حرب غزة: مراوحة عسكرية ومتاهة سياسية

حرب غزة: مراوحة عسكرية ومتاهة سياسية

تختتم الحرب على غزة شهرها الثالث، ولكن الأسئلة المتعلقة بسياقها العسكري والسياسي، وبما بعد نهايتها، تظل بلا إجابات واضحة وقاطعة. تطالب المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وهي تتحمل مع بقية سكان غزة أعباء لم تعرفها حرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بوقف دائم لإطلاق النار وانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع. ولكن أحدًا لا يعرف على وجه اليقين، ولا حتى في وزارة الحرب الإسرائيلية، الشروط التي لابد من توافرها لقيام الحكومة الإسرائيلية بوقف الحرب. تضرب الخلافات وتدافع الطموحات صفوف القيادة الإسرائيلية، بينما تطارد حكومة نتنياهو سراب الأهداف التي أعلنها رئيس الحكومة للحرب قبل ثلاثة أشهر، من القضاء المبرم على حماس إلى استعادة الرهائن الإسرائيليين، بدون أن تظهر أية مؤشرات ملموسة على قرب تحقق هذه الأهداف.

تمتلك الولايات المتحدة القدرة الكافية للضغط على الإسرائيليين ودفعهم إلى وضع نهاية للحرب. ولكن الدوافع السياسية التي تقف خلف الدعم الكامل والغطاء الدولي الذي توفره واشنطن للحرب الإسرائيلية لم تعد مفهومة حتى لقطاعات كبيرة من قادة الرأي الأميركيين. وعلى الرغم من أن أغلبية الرأي العام العالمي، ومعظم الدول العربية والإسلامية، سيما تلك المعروفة بعلاقاتها الوثيقة مع الولايات المتحدة، تطالب إدارة بايدن بالعمل على وقف إطلاق النار، ليس ثمة ما يدلِّل على أن واشنطن تبذل جهدًا ملموسًا للاستجابة لهذه المطالب.

الحقيقة، أن الولايات المتحدة، على الرغم من المأساة غير المسبوقة التي تسببت فيها أساليب حرب الإبادة التي تتعمدها آلة الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، عملت طوال أسبوع كامل على فرض تعديلات جوهرية في مشروع القرار الأممي الثالث المقدم لمجلس الأمن، بحيث لم يعد يعني الكثير لمسار الحرب. وعندما صوَّت مجلس الأمن الدولي على مشروع القرار، مساء يوم 22 ديسمبر/كانون الأول 2023، امتنعت الولايات المتحدة حتى عن تأييده، وكأنها توحي للجانب الإسرائيلي بإمكانية تجاهله إن رأت في نص القرار ما يدعو إلى التجاهل.

ولا ينسحب غموض الرؤية الإستراتيجية الأميركية للموقف على ساحة الحرب وحسب، الساحة التي لا تزيد عن 365 كيلومترًا مربعًا، ولكنه يعمُّ مجمل الفضاء الشرق أوسطي، الذي تهدده الحرب بعواقب وتحولات كبرى؛ بل ويعم الساحة الدولية برمتها، ويلقي بظلاله على كافة أضلاع النظام العالمي، الذي ارتكز إلى قيادة الكتلة الغربية منذ انهيار الحرب الباردة، وإلى القواعد والمعايير التي وضعتها هذه القيادة.

فكيف يمكن قراءة تطورات الحرب وسياقها بعد أن أتمت شهرها الثالث؟ وما القضايا وثيقة الصلة بالحرب، واليوم التالي على نهايتها، التي لم تزل محل جدل وتخمينات؟ وأية عواقب يمكن أن تنجم عن الحرب فيما يتعلق بالشرق الأوسط والنظام العالمي؟

مسارات العمليات العسكرية
بدأ الإسرائيليون حربهم على قطاع غزة بحملة قصف جوي ومدفعي مدمرة استمرت ثلاثة أسابيع، كانت كفة المعركة فيها تميل لصالح الجانب الإسرائيلي. ولأن تحويل قطاع غزة إلى منطقة غير قابلة للحياة كان أحد أهم أهداف الحرب الفعلية، أتاحت حملة القصف الأولى التي قام بها الجيش الإسرائيلي إيقاع دمار بالغ وواسع النطاق بمدن القطاع، بدون أن يتكبد أية خسائر إضافية لخسائره يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول. ولكن، ومنذ انتقل الجيش الإسرائيلي إلى مرحلة الاجتياح البري، في نهاية أكتوبر/تشرين الأول، أخذت صورة الحرب في التغير.

استهدف الاجتياح البري أولًا محافظة الشمال، بما في ذلك جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا، إضافة إلى الجانب الغربي من مدينة غزة في الشيخ رضوان والرمال ومعسكر الشاطئ وتل الهوى والميناء والزيتون. ومنذ منتصف ديسمبر/كانون الأول، توسعت العمليات البرية إلى شرق غزة، سيما أحياء الشجاعية والتفاح والدرج القديمة. ومنذ الأسبوع الأخير من ديسمبر/كانون الأول، استهدفت العمليات البرية الجانب الشرقي من محافظة الوسط في البريج والمغازي والنصيرات، إضافة إلى بلدات خزاعة وعبسان وبني سهيلا شرق محافظة خانيونس.

الواضح أن الجيش الإسرائيلي لم يزل مصممًا على تركيز العملية البرية في مدينة خانيونس ذاتها، التي يعتقد الجيش أنها المركز الرئيس لقيادة حماس وقوات القسام. ولكن من غير الواضح ما إن كانت مدينة رفح تقع ضمن مخطط القتال البري. ولأن رفح باتت الملجأ الأخير للنازحين من الشمال ومن غزة ومن بلدات المحافظة الوسطى وشرق خانيونس، ويعتقد أن تعداد سكانها ارتفع من 280 ألفًا قبل الحرب إلى مليون ومئتي ألف مع نهاية العام، يقيم أغلبهم في المخيمات ومراكز اللجوء من المدارس والمساجد والمستشفيات، فإن عملية برية في رفح ستتسبب في إيقاع مجزرة غير مسبوقة في المدنيين.

في كافة محاور التقدم البري، واجه الجيش الإسرائيلي مقاومة شرسة وعنيدة، أوقعت في وحداته خسائر فادحة في المعدات والأفراد. تمتعت القوات المشاركة في العمليات البرية، والتي يعتقد أنها تزيد عن 120 ألفًا من الجنود، بدعم وحماية من الدبابات والمدرعات ومن الطيران وبطاريات المدفعية المتمركزة في غلاف غزة، بينما استخدم المقاومون العبوات الناسفة والقذائف المضادة للمدرعات والتحصينات ومدفعية الهاون المتنقلة. في الموازين العسكرية التقليدية، لا يمكن بحال من الأحوال المقارنة بين الطرفين، لا من جهة العدد ولا قوة النيران ولا المعدات. ولكن المقاومين الفلسطينيين تمتعوا بمعرفة حميمة بأرض المواجهة، بإيمان قلَّ نظيره بعدالة قضيتهم، وباحتضان شعبهم. وليس ثمة شك أن الجيش الإسرائيلي راهن من البداية على أن إطالة أمد الحرب ستعمل في النهاية على استنفاد مخزون المقاومة من الذخائر وإرهاق المقاومين من المكث في الأنفاق. ولكن هذه المراهنة لم تتحقق، وظلت معدلات الاشتباك في محاور التقدم البري على حالها بعد مرور ثلاثة أشهر على اندلاع الحرب.

منذ أوائل ديسمبر/كانون الأول، أخذت وسائل الإعلام الإسرائيلية في نشر تقارير حول احتمال انتقال الجيش الإسرائيلي إلى مرحلة ثالثة من الحرب في وقتٍ ما من يناير/كانون الثاني، تقول المصادر الإسرائيلية إن الإدارة الأميركية أيضًا تدفع إليها. في هذه المرحلة، توقع معلقون عسكريون إسرائيليون بأن يعيد الجيش الإسرائيلي انتشاره إلى مناطق تمركز آمنة من قطاع غزة، بما في ذلك المنطقة الحدودية ومحور وادي غزة، وأن يعاود العمليات البرية بالإغارة السريعة على هدف معين في كل مرة، معززًا بالآليات المدرعة وسلاح الجو. ولأن الحرب لم تنجح بعد ثلاثة شهور في تحقيق أي من أهدافها المعلنة، تقول أوساط عسكرية إسرائيلية إن مرحلة الحرب الثالثة قد تستمر عدة شهور أخرى.

من وجهة نظر عسكرية إسرائيلية، سيستمر العمل في المرحلة الثالثة على تحقيق أهداف الحرب، وتجنب الخسائر الناجمة عن الاشتباك مع المقاومين، في الوقت ذاته. ومن وجهة النظر الأميركية، ستسمح المرحلة الثالثة للإسرائيليين بالاستمرار في النشاط العسكري بدون الإيقاع بعدد كبير من الضحايا المدنيين، الذين باتت صورهم تتسبب في إحراج كبير للإدارة الأميركية وسياسة الدعم المطلق للحرب على قطاع غزة. ويبدو أن الانسحابات الإسرائيلية العسكرية من معظم مدينة غزة ومحافظة الشمال خلال الأسبوع الأخير من ديسمبر/ كانون الأول، وقرار سحب خمسة ألوية من ساحة القتال وتسريح جنودها، الذي صدر في اليوم الأخير من الشهر نفسه، هي في جوهرها خطوات أولى نحو الانتقال بالحرب إلى المرحلة الثالثة.

مهما كان الأمر، يؤكد القادة الإسرائيليون، بما في ذلك رئيس الحكومة نتنياهو، وبغضِّ النظر عن تحولات طريقة الحرب وأساليبها، وعن طبيعة الإدارة التي ستقام في قطاع غزة بعد وقف إطلاق النار، على أن الجيش الإسرائيلي سيحتفظ بدور أمني في قطاع غزة لفترة مديدة، وأن هذا الدور الأمني يتطلب إقامة منطقة عازلة في الجانب الفلسطيني من محيط قطاع غزة الحدودي بعمق كيلومتر واحد على الأقل. كما يتطلب هذا الدور فرض إسرائيل سيطرتها على محور صلاح الدين (محور فيلادلفيا)، وهو الشريط الحدودي لقطاع غزة مع مصر الممتد لما يقارب 15 كيلومترًا من ساحل المتوسط إلى بوابة كرم أبي سالم.

عمومًا، ومهما كانت مصداقية التوقعات المتعلقة بلجوء الجيش الإسرائيلي إلى مرحلة ثالثة، فقد تكشفت المناطق التي انسحبت منها القوات الإسرائيلية في غرب وشرق مدينة غزة، كما في بيت حانون وجباليا البلد وجباليا المعسكر، عن دمار هائل قضى على البنية التحتية والمساكن والمدارس والمستشفيات، كما المؤسسات الحكومية والمعامل والمصانع والأسواق. ولكن، وعلى الرغم من هذا الدمار، ليس ثمة ما يشير إلى أن الجيش الإسرائيلي حقق إنجازات ملموسة سوى العثور على ثلاثة أو أربعة أنفاق، تشير صورها إلى أنها كانت مجرد أنفاق إدارية وليست ذات طابع دفاعي. في المقابل، توحي بيانات المقاومين الفلسطينيين والأشرطة المصورة التي تبثها لعملياتها، إضافة إلى إفادات الأهالي والصحفيين القلائل الذين وُجدوا في شمالي قطاع غزة وشرق المحافظة الوسطى وشرق خانيونس، بأن هذه المناطق شهدت مئات الاشتباكات، التي أدت إلى تدمير مئات المدرعات والدبابات الإسرائيلية، جزئيًّا أو كليًّا، وإلى مقتل وجرح مئات من جنود الجيش الإسرائيلي.

ترتيبات فلسطينية للقطاع
ثمة ثلاثة مسارات اتخذها الحراك السياسي المواكب للحرب: حراك فلسطيني داخلي، وحراك دولي، وجهود عربية-دولية للوساطة وإيقاف الحرب بصورة مؤقتة أو دائمة. ويتناول الحراك السياسي ملفين رئيسين: ملف وقف إطلاق النار وما يتعلق به من صفقة، أو صفقات تبادل للسجناء، وملف ما بعد الحرب، أو طبيعة الترتيبات الحكومية والإدارية في قطاع غزة بعد نهاية الحرب.

شهدت الحرب بوساطة قطرية هدنة مؤقتة لستة أيام في الأسبوع الأخير من نوفمبر/تشرين الثاني، تمت خلالها عملية تبادل عدد من المحتجزين الإسرائيليين من النساء والأطفال في قطاع غزة بعدد من المعتقلين والسجناء الفلسطينيين من النساء والأطفال في السجون والمعتقلات الإسرائيلية. والواضح أن الحكومة الإسرائيلية، التي تتعرض لضغوط متواصلة من أهالي المحتجزين، تسعى للتوصل إلى هدنة مؤقتة، ترافقها صفقة تبادل جديدة. الإدارة الأميركية، التي لم تنقطع عن الاتصال بالمسؤولين القطريين والمصريين، المرشحين الوحيدين للعب دور الوسيط، تؤيد المقاربة الإسرائيلية. في الجهة الأخرى، يقول الفلسطينيون: إن أي تفاوض حول صفقة تبادل جزئية أو كلية لن يبدأ إلا بعد وقف نهائي لإطلاق النار.

في الأيام الأخيرة من شهر الحرب الثالث، نشرت وسائل إعلام إسرائيلية ما يعتقد بأنه مجرد تسريبات من مكتب رئيس الحكومة تقول بأن حماس وافقت على مقترح مصري، مدعوم قطريًّا، بصفقة تبادل جزئية وهدنة مؤقتة، تستمر لعدة أسابيع. ولكن توكيدًا لهذا التحول في الموقف الفلسطيني لم يصدر عن أي من مسؤولي حماس. ويعتقد أن ما يوصف بالمقترح المصري يتضمن تصورًا من ثلاث مراحل لصفقات تبادل، تنتهي بوقف الحرب. ولكن قدرًا من الغموض يحيط بهذا المقترح، ويطرح تساؤلًا عن استجابته للموقف الفلسطيني الذي يشترط وقفًا للعدوان وانسحابًا للقوات الإسرائيلية قبل التوصل إلى اتفاق تبادل نهائي. وإلى جانب فقدان ثقة المقاومين الفلسطينيين في النظام المصري، لم تزل القيادات الفلسطينية في غزة مصرَّة على أن أية صفقة جديدة لتبادل الأسرى والمحتجزين لن تُنجز إلا بعد وقف نهائي لإطلاق النار.

خلف هذه التباينات الجوهرية المتعلقة بوقف النار المؤقت أو النهائي، وبصفقة، أو صفقات، تبادل المحتجزين والمعتقلين والسجناء، تقف حسابات الربح والخسارة لدى كل من جانبي الحرب. ترى القيادة الإسرائيلية أنها لم تنجح بعد في تحقيق أي من أهداف الحرب، بينما تواجه تحركات واسعة النطاق من أهالي المحتجزين، تطالب بإعطاء إطلاق سراحهم أولوية على كل المسائل الأخرى، سيما أن عددًا منهم قُتل بالفعل على أيدي القوات الإسرائيلية. أما المقاومون الفلسطينيون فيعرفون أن رصيد القوة لديهم يتعلق بقدرتهم على المقاومة، وبالمحتجزين، وأن وقف الحرب وكسر العدوان يقتضي استخدام ورقتي هذا الرصيد بأقصى مستوى من الحكمة والحذر.

وكما تحيط الخلافات مسألة وقف إطلاق النار وصفقة التبادل، كذلك تبرز تباينات حادة حول وضع القطاع بعد نهاية الحرب.

نتنياهو، الذي يدرك أن احتفاظه بمنصبه مرهون باستمرار الحرب إلى أجل مديد، بل وبتوسعها، يرفض البحث في طبيعة البنية الحكومية المستقبلية للقطاع. ما يقوله رئيس الحكومة الإسرائيلية بهذا الشأن ليس أكثر من تصريحات عامة وأقرب إلى التخيلات منها إلى المخططات ممكنة التحقق. يؤكد نتنياهو أنه لن يسمح بعودة حكومة تتبع حماس أو السلطة الفلسطينية إلى غزة، وأن إسرائيل هي من ستعمل على تشكيل إدارة مدنية، تحت إشراف عسكري إسرائيلي، تتعهد بنزع السلاح من القطاع وتبني ثقافة جديدة لأهالي القطاع بحيث تعاد صناعة الإنسان الفلسطيني كلية. ما يريده نتنياهو، باختصار، هو إيجاد إدارة في قطاع غزة تؤمن وتقر بأن الفلسطينيين خسروا حقوقهم التاريخية الجغرافية، ولم تعد هناك جدوى من المقاومة.

المشكلة في تصور نتنياهو لإدارة ما بعد الحرب أنها غير قابلة للتطبيق بدون إيقاع هزيمة بالمقاومين الفلسطينيين، وكسر إرادة المليونين ونصف المليون من أهالي قطاع غزة. وبعد ثلاثة شهور من الحرب الإبادية، التي لم يشهد لها العالم مثيلًا منذ أحلك سنوات الحرب العالمية الثانية، لا يبدو أن حكومة نتنياهو حققت أيًّا من الهدفين.

يرى الأميركيون، محقين هذه المرة، أن تصور نتنياهو لما بعد الحرب غير واقعي، وأنه يفضي إلى استمرار الصراع وليس إلى استعادة الأمن والاستقرار، ولا إلى تسوية سلمية للصراع. ولذا، تقترح إدارة بايدن أن تُسلَّم إدارة القطاع للسلطة الفلسطينية، بعد أن تجري السلطة إصلاحات على مستوى بنيتها وعلى مستوى قيادتها. يقول الأميركيون: إن قطاع غزة والضفة الغربية لابد أن يُنظر إليهما باعتبارهما جسمًا سياسيًّا واحدًا، وإن السلطة الفلسطينية هي الطرف الوحيد المؤهل لمواجهة ما تبقى من قوى المقاومة، وإنها ستكون الممثل للشعب الفلسطيني في مفاوضات التسوية السياسية التي ترغب إدارة بايدن في إطلاقها بعد نهاية الحرب.

كانت حماس، بالطبع، هي من يشرف على حكومة قطاع غزة قبل اندلاع الحرب، على الرغم من أن ليس كافة وزراء حكومة غزة ولا كبار موظفيها كانوا بالضرورة من حماس. وبينما رفضت حماس رسميًّا طروحات نتنياهو لإدارة غزة، لم تظهر ترحيبًا ملموسًا بفكرة عودة سلطة رام الله إلى القطاع، وإن لم ترفضها صراحة. وحتى نهاية شهر الحرب الثالث لم تكن هناك أية تقارير ذات مصداقية تفيد ببدء حوار وطني فلسطيني داخلي تشارك فيه السلطة وحماس على السواء. ولكن لقاءات حوار متقطعة عُقدت بالفعل بين حماس وعدة تنظيمات فلسطينية أخرى، بدون مشاركة من السلطة أو حركة فتح التي تقود السلطة، كما أن حوارًا غير واضح الملامح والأهداف عُقد أيضًا بين حماس ومجموعة محمد دحلان، التي ترعاها الإمارات وكانت قد فُصلت من حركة فتح.

بصورة عامة، وأولية إلى حد كبير، ما يبدو هو أن حماس تسعى إلى التوصل لتوافق وطني فلسطيني على تشكيل حكومة تحالف وطني في قطاع غزة لفترة انتقالية ما بعد نهاية الحرب، إلى أن تُجرى انتخابات فلسطينية رئاسية وبرلمانية، تقرر نتائجها قيادة سلطة الحكم الذاتي وحكومتها. ولكن المشكلة في هذه التحركات أنها لم تتناول بعد علاقة حماس بمنظمة التحرير، التي تُعتبر السلطة، وإن نظريًّا، أحد إفرازاتها، وما إن كان التحاق حماس بالمنظمة سيتم بالتوافق، أو سيتطلب إجراء انتخابات جديدة للمجلس الوطني الفلسطيني، وكيفية إجراء مثل هذه الانتخابات لشعب موزع في أشتات متباعدة وتحت ظروف سياسية مختلفة.

وربما ستكون مسألة التهجير، أي دفع أهالي القطاع، وإن جزئيًّا، إلى المغادرة بلا رجعة إلى مصر أو دول أخرى، ستكون واحدة من أهم محددات الحرب وما ستنتهي إليه. فعلى الرغم من أن أهالي القطاع، وبعد ثلاثة شهور من الموت والدمار، لا يزالون متمسكين في البقاء، ولم تظهر عليهم أية مؤشرات على الانكسار، فالمؤكد أن حكومة نتنياهو لم تزل تراهن على أن استمرار الحرب وفقدان مقومات الحياة سيدفع أعدادًا ملموسة من أهالي القطاع في النهاية إلى المغادرة. سقوط هذا الرهان يعني فشلًا ذريعًا لأحد أبرز أهداف الحرب.

تداعيات إقليمية ودولية
دارت توقعات توسع الحرب في أسابيعها الأولى حول احتمالات انفجار حرب شاملة بين إسرائيل وحزب الله، أو حول تداعي الحاجز الأمني على طول الحدود الأردنية-الإسرائيلية والسورية-الإسرائيلية. ولكن ما حدث أن الاشتباكات التي اندلعت على جانبي الحدود اللبنانية-الإسرائيلية ظلت محدودة، وأن طرفي الاشتباك عملا على ضبط الصدام ضمن سقف منخفض، مع ارتفاع منسوب التصعيد في بداية يناير/كانون الثاني 2024، بعد أن اغتالت إسرائيل القيادي في المقاومة الإسلامية، صالح العاروري، وعددًا من أعضاء التنظيم في لبنان، لكن احتمال أن تظل قواعد الاشتباك دون تغيير لا يزال كبيرًا. وحتى بعد ثلاثة شهور من الحرب، لم تشهد حدود دولة إسرائيل مع الأردن وسوريا أي حادث أمني ملموس. التداعي غير المتوقع كلية جاء في النهاية من اليمن، وفي خط الملاحة الدولية عبر باب المندب، على وجه الخصوص.

أعلن أنصار الله (الحوثيون)، الذين يسيطرون على شمال اليمن وحكومة صنعاء أنهم لن يسمحوا بمرور السفن المتجهة للموانئ الإسرائيلية أو المملوكة لإسرائيليين بالمرور عبر باب المندب طالما استمرت الحرب على غزة ومنع عن أهلها الطعام والدواء. وخلال ديسمبر/كانون الأول 2023، كان النشاط البحري الحوثي قد أجبر بالفعل معظم السفن المتجهة لإسرائيل، أو التي تملكها شركات إسرائيلية، كليًّا أو جزئيًّا، على اتخاذ الطريق الأطول والأكثر كلفة حول رأس الرجاء الصالح. لحماية حرية الملاحة عبر باب المندب، عملت إدارة بايدن على تشكيل تحالف بحري دولي؛ ولكن ما ظهر في النهاية أن البوارج الحربية التي اتجهت إلى جنوب البحر الأحمر لضمان حرية الملاحة لم تكن سوى سفن أميركية. أدى تحرك السفن الأميركية، التي قامت، في 31 ديسمبر/كانون الأول، بإغراق ثلاثة زوارق يمنية والتسبب في مقتل عشرة من منتسبي البحرية اليمنية، إلى تصعيد التوتر في الممر البحري الضيق. ولم يعد هناك شك في أن عسكرة جنوب البحر الأحمر لن ينجم عنها سوى المزيد من تعطيل الملاحة وإضافة أثمان باهظة على حركة التجارة العالمية.

لم يتوقف الجدل منذ بدأ اليمنيون محاولة التحكم بالملاحة عبر باب المندب حول ما إن كان الحوثيون، الذين عُرفوا من قبل بعلاقتهم التحالفية الوثيقة مع إيران، ينفذون مخططًا إيرانيًّا، أو أن دوافعهم تنبع من التأييد الشعبي اليمني التقليدي لفلسطين، ومن سعيهم إلى تعزيز شرعية حكمهم في اليمن. والأرجح أن التحرك الحوثي وُلد من كافة هذه الدوافع معًا؛ فقد ساعد هذا التحرك، من ناحية، على حفظ ماء وجه إيران وحلفائها، وإن جزئيًّا، كما أوقف الكثير من الانتقادات السابقة للحوثيين، وصنع لهم صورة إيجابية في الشارع العربي.

هذا لا يعني بالتأكيد خروج لبنان من حسابات التصعيد الإقليمي؛ فعلى الرغم من حرص طرفي المواجهة على الحدود اللبنانية على تجنب الحرب الشاملة، إلا أنه إذا لم تستطع القوى الدولية الوسيطة دفع حزب الله إلى سحب قواته إلى شمال الليطاني؛ الأمر الذي يمثل مطلبًا إسرائيليًّا رئيسًا، فليس من المستبعد أن تتصاعد وتيرة الحرب على الحدود اللبنانية ما إن تتخفف القيادة الإسرائيلية من أعباء الحرب في غزة. والمهم دائمًا في هذا الشأن أن خيار الحرب المديدة، على هذه الجبهة أو تلك، هو خيار رئيس الحكومة، نتنياهو، الذي يدرك أن الحرب هي الطريق الوحيد لاحتفاظه بمنصبه.

خلف ذلك كله، ثمة بُعد لهذه الحرب يبدو أنه لم يثر الكثير من الجدل بعد، وهو بالتأكيد ذلك الخاص بالملف النووي الإيراني. وكانت وكالة الطاقة النووية قد نشرت تقريرًا، في أواخر ديسمبر/كانون الأول، ذكرت فيه أن إيران عادت إلى تخصيب اليوارنيوم بمعدلات مرتفعة، متخلية بذلك عن الخفض في مستوى التخصيب الذي أعلنته في منتصف 2023. ليس من اليسير الحكم على صحة تقديرات وكالة الطاقة النووية، خاصة أن إيران أصدرت بيانًا اعترضت فيه على تقرير الوكالة. ولكن المؤكد أن الحرب على غزة ستمثل دافعًا إضافيًّا لإيران نحو امتلاك السلاح النووي.

ما لابد أنه كان محل نظر الإيرانيين لم يكن حرب الإبادة التي تشنها الآلة العسكرية الإسرائيلية ضد غزة وأهلها، فهذا كان متوقعًا على أية حال. ما لابد أن الإيرانيين أخذوه في الحسبان كان بالتأكيد الموقف الذي التزمته الولايات المتحدة ومعظم الدول الغربية الأخرى من الحرب. خلف مشاهد الموت والدمار، لابد أن الإيرانيين توصلوا إلى نتيجة قاطعة بأن امتلاك السلاح النووي فقط ما سيحميهم من مصير مشابه لغزة. وإن كان هذا النهج هو ما اختارته، أو ما توشك إيران على اختياره، فلن يمر زمن طويل قبل أن يعود الملف النووي الإيراني إلى جدولي الأعمال الإقليمي والدولي، على السواء.

البعد الآخر لهذه الحرب كان أكثر وضوحًا: ففي السادس من أكتوبر/تشرين الأول، كان يمكن القول بدرجة كبيرة من الثقة: إن روسيا كسبت المعركة في أوكرانيا وخسرت الحرب، بمعنى أنها نجحت بالفعل في السيطرة على القطاع الشرقي من أوكرانيا، ولكنها لم تزل تدفع ثمنًا باهظًا، عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، لاستمرار الحرب ولفشلها في إطاحة نظام الحكم الأوكراني. في اليوم التالي لاندلاع الحرب على غزة، أصبحت أوكرانيا هي الطرف الخاسر، سواء على مستوى المواجهة العسكرية أو على المستوى الإستراتيجي.

تلاشى التعاطف العالمي مع أوكرانيا، ومع السياسة الأميركية تجاه المسألة الأوكرانية، ولم يعد هناك من يكترث بحجم ونطاق الهجمات الروسية على أوكرانيا. فقدت حكومة فولوديمير زيلينسكي أي أمل في إمكانية دحر الروس من شرق أوكرانيا، أو استعادة شبه جزيرة القرم؛ وأخذت مشاعر التخلي عن أوكرانيا في التسلل إلى دوائر صانعي القرار في الدول الأوروبية من أعضاء الناتو، إضافة إلى الكونغرس الأميركي. أما إدارة بايدن، التي وقفت بصلابة وعناد إلى جانب حرب الإبادة على غزة، فتكاد الآن تقف وحدها إلى جانب حكومة كييف. وإن تواصل المناخ السياسي الدولي الذي وُلد من الحرب على غزة لعدة شهور أخرى، لم يعد من المستبعد أن تنجح روسيا في إطاحة حكومة زيلينسكي، بل وربما التقدم إلى مناطق أخرى تطمح في السيطرة عليها في شرق أوروبا.

في أقصى الشرق الآسيوي، ليس على الرئيس الصيني سوى التحلي ببعض الشجاعة ليأمر جيشه بفرض حصار بحري وجوي على تايوان. وحتى إن بدأت الصين حملة قصف جوي هائلة على تايوان، مثل تلك التي تعهدتها روسيا في الأسبوع الأخير من ديسمبر/كانون الأول على أوكرانيا، فمن الصعب أن تجد الولايات المتحدة، حارس تايوان وحاميتها، في العالم من يكترث بمصير المحمية الأميركية.

حراك شعبي ورسمي لمناهضة إسرائيل
خلال أشهر الحرب الثلاثة الماضية، وقع تحول ملموس في توجهات الرأي العام العالمي والموقف من المسألة الفلسطينية ودولة إسرائيل. ولكن هذا التحول لم يصل مؤسسات الدولة والحكم في الدول الغربية، لا على مستوى الحكام ولا المعارضات. كما أن روسيا والصين، اللتين عارضتا الحرب واستمرارها، لم تستطيعا صنع متغير جوهري في الموقف الدولي. والواضح أن حجم الحراك الشعبي والرسمي العربي والإسلامي، سواء في دول التطبيع أو الدول الأخرى، كان أقل من المستوى الذي كان يمكن له التأثير في مجريات الحرب أو في مواقف القوى المؤيدة لها. ولذا، فإن سياق هذه الحرب سيتقرر بصورة كبيرة على أرض قطاع غزة، وطبقًا لقدرة الفلسطينيين على الصمود والتمسك بوطنهم، ولتقدير الإسرائيليين لجدوى استمرار الحرب وما يمكن أن ينجم عنها.

بيد أن هذا لا يعني تجاهل التحولات الجارية في الرأي العام العالمي من الاحتلال الإسرائيلي، وعودة روسيا والصين إلى معارضة الموقف الأميركي والغربي من المسألة الفلسطينية. ليس من المتوقع أن تجد المسألة الفلسطينية حلًّا في المدى القصير، وسيكون لهذه التحولات بالتأكيد أثر متزايد على مصائر أطراف هذه المسألة. وحتى في المدى القصير، فلابد أن يُنظر إلى تقدم جنوب إفريقيا بشكوى لمحكمة العدل الدولية ضد دولة إسرائيل وحربها على غزة باعتباره نقلة كبيرة في استعداد القوى المؤيدة للحق الفلسطيني على الفعل. ولكن المفارقة، بالطبع، أن هذا التحرك على الساحة الدولية جاء من جنوب إفريقيا، وليس من دولة عربية أو إسلامية، في الوقت الذي لم تستطع فيه الأخيرة، بما في ذلك دول الجوار الفلسطيني، إدخال ولو الحد الأدنى من الإعانة الإنسانية لقطاع غزة.