مساع لتكريس فكرة التقسيم بين الليبيين

مساع لتكريس فكرة التقسيم بين الليبيين

عاد سيناريو تقسيم ليبيا وفقا للنظام الفيدرالي إلى الواجهة ما يهدد وحدة الدولة الترابية ويفتح الباب أمام المزيد من الانزلاق في الصراعات. ولا يدعم أغلب الليبيين سيناريو التقسيم الذي يقول مراقبون إن قوى غربية تعمل عليه بأياد ليبية.

طرابلس- يبدو المشهد الليبي وكأن البلاد تتجه نحو الانقسام الفعلي في إطار كيان فيدرالي كالذي تأسست وفقه الدولة الحديثة عند انبعاثها في العام 1951 اعتمادا على دستور المملكة الليبية المتحدة الذي كان ينص على تشكل البلاد من ثلاثة أقاليم وهي طرابلس وبرقة وفزان .

ومساء السبت الماضي، تناقلت وسائل الإعلام صورة معبرة للقيادات البارزة المنحدرة من شرق ليبيا وقد شبكت أياديها وهي تحث الخطى لافتتاح جسر فينيسيا الذي تم افتتاحه إلى جانب أربعة جسور أخرى وسط مدينة بنغازي في سياق مشاريع إعادة الإعمار التي تعرفها المنطقة الشرقية تحت إشراف مباشر من قيادة الجيش .

وقد ظهر في الصورة الجنرال خليفة حفتر القائد العام للجيش الوطني وعقيلة صالح رئيس مجلس النواب ونائباه الأول والثاني وأسامة حماد رئيس الحكومة المنبثقة عن البرلمان، وحاتم العريبي رئيس لجنة إعادة الإعمار والاستقرار، وبحضور المدير التنفيذي لصندوق إعمار درنة والمناطق المتضررة بلقاسم حفتر، والمسؤولين بلجنة إعادة الإعمار والقيادات العسكرية والأمنية والدبلوماسيين.

ورغم أهمية المناسبة التي كان يمكن اعتبارها انعكاسا لحركة إعادة الإعمار في كامل البلاد، إلا انه لوحظ غياب تام لمسؤولي المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية بطرابلس، وهو ما حصر الحدث في إطار اقليمي ومناطقي، وأعطاه تفسيرا سياسيا بأن الانقسام السياسي بات أمرا واقعا في البلد الخاضع لأزمة متفاقمة منذ 12 عاما .

وفي كلمته بالمناسبة، أبرز الجنرال حفتر أن القيادة تساعد على «بناء مستقبل زاهر لبنغازي استنادا إلى إستراتيجية تعتمد على إعمار البنية التحتية والخارطة العمرانية» ، وقال في غمزة من قناة حكومة المهندس عبدالحميد الدبيبة، أن الحكومة المكلفة من مجلس النواب تعمل على مشاريع حقيقية لتطوير بنغازي «لا كغيرها التي لا نرى نتائج لأعمالها».

وأضاف حفتر “مستمرون في القوات المسلحة بالتنسيق والتعاون مع الحكومة الليبية في بناء المدن وفق خطط مدروسة”، معتبرا أن ليبيا تعيش مرحلة تحول عنوانها النهضة والعمران، وأن “ما نشهده اليوم تدشين لمشاريع أكبر وأضخم”.

وتابع أن “بنغازي العامرة العصية على الإرهاب تستحق الكثير مع واجب العمل على مشاريع تنموية فيها لتكون قبلة للقاصدين”، مردفا أن اختيارها عاصمة للثقافة الإسلامية «استحقاق للمدينة التي باتت اليوم عاصمة الريادة والإعمار ومركزا للمعارف والعلوم والآداب».

ولفت حفتر إلى أن هناك المزيد من المشاريع الضخمة قيد التنفيذ، مشددا على أن الإعمار والتنمية هما العنوان الرئيسي في المرحلة الراهنة.

وأعرب عن ثقته في أن بنغازي “ستصبح نموذجًا يحتذى به في مجالي الاستقرار والتنمية”، مشيرا إلى أنها “أضحت اليوم شاهدة على صناعة مستقبل مشرق للأجيال القادمة، انطلاقًا من تنوعها وتراثها الحضاري العريق”، مشيدا بجهود رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب أسامة حمّاد في تنفيذ مشاريع البنى التحتية.

وحاول رئيس مجلس النواب عقيلة صالح أن يكسر إيقاع الاندفاع الإقليمي الذي كان سائدا بالقول إن إعمار مدينة بنغازي يأتي لمصلحة كل الليبيين، كما جدد التأكيد على أن هذه الإنجازات التي انطلقت في مدينة بنغازي وقريبا في مدينة درنة والمناطق التي تعرضت للسيول والفيضانات تؤكد على أن هناك نهضة تنموية سيكون لها الأثر الكبير على تحسين وتسيير سبل الحياة، وستبعث رسالة إلى العالم مفادها بأن عجلة التنمية في ليبيا بدأت بشكل جاد.

ودعا عقيلة صالح الشركات العربية والأجنبية للمشاركة في هذه النهضة التنموية التي تدل على أن ليبيا بلد أمن وأمان، وأشاد بإنجاز الشركات المصرية لمهامها طبقا للمواصفات العالمية، مشددا على أن مجلس النواب داعم لمشاريع الاستقرار في ليبيا، ويقف صفا واحدا لمساندة هذه الجهود الجبارة .

من جانبه أكد رئيس الحكومة المنبثقة عن البرلمان أسامة حمّاد، خلال حفل افتتاح فعاليات بنغازي عاصمة ثقافية للعالم الإسلامي، أن الحكومة، وبدعم القيادة العامة والبرلمان ولجنة وصندوق الإعمار، تسير نحو خطة محددة ومدروسة وفق أهداف ورؤى محددة.

وقال إن الحكومة الليبية تسعى لتحقيق مصالح الوطن وتحقيق فرص العيش الكريم لكافة مواطنيه والتنمية المستدامة، وإن أعمالها ظهرت جلية للقاصي والداني في بنغازي ودرنة وكافة المدن، مشيرا إلى توقيع الكثير من عقود المشاريع الإستراتيجية المهمة.

كما أكد حمّاد على دعم الحكومة للمناشط الثقافية والفنية والأدبية والرياضية، لافتًا إلى أنها ستهيئ البيئة المناسبة للمثقفين والمفكرين والأدباء والفنانين ليقدموا إبداعاتهم في أعلى مستوى ممكن، وبما يخدم مصالح الوطن ووحدته، داعيا المبدعين إلى تبني قضايا الوطن والمواطن، ونشر الثقافة الهادفة لبناء الأجيال بما يعزز مكامن الخير، شاكرًا منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة على اختيار بنغازي وتمديد فترة الفعاليات.

وشهدت بنغازي حفلا ضخما مساء الأحد بمناسبة افتتاح تظاهرة «عاصمة ثقافية في العالم الإسلامي»، لكن مرة أخرى كان موقف سلطات طرابلس سلبيا، حيث لم تقم وسائل الإعلام المحسوبة على حكومة الوحدة الوطنية بنقل الحدث مباشرة، وخاصة قناة «الوطنية» و«القناة الرسمية» اللتين من المفروض أنهما محطتان تلفزيونيان وطنيتان تباشران العمل من منطلق ليبيا الواحدة الموحدة رغم اختلاف المسارات والمواقف السياسية .

ولم تبث الحفل إلا قناتا «ليبيا الحدث» و«ليبيا المسار» من بنغازي وهما تعملان تحت إشراف قيادة الجيش، وهو ما يشير إلى أن سلطات العاصمة نظرت إلى تظاهرة «بنغازي عاصمة للثقافة الإسلامية» على أنها حدث من خارج دائرة اهتمامها، وربطتها بسلطة الجيش وبصورة الجنرال حفتر، وبما يمكن أن تمثله من دعاية إعلامية لشخصه ومشروعه.

ويرى المراقبون أن أغلب الليبيين يدافعون عن وحدة الدولة والمجتمع، لكنّ الفرقاء السياسيين يسعون لتكريس فكرة التقسيم وفق دستور 1951 وهو ما تدفع إليه بعض القوى الدولية وخاصة الغربية، وبات جزءا من الأمر الواقع الذي يتجسد بالخصوص في الانقسام الحكومي وفي فشل محاولات توحيد المؤسسة العسكرية، وفي الصراع القائم بين مجلسي النواب والدولة، وفي محاولات تكريس حالة من الانقسام النفسي بتهيئة الشارع لتقبل فكرة العودة إلى النظام الفيدرالي الذي كان قد ألغي منذ التعديلات الدستورية للعام 1963.

وقد حذر عضو مجلس الدولة الاستشاري أبوالقاسم قزيط من تقسيم ليبيا في عام 2024، وقال إن البلاد في مفترق طرق بين الوصول إلى الحكومة الموحدة أو الانزلاق إلى مخاطر صراع مسلح والمزيد من تقسيم مؤسسات البلاد، وهو ما لا يتمناه أيّ عاقل.

ويجمع أغلب المراقبين على أن كل المبادرات الدولية كان مصيرها الفشل، وأن فشلها يمثل في حد ذاته هدفا لمن يرغبون في الوصول بالبلاد إلى مرحلة تقسيم نهائي ينسجم مع مخطط الدول الكبرى لتقاسم النفوذ في ليبيا والمنطقة كلل.

وبحسب متابعين للشأن الليبي، فإن الجنرال حفتر يبدو الحاكم الفعلي للمنطقة الشرقية، بينما يحاول المهندس الدبيبة الظهور في صورة رئيس الحكومة الاتحادية الذي يساوم من تحت الطاولة لتحديد المسؤوليات في إطار سلطته وبالتوافق مع قيادة الجيش في شرق البلاد، بينما يبقى هناك صراع واضح بين الطرفين حول إقليم فزان الذي لا يمتلك أبناؤه سلطة السلاح والتحكم في الثروة والتحالفات الإقليمية والدولية لفرض خياراتهم بخصوص التقسيم، وفرض شروطهم عبر التحكم في مصير إقليمهم في سياق البناء الفيدرالي.

العرب