التوتر بين الولايات المتحدة والصين ليس جديدا، لكن المخاوف هذه المرة تتزايد بشأن فرضية الحرب بشأن تايوان. والصين لا تتراجع عن موقفها، وأميركا تريد تأكيد نفوذها في منطقة إستراتيجية، ما يطرح السؤال حول وجود فرضية حقيقة لاندلاع الحرب.
حمل العدد الجديد من دورية حالة العالم التي يصدرها مركز إنتر ريجونال للتحليلات الإستراتيجية بأبوظبي، عددا من التساؤلات المهمة حول ما يمكن أن يحدث نتيجة الفوضى التي تخلقها المكابرة الغربية والأميركية، من بينها: هل تقوم الصين بغزو تايوان؟ ما احتمالات نشوب حرب بين واشنطن وبكين؟ ما محددات الاستخدام الفعلي للأسلحة النووية؟
حافة الهاوية
يقول د.محمد عبدالسلام الرئيس التنفيذي لـ MIR أبوظبي في دراسته “حافة الهاوية: ما محدد الاستخدام الفعلي للأسلحة النووية؟” إنها “ليست للاستخدام، هذا هو الانطباع العام الذي سيطر لعقود طويلة على فكرة استخدام الأسلحة النووية، لكن لم يكن المقصود أنها ‘غير قابلة للاستخدام’؛ فالأسلحة وجدت لكي تستخدم، وإلا فلماذا يتم امتلاكها من خلال برامج معقدة ومكلفة وخطرة؟”.
ويتساءل: لماذا يبدو حاليا في إطار حرب أوكرانيا، أن هناك تبسيطا وعدم مسؤولية في الحديث عن أن الأسلحة النووية يمكن أن تستخدم “فعليا” سواء من جانب مسؤولين في دول تمتلك أسلحة نووية، مثل روسيا، أو من جانب قادة في حلف الناتو يشيرون إلى أن ذلك يمكن أن يقع. حتى إن السؤال عن إمكانية وقوع “حرب نووية” أصبح أحد الأسئلة الشائعة، وأحيانا الجادة.
لكن يبدو أن ما يعتبر “استسهالا” أو طيشا في الحديث عن تدمير العالم، يعبّر عن مأزق أو ورطة حقيقية، وقع الجميع فيها، وليست لديهم أيّ فكرة حول كيفية الخروج منها سوى بتهديدات يعتقد طرف أنها حتمية، ويقرر الآخر أنها انتحارية، ويتصور الطرفان، وكأنهما لاعبا شطرنج جديدان، أنه ليس لديهما خيارات سوى ما يقومون به في ظل ”أيديولوجيات قاتمة“، وعلى باقي دول العالم أن تتابع ما يجري، وأن تحاول التكيف مع تأثيراته، إلى أن يظهر ضوء أو انفجار في نهاية النفق.
ويلفت عبدالسلام إلى أن مشكلة النقاش حول الاستخدامات الفعلية للأسلحة النووية، هي أنه يتحول أحيانا إلى التفافات تحوله إلى دوائر لانهائية، كما أنه كثيرا ما تكتنفه عوامل ناقصة وأوضاع غامضة، لكن وقائع مثبتة حدثت، وتصريحات معلنة صدرت، عبر أكثر من 75 سنة، تشير إلى أنه كان من الممكن أن تحدث ضربات نووية، أو على الأقل “وقائع نووية”. فما يحدث حاليا حدث من قبل، وما يبدو الآن استسهالا زائدا لديه جذور عميقة وقريبة، بل إنه قد ظهر في أوضاع أقل حدة من حرب أوكرانيا، فلم تكن فكرة الانفجارات النووية بعيدة عن التصورات أو الاحتمالات.
ويتوقف عبدالسلام مع أربع حالات مؤكدة طرحت خلالها احتمالات استخدام الأسلحة النووية في إطار صراعات دولية، أو أزمات حادة، أو حروب إقليمية، أو حروب دولية ـ إقليمية، لم تكن كلها ترتبط بتهديدات بقاء الدولة: الحرب الكورية 1951، أزمة الصواريخ الكوبية 1962، حرب أكتوبر 1973، غزو العراق 2003.
ويقول إن أهمية تلك الحالات التي تتعلق بأفعال لا بـ”أقوال”، تؤكد القاعدة؛ فمن الصعب التفكير في الاستخدام الفعلي بجدية إلا في حالات البقاء، لكنها أيضا تتجاوزها إلى التفكير في استخدامات عملياتية هجومية لهزيمة طرف آخر، أو في إطار وضع إستراتيجي يعتقد أنه يمثل تهديدا للأراضي الرئيسية للدولة، أو تحسبا لاحتمالات انهيار القوة العسكرية التقليدية على نحو يهدد وجود الدولة، أو ردع إمكانية استخدام طرف تتم مهاجمته بأسلحة كيمياوية، أو حسبما كان يصرح به في حالة العراق شحنات مشعة أو إستراتيجيات انتحارية، من جانب نظام يتعرض بالفعل لمشكلة بقاء.
ويخلص إلى أن الأسس التقليدية لاستخدام الأسلحة النووية فعليا لا تزال صامدة، حتى أن استخدام قذائف يورانيوم مستنفد الإشعاع، أو ظهور فيلم سينمائي جيد الصناعة، يثير جدلا أو يلفت الانتباه، لكن التحديات تتصاعد، ولا توجد تصورات نظرية مريحة لتحليلها، أو تقديرات واضحة للتعامل معها، كأزمة أوكرانيا التي تشبه ولا تشبه أزمات سابقة يمكن الإستناد إليها كمرجعية، ولو قليلا؛ “فنحن أمام عالم يعاد تشكيله، ولم تستقر قواعد اللعبة فيه بعد. وحتى تستقر، قد تتكرر المسألة الأوكرانية في إقليم آخر، حول تايوان بين أميركا والصين مثلا، أو في شبه الجزيرة الكورية، وربما منطقة الشرق الأوسط، بأشكال يمكن أن تكون مرعبة”.
في دراسته “الحرب القادمة: هل تقوم الصين بغزو تايوان؟” يشير د.سكوت رومانيوك الباحث بمركز تايوان للدراسات الأمنية إلى أن السنوات الأخيرة شهدت زيادة ملحوظة في المخاوف من اندلاع محتمل للأعمال العدائية بين الصين وتايوان.
وقد فاقم التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا خلال مطلع 2022 من تلك المخاوف وجعل هذا الموضوع يحظى باهتمام واسع أثمر عن تنوع ثري من المخرجات البحثية.
ويوضح رومانيوك أن العوامل العسكرية واللوجستية لغزو محتمل تعتبر نقطة انطلاق طبيعية للنظر في موضوع الغزو.
ومن هذا المنطلق، يرجّح أن يستلزم الغزو العسكري لتايوان تخصيص موارد هائلة، وقد يمثل مغامرة لوجستية طموحة على نحو استثنائي لا مثيل لها من حيث النطاق. واستنادا إلى الإحصائيات الرسمية، تحتفظ تايوان بما يقدر بنحو 169 ألفا من الأفراد العسكريين يدعمهم قرابة 1.66 مليون من أفراد الاحتياط، بينما تحتفظ الصين بقوة عسكرية أكبر بكثير؛ قرابة 2.3 مليون جندي.
واستنادا إلى الحكمة السائدة، فإن نسبة ثلاثة إلى واحد تعتبر في العادة النسبة المثالية للنجاح وتحقيق الهدف في هجوم يستهدف دفاعات قوية ومتمترسة بعمق.
وثمة اعتقاد شائع مفاده أن الغلبة العددية الكاسحة للصين تجعل من النصر الصيني محصلة لا مهرب منها، إلا أن انعدام التوازن في ما يتعلق بالموارد البشرية الحالية يخفي وراءه متغيرات هامة، مثل قدرة جنود الاحتياط في تايوان؛ فعلى الرغم من أن عددا كبيرا من جنود الاحتياط التايوانيين قد لا يتمتعون إلا بخبرة عسكرية محدودة، فإنهم يتمتعون بالقدرة على إظهار مقاومة باسلة ضد القوة الغازية.
وأكثر من ذلك، قد يعتمد الدفاع عن تايوان أيضا على مشاركة سكانها المدنيين وقوات غير قتالية أخرى. ومن ثم يؤدي التوسع في أرقام المصفوفة العددية ومجهودات المقاومة ضد إعادة التوحيد القسرية إلى تزويد تايوان بمجموعة واسعة من الفوائد ومن النتائج غير المضمونة للصين، أسوة بأيّ مغامرة عسكرية.
ويلفت رومانيوك إلى أن احتمالات الدعم الخارجي من أميركا ودول أخرى قد تساهم في مواجهة ممتدة ضد تايوان في تعزيز التدابير الدفاعية وزيادة أعداد الخسائر البشرية، ومفاقمة الصراع، وهو ما لا تحبذه الصين بشدة. كما أن هناك احتمالية لنشوء حرب مطولة نتيجة لإقدام دول مثل اليابان وكوريا وأستراليا وكندا، وغيرها من دول جنوب شرق آسيا، على تقديم مساعدات عسكرية. ويصدق هذا المنطق أيضا على العديد من أنواع المساعدات التي قد تقدمها بلدان أوروبية.
ويرى أستاذ العلوم السياسية د.نينج لياو في دراسته “العالمية الثالثة: ما احتمالات نشوب حرب بين واشنطن وبكين؟”، أن ديناميكيات الاقتصاد السياسي بين أميركا والصين تتشابك على المستويين الداخلي والعالمي بطريقة اصطدمت بها القضايا الأمنية مع القضايا الاقتصادية؛ ما يجعل الأجندات الاقتصادية والأمنية تتداخل بشكل متزايد. ونظرا إلى أن الأجندة الاقتصادية افترضت بعدا للمنافسة الأمنية، فإن المزيد من المحللين والمسؤولين الحكوميين الأميركيين مغرمون بالنظر إلى التهديدات الأمنية الناشئة عن العلاقات التجارية بين أميركا والصين، وهو ما يفسر سبب تجاوز التوترات الاقتصادية بين القوتين إلى ما هو أبعد من الاحتكاكات التجارية والصراعات التجارية؛ إذ شملت حربا تكنولوجية متصاعدة في سياق التنافس بين البلدين.
ويؤكد أن التحدي الصريح الذي تبديه بكين في مجال التكنولوجيا الفائقة قد ارتقى إلى مستوى التهديد الوجودي للأمن القومي الأميركي، وهو ما يستحق اتخاذ تدابير عاجلة واستثنائية.
وفي هذا السياق، أطلقت واشنطن جهودا متضافرة، بما في ذلك إعادة سلاسل التوريد العالمية إلى الداخل، وإضفاء الطابع المؤسسي على الرقابة على الصادرات والفحص الصارم للاستثمار الأجنبي المباشر المتجه إلى الخارج لأسباب تتعلق بالأمن القومي، لخنق مساعي الصين للحصول على مكانة رائدة في أحدث التقنيات.
وقد تم الكشف عن هذا النوع من “الأمننة” بطريقة ثنائية الاتجاه؛ ما أدى إلى نشوء حالة الانقسام؛ حيث أجبر الجانبان ثلاث دول على التمسك بأنظمتها التكنولوجية الخاصة بها ومنع منافسيها من القيام بذلك. ووسط هذه المنافسة الإستراتيجية المفرطة، فإن مخاطر التوترات الاقتصادية بين أميركا والصين مرتفعة للغاية بحيث لا يمكن إنهاء الحرب التجارية بطريقة سريعة.
وفي البيئة التي يسود فيها عدم الثقة والشك المتبادل، يتم تعويض انعدام الأمن الناجم عن الهويتين السياسيتين الاقتصاديتين المتمايزتين من خلال تطرف الانقسام بين الذات والآخر، وإعادة إضفاء الطابع الأمني على القضايا المتنازع عليها؛ الأمر الذي أطلق العنان للمخاوف الناشئة بشأن انعدام الأمن في المنطقة. وتعد مجالات القضايا غير الاقتصادية من أبرز التطورات في هذا الصدد، مثل العلاقات المتنامية بين أميركا وتايوان.
جغرافيا الحرب
◙ وجود عسكري أميركي كبير: 375 ألف عسكري، و119 قاعدة في اليابان، و73 في كوريا الجنوبية، و9 في الفلبين
◙ الغزو العسكري لتايوان يستلزم تخصيص موارد هائلة، وقد يمثل مغامرة لوجستية طموحة على نحو استثنائي لا مثيل لها من حيث النطاق
ردا على نهج بكين المتشدد تجاه تايوان، وصل التعاون الدبلوماسي والإستراتيجي الشامل للولايات المتحدة مع تايوان إلى النقطة التي بدأت فيها العلاقة تشبه التحالف الدفاعي الثنائي الذي أنهته إدارة جيمي كارتر عندما حولت أميركا علاقاتها الدبلوماسية الرسمية إلى جمهورية الصين الشعبية؛ الأمر الذي أثار ردود فعل غير متوقعة من جانب بكين، وأدى إلى تفاقم حل الصراع الناجم عن التوترات الاقتصادية المستمرة.
وحول جغرافيا الحرب والتنافس الدولي على النفوذ في الأقاليم الحرجة جاءت دراسة الباحث والمحلل الجيوسياسي الأردني عبدالملك حسين عامر حيث يؤكد أن بحر الصين الجنوبي يعتبر من أكثر الأقاليم عسكرة مقارنة بغيره من أقاليم العالم، لاسيما أفريقيا وآسيا الوسطى؛ فقد تجاوز النزاع في بحر الصين الجنوبي الدول التسع الرئيسية المطلة عليه، وأصبح بدلا من ذلك “جغرافيا حرب” قابلة للتصعيد بين أميركا والصين، وتحديدا منذ أن تدخلت واشنطن في النزاع، وعملت على تدويله بدءا من عام 2010.
وتشهد هذه المياه ذات القيمة الإستراتيجية واقعا مربكا ومعقدا للغاية فاقمته الأزمة الأوكرانية، التي عززت مخاوف الغرب من تكرار السيناريو الروسي مع الصين؛ حيث أن انشقاق روسيا عن نموذج ويستفاليا الذي يضفي مكانة على استقلال الدول وسلامة حدودها لربما يشرعن نوايا الصين بضم جزيرة تايوان إلى برها الرئيسي.
وخلال عام 2022 كثفت أميركا وجودها العسكري والسياسي في المنطقة؛ إذ زار تايوان ثمانية وعشرون عضوا في الكونغرس الأميركي، بما في ذلك رئيسة مجلس النواب السابقة في ذلك العام، وخلال العام نفسه نشر الجيش الأميركي ثلاث مجموعات من حاملات الطائرات، و20 قاذفة قنابل، و12 غواصة هجومية نووية، فضلا عن مناكفة كل من الدولتين للأخرى بإجراء المناورات والتدريبات الدورية.
ويرى عامر أن التصعيد الراهن بين واشنطن وبكين في بحر الصين الجنوبي ينذر بخطر الانزلاق نحو مواجهة مباشرة، مع احتفاظ كلا الجانبين بقوة ضاربة في المنطقة؛ إذ تتمتع أميركا بوجود عسكري ضخم في المحيط الهادئ والمناطق المحيطة في بحر الصين الجنوبي، مع قوة تناهز 375 ألف فرد عسكري ومدني، و119 قاعدة عسكرية في اليابان، و73 قاعدة في كوريا الجنوبية، و9 قواعد في الفلبين، بالإضافة إلى قواعدها في جوام وأستراليا.
في المقابل، تستعد الصين لحرب محتملة في المنطقة عبر برامج التحديث العسكري، والزيادة في المخصصات المالية للجيش. ويصب ذلك في مصلحة سعيها إلى تشييد ما يشبه “حاجز ماجينو”، الذي أطلق على الخط الدفاعي الذي شيدته فرنسا لتجنب الغزو الألماني إبان الحرب العالمية الثانية.
وتسعى بكين من خلال تلك السياسات إلى السيطرة على البحر من خلال:
• أولا إنشاء خط دفاعي يحيط بسلسلة الجزر الأولى وتستهدف بكين من وراء ذلك منع القوات الأميركية من الولوج إلى البحر، عبر عمليات البناء واسعة النطاق في جزر سبراتلي المتنازع عليها، والمناطق البحرية المحيط بها وتسليحها بأنظمة صواريخ مضادة للسفن والطائرات، ومعدات ليزر وتشويش، وطائرات مقاتلة، بالإضافة إلى الميليشيا البحرية هناك؛ لتحييد عمليات التقدم أو الإنزال أو القصف في محيط البر الرئيسي والبحر.
• ثانيا إنشاء خط دفاعي متقدم عبر سلسلة الجزر الثانية، حيث من المحتمل أن يتسع هذا الخط ليحتضن جزيرة جاوة وسنغافورة ومضيق ملقا. وتطبق الصين على امتداده قواعد المنطقة المحرمة، من خلال توظيف صواريخها فرط الصوتية والباليستية وحاملات الطائرات في ردع التحركات البحرية الأميركية في المحيط الهادئ، وإبقاء الأهداف الأميركية خارج سلسلة الجزر الثانية والثالثة معرضة للخطر.
العرب