات المتحدة من الخارج، بقيمة 536.8 مليار دولار؛ في حين ذهب 7.5% من الصادرات الأمريكية إلى الصين، بما قيمته 153.8 مليار دولار. ورغم العقوبات الاقتصادية المتبادلة، فإنَّ التجارة بين البلدين تواصل النمو، فقد زادت صادرات الولايات للصين عام 2022 بنسبة 1.6%، بينما حققت واردات الولايات المتحدة من الصين نموا نسبته 6.3%.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما إذا كان لتوتر العلاقات والعقوبات التجارية المتبادلة أي أثر على العلاقات الاقتصادية بين البلدين؟ والإجابة هي نعم، فرغم تزايد القيمة الإجمالية للتجارة بين البلدين، إلا أنَّ نسبتها شهدت تراجعا، ففي خلال الفترة (2017 – 2022) تراجع إسهام الصين في الواردات الأمريكية من 22% إلى 16%، وكانت نسبة الزيادة في قيمة واردات الولايات المتحدة من السلع الصينية الخاضعة لعقوبات أقل من نسبة الزيادة العامة في التجارة بين البلدين. الأهم من ذلك هو أثر العقوبات الأمريكية الاستهدافية على قطاعات بعينها. فقد أخضعت الولايات المتحدة منتجي التكنولوجيا الصينيين لعقوبات متشددة حرمتهم من الوصول لمنتجات التكنولوجيا الأمريكية، وقد ظهر أثر هذه العقوبات في عام 2022 على SMIC التي تُعد أكبر منتج صيني للرقائق الإلكترونية، إذا انخفضت أرباح الشركة من 18% عام 2021 إلى 10% عام 2022.
أثر التوتر والعقوبات على العلاقات الاقتصادية بين البلدين يتعمق بمرور الوقت، ففي خلال الفترة (يناير – مايو 2023) انخفضت واردات الولايات المتحدة من الصين في كافة القطاعات بنسبة 24% مقارنة بالفترة نفسها في العام السابق. كذلك انخفض الاستثمار الأجنبي في الصين في الربع الثاني 2023 بنسبة 76% مقارنة بالربع السابق، و87% مقارنة بالربع المماثل في العام السابق، ليبلغ أدنى مستوى له منذ عام 1998، وفي شهر أغسطس 2023 فقط بلغ صافي بيع المستثمرين الأجانب في البورصة الصينية 12 مليار دولار، وهو ما يمكن اعتباره تطبيقا للسياسة الأمريكية/الأوروبية تجاه الصين، والتي ترفع شعار تقليل المخاطر.
دخلت العلاقات الأمريكية الصينية العام 2022 عند مستوى منخفض بشكل إضافي بسبب زيارات قام بها مسئولون أمريكيون كبار لتايوان، وهو ما اعتبرته الصين تشجيعا أمريكيا لاستقلال تايوان، وإخلالا بسياسة “صين واحدة”، التي تبنتها الولايات المتحدة منذ عام 1972، عندما بدأت المصالحة الصينية الأمريكية. ترتب على ذلك تكثيف الأنشطة العسكرية الصينية في مضيق تايوان، وتنفيذ تدريبات على إغلاق المضيق وفرض حصار على الجزيرة، بما عطل أنشطة الطيران والملاحة المدنية، وإطلاق صواريخ باليستية سقطت في أماكن مختلفة، بما فيها، ولأول مرة المنطقة الاقتصادية الخالصة لليابان، كل ذلك بهدف ردع المنافسين عن الاستهانة بأهمية تايوان للصين. ردت الولايات المتحدة على ذلك بزيادة الدعم العسكري لتايوان، وتأكيد التزامها بأمن تايوان ضد محاولات غزوها عسكريا. في هذا الإطار صدرت عن الرئيس بايدن تصريحات أعطت انطباعا بتغير السياسة الأمريكية تجاه تايوان، وانتقال الالتزام الأمريكي تجاه الدفاع عن تايوان من منطقة الغموض البناء إلى منطقة الالتزام الصريح بالدفاع عن الجزيرة ضد الاعتداءات الخارجية.
ما إن بدأت تداعيات أزمة تايوان تخفت، إلا وظهرت أزمة بالون الأبحاث الصيني الذي تم رصده فوق الأراضي الأمريكية قبل أن يتم إسقاطه، في شهر فبراير 2023، وجمع بقاياه لفحصها. تصر الولايات المتحدة على أنَّ البالون كان مزودا بأجهزة تجسس متطورة، في حين تصر الصين على أنَّ البالون كان يحمل معدات لدراسة المناخ، وأنه دخل الأجواء الأمريكية بطريق الخطأ.
واصلت الولايات المتحدة، اتخاذ إجراءات إضافية لإحكام الحماية حول الأسرار التكنولوجية الأمريكية، وفقا لمبدأ “حديقة صغيرة ذات أسوار عالية”، أي توفير حماية صارمة لمساحة صغيرة فقط من مساحة التعاون التجاري الصيني الأمريكي، وهي مساحة التكنولوجيات فائقة التقدم، على أن تبقى باقي المساحات مفتوحة للتعاون بين البلدين. ففي أغسطس حظرت الولايات المتحدة على الشركات الأمريكية الاستثمار في مجال التكنولوجيات العالية في الصين؛ وقامت وزارة التجارة الأمريكية في أكتوبر بتحديث القواعد الحاكمة لتصدير التكنولوجيا المتقدمة للصين، بحيث أصبحت أكثر إحكاما وتضييقا. من جانبها قامت الصين في أغسطس بفرض قيود إضافية على تصدير المعادن النادرة المستخدمة في صناعة ألواح الطاقة الشمسية ورقائق الحاسب، وزادت وقائع تحرش السلطات بشركات أمريكية تعمل في الصين.
أضافت الحرب الأوكرانية سببًا إضافيا للتوتر الصيني الأمريكي. فعلاقات التحالف بين روسيا والصين آخذة في التطور، ومنذ بداية الصراع في أوكرانيا أوضحت الولايات المتحدة للصين مخاطر تدخل الصين إلى جانب روسيا، أو قيام بكين بتقديم مساعدات عسكرية لدعم المجهود الحربي الروسي. تجنبت الصين التورط في دعم روسيا عسكريا بشكل مباشر، وهو ما فوت فرصة نشوب أزمة كبيرة في العلاقات الأمريكية الصينية. مع ذلك فإنَّ الولايات المتحدة تأخذ على الصين تحولها إلى شريك تجاري رئيسي لروسيا، بما أضعف أثر العقوبات الاقتصادية الغربية ضد روسيا. تأخذ الولايات المتحدة على الصين أيضا قيامها بتزويد روسيا بمكونات إلكترونية ذات استخدام مزدوج، وتستخدم في صناعة الأسلحة.
تراجع إيقاع توالي الأزمات في العلاقات الصينية الأمريكية في النصف الثاني من العام 2023، ونشطت الجهود لصنع أرضية تستند إليها العلاقات وتحميها من مزيد من التدهور. في شهر يونيو التقى الرئيس الصيني في بكين بوزير الخارجية الأمريكي، حيث تم استقباله ببعض المراسم المخصصة للرؤساء، تعبيرا عن رغبة الصين في احتواء التأزم في العلاقات. خلال الشهور التالية زار الصين وزراء الخزانة والتجارة ومبعوث المناخ الأمريكيين لترطيب الأجواء واحتواء الخلافات.
لقاء القمة بين الرئيسين الأمريكي والصيني في سان فرانسيسكو في شهر نوفمبر على هامش قمة آسيا والمحيط الهادي للتعاون الاقتصادي “أبيك” هو التطور الأهم الذي شهدته علاقات البلدين. زيارة الرئيس الصيني للولايات المتحدة في حد ذاتها حدث شديد الأهمية، فهذه هي الزيارة الأولى للرئيس الصيني لأمريكا منذ عام 2017، وهي أول زيارة يقوم بها لبلد غربي منذ أنهت الصين الحظر الذي كان مفروضا على السفر بسبب كوفيد 19، وجاءت تالية لزيارات قام بها الزعيم الصيني للسعودية وروسيا وجنوب إفريقيا، في إشارة إلى أولويات السياسة الخارجية الصينية في المرحلة الراهنة.
لم تخرج القمة الصينية الأمريكية بنتائج مهمة، ولم يصدر عنها بيان مشترك، بما يعكس نتائجها المتواضعة. أهم نتائج القمة هو استعادة الاتصال بين القيادة العسكرية في الصين والولايات المتحدة، وكانت الصين قد أوقفته كرد فعل على زيارة رئيس مجلس النواب نانسي بيلوسي لتايوان في العام السابق. أما أهم التطورات الإيجابية التي حدثت في علاقات البلدين فقد حدثت في مجال المناخ، إذا تم الاتفاق بين البلدين على إحياء مجموعة العمل المشتركة الخاصة بقضايا المناخ، بما فيها مصادر الطاقة المتجددة وخفض انبعاثات غاز الميثان. وقد ساهم استعادة التعاون الأمريكي الصيني في مجال المناخ جزئيا في تسهيل تحقيق إنجازات تحققت في مؤتمر كوب 28.
ثانيًا: الصراع الأكثر خطورة
الحرب في أوكرانيا يُعد الصراع الدولي الأكثر خطورة بسبب موقعه في القارة الأوروبية، وبسبب الأطراف المتورطة في الصراع بشكل مباشر وغير مباشر. الحرب الأوكرانية هي صراع نظمي بامتياز، بحكم أطرافه وموقعه. روسيا هي قوة نووية عظمى، وإن كانت قوة اقتصادية من الدرجة الثانية، وهي تخوض هذه الحرب رافعة شعارات تتعلق بإنشاء نظام دولي جديد قائم على التعددية القطبية. الصراع في أوكرانيا شديد الخطورة لأنه حرب نظامية كبرى في القارة الأوروبية، ويمكن له أن يتوسع ليشمل دولًا أخرى من دول المنطقة.
صادف الصراع في أوكرانيا نقطة تحول مهمة في هذا العام، عندما أخفق الجيش الأوكراني في تحقيق مستهدفاته من هجوم الربيع، بحيث أصبح واضحا عدم واقعية الهدف الذي تبنته أوكرانيا، والخاص بتحرير الأرض الأوكرانية التي احتلتها روسيا في العام السابق، بالإضافة إلى شبه جزيرة القرم المحتلة منذ عام 2014.
الإخفاق الذي لحق بالجيش والقيادة في أوكرانيا لحق أيضا بالولايات المتحدة وحلف الأطلنطي والاتحاد الأوروبي، فقد وقفت الكتلة الغربية القوية موحدة لدعم أوكرانيا وتشجيعها على الحرب. قاومت السياسة الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، التوصل إلى حلول وسط بين أوكرانيا وروسيا، باعتبار أنَّ أي تنازل تحصل عليه روسيا سيغريها بتكرار ما فعلته مع أوكرانيا مع دول أخرى، بما يعرض الاستقرار والأمن الأوروبي لمخاطر أكبر، وأنَّ المطلوب هو هزيمة روسيا، وتحميلها تكلفة باهظة، بحيث ترتدع عن التصرف بهذه الطريقة مرة أخرى.
لقد أخفقت الولايات المتحدة والغرب في تحقيق الردع، ومن غير الواضح كيف ستتصرف مجموعة الدول الغربية في المرحلة القادمة. يركز الخطاب الرسمي السائد في الغرب على مواصلة تقديم الدعم لأوكرانيا. لكن على الجانب الآخر فإنَّ علامات الإرهاق بدأت في الظهور على مجموعة الدول الغربية، وأصبحت علامات تفكك الإجماع على مساندة أوكرانيا شديدة الوضوح، لعل أهمها ظهور معارضة قوية في الكونجرس الأمريكي لمواصلة تقديم نفس المستوى من الدعم السخي الذي قدمته واشنطن لدعم الجهد العسكري الأوكراني، ولو فشلت القيادة الأمريكية في تأمين الدعم اللازم لأوكرانيا، فإنَّ أي دعم تقدمه الدول الأوروبية لن يكون كافيا لتعويض كييف غياب الدعم الأمريكي. في نفس الوقت فإنَّه من غير الواضح ما إذا كان الخيار العسكري ما زال خيارا واقعيا بالنسبة لأوكرانيا بعد فشل هجوم الربيع، وهل هناك في العلم العسكري والتكنولوجيا العسكرية ما يمكنه مساعدة أوكرانيا على تحقيق الانتصار دون توسعة نطاق الصراع ودخول دول أخرى أطرافا فيه بشكل مباشر.
أخفقت الحملة العسكرية الأوكرانية، وانتقل الجيش الروسي من الدفاع إلى الهجوم، وهناك مؤشرات على أنَّ روسيا قد تعمل على البناء على انتصاراتها الحالية لتحقيق انتصارات أوسع نطاقا. الرئيس بوتين يتصرف بزهو وكبرياء غابا عنه خلال الفترة السابقة عندما كان جيشه يعاني من الهزائم، فعاد إلى تكرار وتأكيد الأهداف التي كانت روسيا قد أعلنتها في بداية الحرب، ومن غير الواضح ما إذا كان هذا جزءا من استراتيجية تفاوضية، أم أنه تعبير عن الموقف الحقيقي للقيادة الروسية.
ثالثًا: تحدي القوى المتوسطة والإقليمية
أدت حالة التنافس الاستراتيجي والصراع بين القوى الكبرى إلى خلق مساحات استفادت منها قوى إقليمية متوسطة، لديها أسبابها لرفض النظام الدولي القائم، وتحدي الهيمنة الغربية على هذا النظام. لقد برز في هذا العام التحدي القادم من كوريا الشمالية بأكثر من شكل. فقد قامت كوريا الشمالية بتجربة طرازات جديدة من الصواريخ ذات مديات بعيدة، وأطلقت قمرا اصطناعيا لأغراض عسكرية لأول مرة، وتراجعت عن إجراءات لبناء الثقة كانت قد توصلت لها مع جارتها الجنوبية في أوقات سابقة. استفادت كوريا الشمالية من ظروف الحرب الأوكرانية، ووظفت حاجة روسيا لحلفاء يعوضونها الحصار الغربي المفروض عليها، فعرضت كوريا الشمالية مساعدتها، وقام الرئيس الكوري الشمالي بزيارة روسيا والالتقاء بالرئيس بوتين لتعزيز العلاقات بين البلدين، في واحدة من المرات النادرة التي يسافر فيها إلى الخارج.
إيران أيضًا استفادت من السيولة الدولية الراهنة، فعززت تحالفها مع روسيا، وتصرفت بدرجة أكبر من التحدي في سياستها الإقليمية. لقد زار الرئيس الروسي بوتين إيران في العام 2022، في أول رحلة خارجية له بعد بدء الحرب في أوكرانيا. وفي العام 2023 قام الرئيس الإيراني بزيارة روسيا. وبينما أصبحت كوريا الشمالية موردا مهما للذخائر لروسيا، زودت إيران روسيا بطائرات مسيرة وصواريخ.
لكوريا الشمالية وإيران ميراث طويل في تحدي النظام الدولي القائم، خاصة تحدي الولايات المتحدة وهيمنتها على النظام الدولي. إنها نفس الدول التي وصفتها الولايات المتحدة سابقا بالمارقة، وإن كان هذا المصطلح قد خرج من نطاق الاستخدام منذ عدة سنوات. كوريا الشمالية قوة نووية، وإيران مرشحة لدخول النادي النووي قريبا، وهو تطور سيكون له تداعيات شديدة الخطورة. لقد وظفت إيران ظروف حرب إسرائيل على قطاع غزة لتأكيد وتوسيع نفوذها الإقليمي، ويمثل التحدي الإيراني لحرية الملاحة في مضيق باب المندب عبر حلفائها في اليمن تهديدا خطيرا لمصالح دولية حيوية، وتحديا للولايات المتحدة باعتبارها الضامن غير الرسمي لحرية الملاحة في بحار العالم.
رابعًا: صراعات في مناطق مهمشة
ضعف الآليات الدولية لحل الصراعات، وصراعات القوى الكبرى، وتراجع الدور المهيمن للولايات المتحدة، كل هذا شجع على نشوب صراعات في بلاد غير مركزية، ظهرت فيها قوى استفادت من صراعات القوى الكبرى لصالحها. القارة الإفريقية هي المكان الأكثر بروزا لهذا النوع من الصراعات، خاصة في منطقة الساحل وفي غرب القارة. فمنذ عام 2020 شهد هذا الإقليم ثمانية انقلابات عسكرية في ست دول، كان أحدثها في النيجر في عام 2023.
في كل هذه الانقلابات تم توظيف خطاب معادي للاستعمار، وجرت مطالبة دول غربية، خاصة فرنسا، بإنهاء وجودها العسكري في المنطقة، في حين رفع أنصار الانقلابات أعلام وشعارات مؤيدة لروسيا. من غير الواضح ما إذا كانت روسيا متورطة في تدبير هذه الانقلابات، أم أن الحكومات الجديدة تسعى لإغرائها على تقديم الدعم والتأييد للحكومات الانقلابية. في كل الأحوال فإنَّ هذه المظاهر ترجح أثر صراعات القوى الكبرى على الصراعات في مناطق العالم المختلفة.
الحرب الأهلية في السودان التي بدأت في شهر أبريل من هذا العام، هي أيضا لها صلة مرجحة بالصراع على قمة النظام الدولي، وبامتداداتها الإقليمية. فأطراف الصراع تحظى بتأييد قوى إقليمية متنافسة، فيما توجد مؤشرات على تورط مليشيات روسية في دعم أحد طرفي الصراع بالتدريب والتسليح والمشورة.
خامسًا: الصراع المزمن
شهد عام 2023 انفجارا كبيرا للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. كانت الأوضاع تتدهور بسرعة منذ بداية العام بسبب نفوذ اليمين المتطرفين في الحكومة الإسرائيلية، والدعم والتشجيع الذي وفره لجماعات المستوطنين في الضفة الغربية، والذين أصبحوا أكثر عدوانية ضد الفلسطينيين، فزادت حوادث العنف بشكل كان ينذر بتفجر الأوضاع في الضفة الغربية، إلا أنَّ الانفجار جاء من غزة يوم السابع من أكتوبر، عندما قام مقاتلو حماس باجتياز الحاجز الحدودي ومهاجمة قواعد عسكرية وبلدات إسرائيلية، وهو الهجوم الذي أدى إلى قتل وأسر بضعة مئات من العسكريين والمدنيين الإسرائيليين، وردت إسرائيل بهجوم عسكري كبير ضد قطاع غزة، وسقط في الهجوم آلاف من المدنيين الفلسطينيين، وأغلبهم من النساء والأطفال.
أظهرت عدة جولات تصويت في الأمم المتحدة وقوف أغلب دول العالم إلى جانب الحق الفلسطيني، بما في ذلك روسيا والصين، في حين توفر الولايات المتحدة ودول الكتلة الغربية التأييد لإسرائيل، والذي لولاه لكانت إسرائيل تقف وحيدة تماما. التطابق بين خريطة المواقف بشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وخريطة الانقسام الدولي الكبير تجعل من الصراع في فلسطين أحد تجليات الصراع والانقسام الدولي الراهن.
وصلت أصداء الصراع في غزة وإسرائيل إلى كافة أنحاء العالم، ومثل تحديا أخلاقيا وسياسيا للغرب، بما يجعل من هذا الصراع عاملا يسهم في تدهور مكانة وموقع الغرب في العالم، وبما لذلك من آثار على مستقبل النظام الدولي.
ختامًا، يمكن القول إنَّ العام 2023 لم يكن جيدًا على الصعيد الدولي، ولا يوجد سبب للاعتقاد بأنَّ الأمور ستكون أفضل في العام 2024. فالتنافس الاستراتيجي على قمة النظام الدولي ما زال قائما، والحروب الجارية في أكثر من نقطة على خريطة العالم غير مرشحة لحلول قريبة، فيما عام الانتخابات القادم، في الولايات المتحدة وتايوان وبلاد رئيسية أخرى، يبشر بتصعيد ومزايدات انتخابية قد تسهم في تأجيج المزيد من الصراعات، فيما اللاعبون منشغلون عن حل الصراعات بملاحقة أصوات الناخبين.