إيران التي لا تبالي بالقوانين والأعراف الدولية في انتهاكها لسيادة جارها العراق وقتل مواطنيه، لا تبالي في الوقت نفسه بمصلحة حلفائها الذين يقودون الدولة العراقية ولا تهتم بالحرج الذي تسببّه لهم، إذ يظلون في نظرها مجرّد منفذين لسياساتها وحرّاسا لمصالحها حتى وإن تناقضت بشكل صارخ مع مصالح البلد الذي يحملون جنسيته.
بغداد – وضع استهداف الحرس الثوري الإيراني لحي سكني في أربيل مركز إقليم كردستان العراق بقصف صاروخي، قوى الإطار التنسيقي أمام تناقض جديد محرج، كون تلك القوى تعتبر من جهة قائدة للدولة العراقية من خلال تشكيلها لحكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، وهي من جهة مقابلة حليفة لإيران المعتدية على سيادة البلد وسلامة أراضيه.
ودأبت الأحزاب والفصائل الشيعية المشكّلة للإطار على التنديد بقوّة بالعمليات العسكرية التركية والأميركية داخل الأراضي العراقية باعتبارها انتهاكا للسيادة وتهديدا لأمن البلد واستقراره، لكنّها وجدت نفسها مع تنفيذ إيران لقصفها الذي خلّف قتلى وجرحى مدنيين مجبرة على الصمت والاختباء خلف الموقف العام للحكومة والذي يتناقض مع موقفها الحقيقي المساند للإيرانيين في كل سياساتهم حتى وإن انطوت على ضرر للعراق وشكّلت تهديدا لمصالحه.
وفيما أحجمت تلك القوى عن التعبير عن موقف جماعي، تولت شخصيات من داخلها التعبير عن مساندتها الضمنية للرواية الإيرانية من خلال تحميلها قيادة إقليم كردستان مسؤولية ما تعرض له الإقليم من اعتداء إيراني.
واتهم جبار عودة القيادي في تحالف الفتح الممثل السياسي لميليشيات الحشد الشعبي واشنطن “بالوقوف وراء نشوء مافيات سوداء لخدمة الكيان الصهيوني في إقليم كردستان”.
ويتطابق ذلك مع الرواية الإيرانية التي تقول إنّ ما تمّ استهدافه بصواريخ باليستية في أربيل هو “مقر تجسس” تابع لإسرائيل، بينما أثبتت الوقائع أنّ الموقع المستهدف لم يكن سوى منطقة سكنية لا صلة لسكانها بالسياسة ولا بالعمل الأمني.
الموقف القوي لحكومة السوداني من القصف الإيراني لأربيل يخاطب الشركاء الدوليين للعراق ويهدف لحفظ ماء الوجه
وكان العديد من المحلّلين السياسيين والأمنيين قد اعتبروا الضربة الصاروخية الإيرانية في أربيل عملا استعراضيا يهدف للإيهام بقدرة إيران على الردّ على سلسلة الضربات التي تلقتها مؤخّرا سواء بمقتل القيادي في حرسها الثوري رضي موسوي في قصف جوي إسرائيلي بسوريا، أو بالتفجير الذي حدث في مدينة كرمان بالقرب من مقبرة دفن فيها القائد السابق لفيلق القدس قاسم سليماني الذي كان قد قتل بقصف أميركي قرب مطار بغداد، أو بمقتل عدد من حلفائها في ميليشيا حزب الله اللبناني والميليشيات الشيعية في العراق.
واعتبر هؤلاء أنّ القيادة الإيرانية لجأت بفعل الحرج الذي سببته لها تلك الضربات أمام رأيها العام الداخلي إلى فبركة سيناريو وهمي بشأن تمركز الموساد في كردستان العراق كون الأخير يمثل الحلقة الأضعف بالنسبة إليها، ولتوقّعها المسبق أن الاعتداء على أراضي العراق سيمر دون تبعات تذكر.
وجاء الاستهداف الإيراني لإقليم كردستان العراق في غمرة ضغوط سياسية واقتصادية شديدة مسلّطة عليه من قبل حلفاء إيران المسيطرين على حكومة بغداد، على خلفية اتهامهم لقيادة الإقليم بالولاء للولايات المتّحدة والانحياز إليها في قضية إخراج قواتها من العراق.
ونقلت مواقع إخبارية تابعة للحشد عن عودة قوله إن “واشنطن حولت إقليم كردستان إلى ساحة صراع إقليمية ودولية من خلال تمويلها المشبوه لبعض القوى والمنظمات التي تحاول إثارة القلاقل مع دول الجوار بطرق مختلفة”.
وأضاف “الولايات المتحدة خلقت مافيات سوداء في الإقليم من خلال تجارة النفط المنهوب والمواد الممنوعة الأخرى والتي تمول بطرق متعددة أعمالا تزعزع الاستقرار على الحدود مع دول الجوار”.
واعتبر أنّه “لا يمكن تحقيق استقرار حقيقي في أربيل دون دعم بغداد والسعي إلى إنهاء دور المنظمات والأحزاب المشبوهة والتحقيق في ملف المافيات التي تحاول الإدارة الأميركية تحريكها بين فترة وأخرى لزعزعة الأمن في اتجاهات متعددة”.
وحاول القيادي في تحالف الفتح عدي عبدالهادي التوفيق بين موقف الميليشيات التي يمثلّها والموقف الرسمي لحكومة الإطار التنسيقي من القصف الصاروخي الإيراني لأربيل.
وقال إنّ “أربيل تتحمل جزءا من الأحداث الأخيرة خاصة أنها تتعامل وكأنها دولة مستقلة وتعقد صفقات وتحالفات بعيدا عن بغداد، ما أعطى صورة سلبية دفعت الآخرين إلى قصف الإقليم”. واعتبر أن على الإقليم “أن يعي أن استقراره الحقيقي يبدأ بتوثيق وحدته مع بغداد ومنع تمركز أيّ جهات أو منظمات مشبوهة على أراضيه، وأن يكون الملف الأمني اتحاديا”.
لكن عبدالهادي حاول تعديل موقفه في ضوء الموقف الحكومي الرسمي قائلا “رغم كل مبررات طهران لقصف أربيل في إطار دفاعها عن الأمن القومي والتهديدات الخارجية، إلا أنه يمس السيادة العراقية ويخلق أجواء مشحونة قد تفضي إلى تداعيات خطرة”، معتبرا أنّه “كان الأحرى بطهران التعاون مع بغداد لتبديد هواجسها الأمنية”.
ورغم استناد الحكومة العراقية إلى الأحزاب والفصائل الموالية لإيران، إلاّ أنّها اتّخذت موقفا واضحا من القصف الإيراني لأربيل معتبرة على لسان رئيسها محمد شياع السوداني أنّ “الضربة الإيرانية في أربيل كانت عملا عدوانيا واضحا ضد العراق استهدف منطقة سكنية وأوقع ضحاياها من عائلة عراقية كردية بينها أطفال”، واصفا هذا الفعل بأنّه “تطور خطير يقوض العلاقة القوية بين العراق وإيران”.
وفي أولى الردود العملية على القصف الإيراني قامت بغداد باستدعاء سفيرها في طهران للتشاور، فيما أعلنت وزارة الخارجية العراقية عن تقديم شكوى ضد إيران إلى مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة.
ورغم صرامة تلك المواقف، رأى متابعون للشأن العراقي أنّها من قبيل حفظ ماء الوجه ومخاطبة كبار شركاء العراق الدوليين بشأن عدم التسامح مع انتهاك سيادة البلد، متوقّعين أن تكون من دون تبعات عملية من قبل خفض مستوى التعاون الأمني والاقتصادي بين العراق وإيران واللذين تستفيد منهما الأخيرة بشكل رئيسي.
واعتبر هؤلاء أنّه لم يكن أمام حكومة السوداني من خيار سوى التعبير عن عدم تسامحها مع الخروق الإيرانية في وقت فتحت فيه الحكومة ذاتها، وبضغط كبير من إيران وحلفائها العراقيين، ملف إخراج القوات الأميركية من العراق، وهو موطن آخر للتناقضات المحرجة للحكومة وللإطار التنسيقي المشكّل لها.
وبينما تنددّ أحزاب الإطار بوجود قوات أميركية على الأراضي العراقية وتطالب بإخراجها خصوصا بعد قيام تلك القوات بقتل عناصر من الميليشيات الشيعية المشاركة في قصف مواقع تمركز قوات التحالف الدولي ضدّ داعش في العراق وسوريا، تتخوّف القوى ذاتها من ضياع مصالح حيوية للعراق على رأسها المصلحة الاقتصادية والمالية المباشرة المتمثّلة في حصول البلد على عملة الدولار من واشنطن في شكل شحنات منتظمة ترسل عن طريق رحلات جوية مباشرة.
ومثلما تريد تلك الأحزاب الحفاظ على مواقعها ضمن “محور المقاومة” الذي تقوده إيران في المنطقة، فإنها ترغب في الوقت ذاته في الحفاظ على المصالح المالية والاقتصادية الضرورية لاستقرار سلطتها واستمرار هيمنتها على مقاليد الدولة، بكل ما ينطوي عليه ذلك من صعوبات في التوفيق بين الأمرين المتناقضين.
العرب