الصبر الاستراتيجي في السياسة الإيرانية

الصبر الاستراتيجي في السياسة الإيرانية

أعطت الأحداث التي مرت بها المنطقة العربية وبعد المواجهات العسكرية في قطاع غزة ابعاداً واضحة لسياسات دولية وإقليمية ومنحت المواقف الميدانية أفاقاً واسعة ومدارات كاملة شكلت المسار الحقيقي لجميع الاحتمالات القادمة في المنطقة وأسست لرؤية واضحة رسمت ملامح السياسات القادمة، ومن هنا أولت القيادة الإيرانية أهمية بالغة لكيفية التعامل مع الأحداث التي وقعت داخل إيران وخارجها والتي مست الأمن القومي والوطني لها، ومنها مقتل القيادي في الحرس الثوري الإيراني رضي موسوي في سوريا وما حصل في محافظة كرمان جنوب إيران من هجومين استهدفا التجمع الشعبي قرب مقبرة الشهداء بمناسبة الذكرى السنوية الرابعة لمقتل قاسم سليماني.
اهتمت الاوساط السياسية والأمنية بأسباب ونتائج هذه الأحداث وضرورة التصدي لها ومعاقبة القائمين لها والجهات المسؤولة عنها، وجاء الإجتماع الموسع الذي عقده المرشد الأعلى علي خامنئي في الرابع من كانون الثاني 2024 مع القيادات العسكرية والأمنية الذي أصدر تعليمات بإلتزام جانب الصبر الاستراتيجي وتجنب أي مواجهة ايرانية عسكرية مباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية وأمر الجيش بالحد من الانتقام بالعمليات السرية ضد إسرائيل والهجمات التابعة للحرس الثوري على القواعد الأمريكية في سوريا والعراق.
ان السياسة الإيرانية اخذت بمبدأ ( الصبر الاستراتيجي) الذي أكد عليه المرشد الأعلى واعتبره أساس وهدف رئيسي في الحفاظ على النظام الإيراني ورأى فيه صمام الأمان لأمتصاص حدة الغضب وعدم التسرع باتخاذ اي إجراءات عسكرية قد تؤدي إلى مواجهات مباشرة تسبب الإضرار الجسيمة لمصالح النظام الإيراني وما تحقق له من منافع مكاسب عديدة أن كانت في العقود الماضية أو بعد الأحداث التي جرت في قطاع غزة، وأن اي قرار إيراني قد يحصل فيه الكثير من الكوارث والعواقب التي تصيب التظام ومؤسساته بغعل الرد الأمريكي والإسرائيلي ولهذا فقد استخدم سياسة الصبر الاستراتيجي وأعتمد مبدأ الحوار الدبلوماسية في مواجهة الأحداث الأخيرة.
ان النظام الإيراني استوعب حقيقة التطور القائم في منطقة الشرق الاوسط والوطن العربي وفَهم قواعد اللعبة السياسية وعمل على التمسك بالمصالح الاستراتيجية والغايات والأهداف التي سعى إليها، فلجأ إلى تخفيف حالة التوتر والاندفاع في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية والدخول معها بتفاهمات مشتركة وفق صيغ جديدة يحاول فيها نسيان ما حدث بينهما من وقائع وممارسات غير مباشرة واعتماد صيغ التفاهم وتبادل الآراء وصولاً لنتائج تخدم مصالح الطرفين وهذا ما حصل في الوسطات السياسية ومنها الوساطة العربية العُمانية والقطرية.
وإيران لا زالت الجهة المستفيدة من تطور المواجهات في غزة وتمكنت خلال الاسابيع الماضية من إيجاد موقع استراتيجي لها في البحر الأحمر وخليج عدن دون أن تكون فاعل رئيس فيه بل حدث عبر الفصائل المسلحة لجماعة الحوثيين والتي ترتبط معها بعلاقات وثيقة، ثم انها استغلت انشغال العالم بالأحداث القائمة في الأراضي الفلسطينية وعملت على زيادة كميات تخصيب اليورانيوم إلى نسبة 60٪ في منتصف شهر تشرين ثاني 2023 وقبلها تمكنت من استرداد أموال مجمدة لها عبر صفقة تبادل السجناء وأعلنت أنها ستنفقها للأحتياجات الإيرانية وليس للامور الإنسانية كما ورد في الاتفاق المشترك بين إيران واشنطن وبرعاية عربية، ولهذا فإن النظام الإيراني لا يمكن له أن يتغافل عن هذه المكتسبات ليدخل في صراع ومواجهة مباشرة ومفتوحة مع أمريكا وإسرائيل.
ان أبعاد سياسة ( الصبر الاستراتيجي) التي أشار إليها المرشد علي خامنئي إنما تأتي ضمن قناعات راسخة للقيادات العسكرية والأمنية في الحرس الثوري الإيراني والتي ترى أن الرد على العمليات التي استهدفت بعض من كوادرها إنما يعني حالة استدراج ميداني من قبل الجهات العسكرية الإسرائيلية يجب تفاديه وعدم التعامل معه والوقوع في خطأ استراتيجي مُكلف وعبر حسابات غير دقيقة ومواقف سريعة، وأن الصبر في هذه الحالة يعني عدم الانجرار لاتخاذ إجراءات مقابلة بعيدة عن إطار العقلانية والمنطق، ورغم جميع الأعذار التي يقدمها النظام الإيراني ومؤسساته العسكرية والأمنية إلا أنها تندرج في سياق الحفاظ على المنافع والمصالح التي تحققت له والتي لا يمكن له ان يستغني عنها أو يضحي بها وهي بالتالي دليل على عدم مقدرته على خوض حرب شاملة طويلة ودعم لشعاراته وتصريحاته التي يعلنها ويكررها مراراً والتي من المفترض أن يلتزم بها أمام مناصريه ومؤيديه، ولكن هذه الحالة تحصل عندما تكون المواجهة مع مصالح إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية في العواصم العربية التي يتمتع بها بنفوذ سياسي فأنه لا يتردد عن استخدام جميع الوسائل والأدوات لادامةمشروعه السياسي في التمدد والهيمنة المستمرة، فاساس العلاقة مع واشنطن والغرب هو إدامة مصالح النظام الإيراني وتبادل المنافع والوصول إلى غايته في الانتهاء من ملف البرنامج النووي الإيراني ورفع العقوبات الدولية واسترداد الأموال المجمدة ومعالجة الأزمات الداخلية التي يعاني منها.
ان تلقي إيران لعدد من الضربات في مواقع مختلفة واماكن متباعدة دون رد من قبلها وتبرير فعلها بالتزام الصبر الاستراتيجي إنما يؤكد المواقف السياسية الحقيقية للنظام وعدم الجدية في اي رد مباشر على عمليات الاغتيال والضربات الأمنية التي يتعرض لها، في الوقت الذي دفع فصائله المسلحة ووكلائه من المرتبطين بالحرس الثوري الإيراني لخوض المواجهات والقيام بفعاليات عسكرية نحو أهداف معينة تحدد لها في أقطارها، ويتم دعم هذه العمليات عبر الاعداد والتجهيز والتحضير لها وتدريب عناصرها للتهئ والتنفيذ المباشر وفق الأهداف والغايات الإيرانية.
ان حالة الصراع السياسي في هيكلة النظام الإيراني وتنوع الاتجاهات والمصالح فيه أدى إلى أن لا تكون سياسة الصبر الاستراتيجي مقبولة من أجنحة الحكم القائم، ولهذا كان للمرشد الأعلى على خامنئي دوراً مهماً في مواجهة اعتراضات الكثير من المتشددين والمطالبين بالانتقام من أمريكا وإسرائيل، والتوضيح بأن إيران تسعى لتأمين مصالحها الحيوية وأمنها القومي وملاحظة الثوابت التي تحرك السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الاوسط وإثبات حسن النوايا تجاه دول الخليج العربي والمحيطة بها والدول الإقليمية التي ترتبط بعلاقات معها وتأكيد حرصها على تحقيق الأمن الإقليمي المشترك، وأن النظام الإيراني لن يفعل أي شئ أو يتخذ أي إجراء لمزيد من العمليات والمواجهات مع أطراف الصراع ويبتعد عن إشعال أي أزمة دولية وحرب في المنطقة قد يورط نفسه بها، وهذا ما أثبتته أحداث غزة، فابتعاد إيران عن أي حرب والنأي بنفسها بالابتعاد عن أي ضرر قد يصيب سياستها الإقليمية التي تتمسك بها رغم جميع الظروف المحيطة بها، فالنظام الإيراني ينتظر الانتخابات القادمة( لمجلس الشوري الإسلامي) ويسعى لإنجاحها وتحقيق مشاركة شعبية بنسب جيدة والتهئ لمرحلة سياسية قادمة في تاريخ إيران والتعامل بجدية مع حالة التقدم في السن المتعلقة بحياة المرشد علي خامنئي وملاحظة الأحداث التي تمر بها المنطقة وعدم الدعوة لخوض أي حرب مصيرية قد تعرض النظام للزوال او التفكك والانهيار والتوجه إلى وضع أسس ومرتكزات للاستقرار الداخلي والإقليمي والعمل على التكامل بين المصالح والغايات السياسية والأهداف الميدانية.
ان (سياسة الصبر الاستراتيجي) تتطلب وجود استراتيجية لها بأهداف ووسائل وأدوات لإنجاز ها وفترة زمنية للانتهاء من الإعداد لها وبلوغ نتائجها بنسب المتحقق من الأحداث، وهو السياق الذي يعمل به النظام الإيراني وفق رؤى تخدم سياسته وتحقق أهدافه وغاياته في المنطقة.

وحدة الدراسات الايرانية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية