شهدت إيران يوم 3 يناير 2024 حادثًا إرهابيًا، تخطى عدد القتلى فيه 80 قتيلًا بالإضافة إلى عشرات الجرحى في تفجيرين وقعا قرب مقبرة مدينة كرمان بالجنوب، خلال إحياء ذكرى مقتل قائد فيلق القدس- الذراع الخارجية للحرس الثوري الإيراني- قاسم سليماني، الذي قُتل في 3 يناير 2020 بهجوم بطائرة مسيرة أمريكية بعد خروجه من مطار بغداد، وأعلن تنظيم “داعش” مسئوليته عن الحادث يوم 4 يناير حيث ذكر عبر قنواته على تليجرام أن اثنين من مقاتليه “فجرا حزاميهما الناسفين وسط تجمع كبير قرب قبر قاسم سليماني”.
وقد كان لافتًا أن بعض المسئولين الإيرانيين سارعوا إلى توجيه اتهامات لكل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وذلك في ظل الظروف الإقليمية المعقدة التي وقع فيها الهجوم، بسبب الحرب الإسرائيلية على غزة، والتصعيد في البحر الأحمر، حيث تتهم إسرائيل بدورها إيران بتقديم الدعم للفصائل الفلسطينية، والوقوف وراء هجمات الحوثيين ضدها، في حين حرصت الولايات المتحدة الأمريكية على نفى مسئوليتها ومسئولية إسرائيل عن الحادث منذ وقوعه، في سياق سعيها إلى تجنب توسيع نطاق الحرب الحالية، لاسيما مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية في 5 نوفمبر القادم.
مغزى التوقيت
يكتسب الحادث أهمية خاصة ليس فقط لأنه تم تنفيذه في يوم له طابع رمزي بالنسبة لإيران، ولكن أيضًا لكونه وقع في توقيت صعب في الشرق الأوسط، حيث لا يمكن قراءته بعيدًا عن ما يشهده الإقليم من توترات ترفع من احتمالات توسع نطاق الحرب الإسرائيلية في غزة إلى مناطق أخرى في الشرق الأوسط، كما أنه جاء في وقت تقوم فيه إسرائيل بعمليات اغتيال للمسئولين المعنيين بإدارة العلاقات مع إيران سواء من حماس أو حزب الله أو غيرهما، الأمر الذي جعل مسئولين في إيران، وبالرغم من إعلان داعش تبنيه الحادث، يؤكدون تورط إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية فيه.
فقبيل عملية داعش، قامت إسرائيل يوم 25 ديسمبر 2023، باغتيال رضا موسوي أحد أهم قيادات الحرس الثوري في سوريا[1]، واغتالت يوم 2 يناير 2024 القيادي في حركة حماس صالح العاروري في الضاحية الجنوبية بلبنان[2] والقيادي في حزب الله حسين يزبك بعد ذلك بيوم واحد، كما أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية، يوم 4 يناير، مسئوليتها عن استهداف مقر الدعم اللوجيستي للحشد الشعبي في شرق بغداد على نحو أسفر عن مقتل آمر اللواء الثاني عشر في حركة النجباء ونائب رئيس عملياتها في بغداد، مشتاق طالب السعيدي الملقب بـ”أبو تقوى”[3].
وقد عملت تلك الفصائل الموالية لإيران والمدعومة منها تحت ما يسمى “توحيد الساحات” الذي يهدف إلى تحريك أكثر من جبهة في ظل الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة، لذا تنفذ إسرائيل تلك العمليات التي تستهدف قيادات من إيران والمليشيات الموالية لها كرد منها على ما تفرضه تحركات إيران من تهديد لمصالحها وفق العديد من المسارات التي يمكن رصدها في الآتي:
1- التصعيد في البحر الأحمر: تشهد منطقة البحر الأحمر تصعيدًا عسكريًا غير مسبوق، بعد تكثيف جماعة الحوثيين في اليمن من هجماتها على السفن التجارية منذ اندلاع حرب غزة في 7 أكتوبر 2023، وإيران ليست ببعيدة عن تلك الأحداث حيث ينظر إليها بأنها شريكة في المسئولية عن الهجمات الحوثية التي خلّقت أزمة اقتصادية في ميناء إيلات بخسارته 80% من الحاويات التي كانت تصل إليه سابقًا، وذلك نظرًا لدعمها طويل الأمد لهم.
ولمواجهة هذا التصعيد، أعلنت الولايات المتحدة عن تشكيل تحالف جديد تحت اسم “حارس الازدهار” يضم عددًا من البلدان لحماية الملاحة البحرية، مثل بريطانيا وكندا وفرنسا وغيرها، إلا أن إيران ردت في المقابل بالإعلان عن تأسيس ما يسمى بـ”الباسيج البحري”، وهددت بالقيام بمهام تعرقل قدرة القوة البحرية الدولية التي قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتشكيلها على ممارسة مهامها.
وفي خضم استمرار الحوثيين في استهداف سفن في البحر الأحمر، وجهت إيران رسالتين مباشرتين دعمًا لهم إحداهما عسكرية بنشر المدمرة “ألبرز” برفقة سفينة حربية قرب باب المندب بعد يوم واحد من إعلان واشنطن إغراق زوارق حوثية وتهديد بريطانيا باتخاذ إجراءات مباشرة ضد الحوثيين، وأخرى دبلوماسية تمثلت في لقاء عدد من المسئولين الإيرانيين على رأسهم وزير الخارجية أمير عبد اللهيان والمتحدث باسم الحوثيين محمد عبد السلام في طهران، ما أثار المخاوف من اندلاع مواجهة عسكرية بين التحالف الجديد وإيران.
وفي هذا السياق، قام تنظيم داعش بتنفيذ عمليته داخل إيران، على نحو يوحي بأن التنظيم يسعى إلى استغلال انشغال إيران بإدارة الصراع غير المباشر مع إسرائيل لتنفيذ مزيد من تلك العمليات والالتفاف على الإجراءات الأمنية التي تتخذها الأجهزة الإيرانية.
2- تصعيد في الملف النووي: تراجعت احتمالات نجاح المحادثات النووية بين كل من إيران والقوى الدولية الكبرى (مجموعة 4+1) بمشاركة أمريكية غير مباشرة في إحراز تقدم في الملف النووي، وخلال الفترة الأخيرة زادت إيران معدل إنتاجها من اليورانيوم المخصب بنسبة تصل إلى 60% في مفاعلي نطنز وفوردو، وهي نسبة قريبة من المستوى المطلوب لتصنيع أسلحة نووية وهو 90%[4]. وقد فُسرت تلك الخطوة على أنها محاولة من الجانب الإيراني لاستغلال انشغال المجتمع الدولي بحربي غزة وأوكرانيا واتخاذ خطوات جديدة نحو الوصول إلى مرحلة امتلاك القدرة على القنبلة النووية.
وقد كان لافتاً في هذا الإطار، أن المسئولين في إيران حرصوا في تعاملهم مع عملية كرمان على الربط بين هذه العملية وبين استمرار النشاط النووي الإيراني، في سياق السردية الإيرانية التقليدية التي تقوم على أن هناك محاولات لتقويض دعائم النظام وتحجيم ما يعتبره “إنجازات” عبر خطط تدعمها قوى خارجية وأطراف داخلية.
3- توظيف الميليشيات المسلحة: بجانب ما يقوم به الحوثيون في البحر الأحمر، فإنهم أيضًا لم يتوقفوا عن استهداف إيلات بالمسيرات والصواريخ. وعلى الجبهة اللبنانية يواصل حزب الله تحركاته ضد إسرائيل، حيث تشهد الحدود اللبنانية-الإسرائيلية قصفًا متبادلًا شبه يومي. وفي العراق، نفذت الجماعات المسلحة الموالية لإيران منذ 7 أكتوبر الماضي وفقًا للبنتاجون ١١٥ هجومًا بالمسيرات والصواريخ على أهداف وقواعد أمريكية في كل من العراق وسوريا.
وقد ردت إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية على ذلك بتوجيه ضربات استهدفت قادة بعض تلك الميليشيات في العراق وسوريا، على نحو ينذر بمخاطر تغير قواعد الاشتباك الحالية التي ظلت مقتصرة على مسافة محددة لا يتجاوزها أي من الأطراف لتفادي اتساع نطاق الصراع. ويعزز من هذا الاحتمال انتهاك إسرائيل للسيادة اللبنانية، بشكل فسرته إيران وحزب الله بأنه محاولة إسرائيلية لدفع الطرفين نحو الانخراط في حرب مفتوحة خلال المرحلة القادمة.
مسارات الرد الإيراني
كشف الحادث نقاط الضعف داخل النظام الإيراني، كما عكس وجود اختراق داخل منظومته الأمنية، فالحادث وقع في مناسبة يفترض أن يكون قد تم تحصينها بشكل كامل أمنيًا واستخباراتيًا، وخاصة وأنه جاء بعد يوم واحد فقط من اغتيال صالح العاروري، وهو ما يعيد إلى الأنظار فشل أجهزة الأمن سابقًا في إحباط العمليات التخريبية التي وقعت في منشأة نطنز النووية، وقبلها سرقة وثائق تتعلق ببرنامج إيران النووي بالكامل، وما كُشف عنه حينها بأن إيران “تعاني من اختراق استخباراتي وتلوث أمني”.
كما وضع الحادث إيران أمام موقف حرج قد يزيد من مساحة الانتقاد الشعبي للنظام، حيث يظهر أنها ليست فقط غير قادرة على حماية بعض كبار مسئوليها، ولكنها أيضًا غير قادرة على منع الهجمات التي تقع على أراضيها، خاصة وأن تنظيم داعش توعد بأن تلك العملية لن تكون الأخيرة الموجهة نحو إيران وأصدر يوم 5 يناير بيانًا جديدًا هدد فيه بمزيد من الهجمات، وقال إن تفجيرات كرمان تمثل “بداية حربنا” مع إيران. كما كشف بيان الوزارة الإيرانية، أن الشرطة عثرت على سترتين ناسفتين وأجهزة تفجير عن بعد وقنابل يدوية وآلاف الشظايا التي تستخدم في صنع سترات ناسفة وأسلاك وعبوات ناسفة تشير، كما قال المسئولون، إلى أن المهاجمين كانوا يخططون لهجمات أخرى، وربما يتعرض النظام الآن لضغوط داخلية متزايدة لمعاقبة الجناة. وإزاء هذا الموقف الصعب الذي يواجهه النظام الإيراني يمكن الحديث عن عدة مسارات لرده على تلك الأحداث، تتمثل في الآتي:
1- التوصل إلى تفاهمات مع طالبان: تختلف داعش خراسان مع طالبان، حيث تتهم الأخيرة بالتخلي عن الجهاد، وعدم التشدد تجاه إيران، التي ساعدت في السابق التحالف الدولي للإطاحة بطالبان التي كانت عدوة لها في عام 2001، لكنها عادت ودعمت الحركة للضغط على الوجود العسكري الأمريكي على حدودها. وقدم ضباط الحرس الثوري السلاح لطالبان منذ عام 2007 على الأقل، وفقًا لتقرير وزارة الدفاع الأمريكية الصادر في أكتوبر 2014، ووصلت العلاقات بينهما إلى ذروتها عندما استضافت طهران زعيم حركة طالبان السابق الملا أختر منصور لمدة شهرين، وغادرها قبل مقتله بأسبوع.[5] وتنظر طالبان إلى تنظيم داعش على أنه يمثل تهديدًا للأمن الداخلي بأفغانستان، بجانب كونه عقبة أمام جهود الحركة للحصول على الاعتراف الدولي والشرعية، وفي هذا الصدد تجري إيران مباحثات مع طالبان حول وضع آلية للضغط على التنظيم خلال الفترة القادمة، وقد كان لافتاً أن إيران وطالبان كثفتا بالفعل خلال الأشهر الأخيرة جهودهما ضد داعش، حيث اعتقلت المخابرات التابعة للحرس الثوري الإيراني مؤخرًا أشخاصًا مرتبطين بالشبكة الإعلامية والعملياتية التابعة لداعش كما نفذت حركة طالبان غارات على مخابئ داعش بأفغانستان.[6]
2- استهداف مواقع للتنظيم: من المتوقع أن تقوم إيران بتوجيه ضربات إلى التنظيم في أماكن تمركزه، ففي أفغانستان قد تقوم بش هجمات جوية أو صاروخية مركزة تستهدف معسكرات التنظيم والجماعات المناوئة لها في أفغانستان، في تكرار للضربات التي وجهتها سابقًا لمعسكرات جماعات كردية معارضة هاربة من إيران في كردستان العراق. وفيما يخص سوريا والعراق، ربما تقوم إيران باستهداف مواقع داعش هناك وهو الخيار الذي اتبعته عام 2018 انتقامًا لـ”هجوم الأحواز”، حيث أعلن الحرس الثورى الإيرانى، يوم 1 أكتوبر من هذا العام، استهدافه جماعات إرهابية فى شرق الفرات بسوريا بصواريخ.
3- توسيع نطاق التصعيد مع إسرائيل: رغم أن الولايات المتحدة الأمريكية نفت صلة إسرائيل بالهجوم الذي وقع في كرمان، إلا أنه من المتوقع أن يوفر هذا الهجوم مزيدًا من المحفزات التي يمكن أن تدفع طهران إلى رفع مستوى التصعيد مع إسرائيل خلال المرحلة القادمة، خاصة أنها لم ترد حتى الآن على عمليات الاغتيال التي نفذتها إسرائيل ضد بعض قياداتها فضلاً عن بعض كوادر المليشيات التابعة لها.
ويرتبط ذلك، من دون شك، بحرص بعض مسئوليها على عدم التراجع عن اتهام إسرائيل بالتورط في الحادث، حتى بعد إعلان تنظيم داعش مسئوليته عن الهجوم الذي تشابهت طبيعته وآليات تنفيذه مع تلك التفجيرات التي كان قد أعلن التنظيم مسئوليته عنها سابقًا، والتي تختلف عن طبيعة العمليات التي تنفذها الاستخبارات الإسرائيلية داخل إيران التي تستهدف شخصيات بعينها أو منشآت نووية، على غرار محسن فخري زاده، رئيس مؤسسة الأبحاث والتطوير في وزارة الدفاع الإيرانية، الذي اغتيل في 27 نوفمبر 2020، فضلاً عن حسن صيادي خدايي القيادي في الحرس الثوري الذي قتل في 22 مايو 2022.
في النهاية، يمكن القول إن النظام الإيراني سعى إلى الربط ما بين تفجيريي كرمان اللذين تبناهما تنظيم داعش، وما تتعرض له القيادات الخاصة بالمليشيات التابعة له في الإقليم من استهداف من قبل إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، في ظل المقاربة التي يتبناها وتقوم على أن هناك مخططًا لاستهداف إيران بدعم من جانب أطراف داخلية. وهنا، فإن هذا الربط ربما يدفع النظام إلى الرد على هذا الحادث الإرهابي عبر التصعيد في أكثر من جبهة، سواء من خلال رفع مستوى الأنشطة النووية الإيرانية، أو عبر تكليف المليشيات الموالية بتوسيع نطاق المواجهات الحالية مع إسرائيل التي ما زالت مصرة على المضى قدمًا في عملياتها العسكرية داخل قطاع غزة.