حرب غزة وضحكة بوتين في السر

حرب غزة وضحكة بوتين في السر

حين أبلغ سكرتير مجلس الأمن الروسي، نيكالاي باتروشيف، صباح يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الرئيس فلاديمير بوتين، بتفاصيل الهجوم الذي شنته حركة “حماس” الفلسطينية على المواقع والمستوطنات والكيبوتسات الإسرائيلية في غلاف غزة، فرك سيد الكرملين يديه وابتسم ابتسامة واسعة، وسأله السؤال الروسي التقليدي المعروف في مثل هذه الحالات والأزمات، من المذنب؟ وما العمل؟

فرد باتروشيف فوراً ومن دون تردد، “الولايات المتحدة بالطبع هي المذنبة الأولى في كل أزمات ومصائب الشرق الأوسط. أما ما العمل! فينبغي علينا عدم التسرع في اتخاذ المواقف والإعلان عنها، بل يجب علينا التفكير بروية في المصالح الحيوية لروسيا في هذا الصراع العسكري الذي نشب للتو ولن يغلق قريباً، بل سيشعل حرباً دموية ضروساً يطاول لهيبها الشرق الأوسط برمته وربما أبعد”.

من هنا وصف بوتين الحرب بين إسرائيل وحركة “حماس” بأنها “مثال صارخ على فشل سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط”. وبحسب الرئيس الروسي، حاولت واشنطن احتكار التسوية لكنها لم تكلف نفسها عناء إيجاد حلول وسط مقبولة للجانبين.

دوي المدافع ومصالح بوتين الصامتة

بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، سارع فلاديمير بوتين فوراً ليكون أول زعيم أجنبي يتصل بالرئيس الأميركي جورج دبليو بوش للتعبير عن دعمه وتعازيه. وقال له أمام عدسات الكاميرات “نحن معكم”. بعد مرور 22 عاماً، وبعد هجوم “حماس” على إسرائيل، والذي كان الأكثر إيلاماً من حيث عدد القتلى في تاريخ ذلك البلد، لم يعرب بوتين عن تعازيه لصديقه بنيامين نتنياهو إلا بعد أسبوع كامل، وبعد توقف ملحوظ وبعبارات لا تنم أبداً عن الدعم الذي أبداه لجورج بوش. كل هذا على رغم أن موسكو أعربت أكثر من مرة وفي مناسبات متعددة عن أولوية أمن إسرائيل التي لم تنضم إلى العقوبات ضدها، ورفضت تقديم مساعدات عسكرية فتاكة لأوكرانيا.

والسبب وراء صمت بوتين وردود فعله الباردة هذه لا يرجع فقط إلى طبيعة المواجهة الإسرائيلية- الفلسطينية المتعددة الأطراف، بل أيضاً إلى أن الحرب الروسية ضد أوكرانيا، غيرت مفاهيم موسكو ونظرتها لـ”الشركاء” كثيراً، لدرجة أن موقفها في ما يتعلق بالصراع العربي- الإسرائيلي، تغير جذرياً، بعدما اعتمدت على المعادلة الرياضية الشهيرة “صديق عدوي هو عدو أيضاً” وبما أن إسرائيل هي أقرب حلفاء أميركا، فمن الطبيعي أن لا تكون من أصدقاء موسكو، وفضلاً عن ذلك شعر “القيصر” أن تل أبيب هي التي تقصيه عن لعب دور الوساطة الذي عرضه لحل هذا النزاع الأقدم في العالم.
من جهة ثانية، شكلت إسرائيل أول وأكبر ملجأ لمعارضي بوتين وللمعترضين على شن الحرب ضد أوكرانيا، وهاجر الكثير من الفنانين والمطربين والكتاب والنافذين الروس إلى الدولة العبرية منذ بدء الحرب على أوكرانيا في 24 فبراير (شباط) 2022، لكن بعد اندلاع الحرب على غزة وانطلاق الصواريخ منها إلى أنحاء مختلفة من إسرائيل، اضطر قسم كبير من هؤلاء للهرب واللجوء إلى دول ثالثة، وهذا ما جعل بوتين يضحك في سره ويردد قائلاً، “يضحك كثيراً من يضحك أخيراً”.

وعلاوة على ذلك، ينتظر بوتين أن تسفر النتيجة النهائية للحرب الدائرة في غزة عن شعور غالبية مواطنيه الذين هاجروا إلى إسرائيل منذ ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بعدم الأمان في الدولة العبرية، بالتالي مسارعتهم للعودة إلى روسيا التي تعاني من أزمة ديموغرافية متفاقمة، زادتها الحرب على أوكرانيا تفاقماً، نظراً إلى الخسائر البشرية الكبيرة التي حصدتها هذه الحرب.

مما لا شك فيه، أن أحداث السابع من أكتوبر الماضي في غزة وما تلاها من حرب إسرائيلية على القطاع الفلسطيني، كانت بمثابة هدايا غير منتظرة ولا تحصى لبوتين، فهي تسببت بشكل واضح وجلي في تراجع الاهتمام الغربي والأميركي على وجه الخوص بالحرب الأوكرانية، وأظهرت عجز الغرب عن التعامل مع حربين ومدهما بالمال والسلاح في وقت واحد، لذلك تراجع الدعم العسكري والاقتصادي لكييف وتقلص إلى درجة لم تكن متوقعة قبل اندلاع الحرب في قطاع غزة.

34EE22U-Preview.jpg
آثار القصف الإسرائيلي العنيف على قطاع غزة (أ ف ب)

كما أن التغطية الإعلامية المتواصلة للحرب في غزة، حرفت الإعلام الغربي عامة، والأميركي بخاصة، عن متابعة الفظائع الدموية التي ترتكب في الحرب الدائرة بين الجيشين الروسي والأوكراني، ولا سيما بحق المدنيين وتحديداً على طرفي الحدود بين البلدين.

وفي السياق، جاءت الأحداث في غزة وما تلاها من حرب مفتوحة، في توقيت مناسب جداً للكرملين، إذ اندلعت مع فشل الهجوم الأوكراني المضاد الذي كلف كييف الكثير من الرجال والعتاد الحربي، وترك مخازنها العسكرية شبه خاوية، وعلى عتبة دخول الولايات المتحدة، الممول الأكبر للقوات الأوكرانية، في حمأة السباق الرئاسي المحموم، الذي يحتكم خلاله كل المتنافسين على المنصب الرئاسي للأولويات الداخلية قبل الخارجية.

بعد انهيار المعسكر السوفياتي، خرجت روسيا طوعاً من موقع الحليف للعرب، فضلاً عن ذلك شعرت موسكو أن العالم الإسلامي كان يتعاطف مع مناوئيها في حروب الشيشان، لكن وعلى العكس من ذلك، بدت إسرائيل وكأنها شريك مهم في الحرب ضد الإرهاب، وتعالت الأصوات للاستعانة بخبرتها في قتال الانفصاليين الشيشان، وعلى رغم ذلك، فإن موسكو لم تقطع كل الخيوط في علاقاتها مع العالم العربي، وحاولت التقرب أكثر فأكثر مع دول الخليج، ودول المغرب العربي وشمال أفريقيا، لذلك استغلت روسيا الحرب في غزة لإعادة تظهير نفسها بصورة الحليف القديم، وكما لو أنها ما زالت تناصر القضايا العربية.

وهكذا خرج بوتين ليعلن أن “الهدف يجب أن يكون تنفيذ صيغة الدولتين التي أقرتها الأمم المتحدة والتي تتضمن إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، تتعايش بسلام وأمن مع إسرائيل”.

حرب غزة تفك عزلة روسيا

العالم كله يركز حالياً على إسرائيل وقطاع غزة، وهذا يعني أن روسيا الآن تتمتع بحرية التصرف إلى حد كبير من دون أن يلاحظ ذلك أحد، فهي تمكنت من التخلي عن معاهدة حظر التجارب النووية بهدوء نسبي، واعتمد مجلس النواب (الدوما) قانوناً في هذا الصدد في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، كما يمكن أن يثير الكثير من ردود الأفعال في أوقات أخرى، ويجذب المزيد من الاهتمام، لكنه مر من دون أن يشعر به أحد أو يعترض عليه.

كما أن الأحداث على الجبهات الأوكرانية تلاشت من الصفحات الأولى في العالم، وبدأ النقاش في الغرب حول كيفية توزيع المساعدات على إسرائيل وأوكرانيا – وكل هذا مفيد لروسيا التي تضحك في سرها.

إضافة إلى ذلك، بعد اندلاع الحرب في غزة، حصلت روسيا على فرصة ذهبية للتحدث مع المجتمع الدولي وطرح مواقفها من كل القضايا الراهنة، ولا سيما في مجلس الأمن الدولي، وغيره من المنتديات الدولية، وهذا مهم جداً بالنسبة لموسكو، في الأقل من وجهة نظر أنه من الممكن تجنب العزلة، ومواصلة إظهار أهميتها الدولية، بعدما حصلت موسكو على قناة يمكنها من خلالها التواصل والتحدث بشكل إضافي مع العالم الخارجي، وإعادة إظهار نفسها بثوب الداعية للسلام والمستنكرة للحروب، وهذا بدا واضحاً حين شبه بوتين معاناة المدنيين من حصار قطاع غزة بحصار ألمانيا النازية لمدينة ليننغراد (سانت بطرسبورغ) التي يتحدر منها خلال الحرب العالمية الثانية.

ورد المستشار الألماني أولاف شولتز على كلمات بوتين في اليوم التالي، قائلاً “أشعر بالغضب عندما أسمع الرئيس الروسي يصدر تحذيرات من أن المدنيين سيصبحون ضحايا المواجهة العسكرية، من المستحيل ببساطة أن تكون أكثر تشاؤماً”.

فروسيا تحاول أن تقدم نفسها كقوة عظمى، والتي من دونها لا يمكن اتخاذ أي قرار دولي رئيس، وكثقل موازن للولايات المتحدة، إذ إن هدف السياسة الخارجية المعلن لموسكو هو “تدمير النظام الدولي الراهن” واستبداله بنظام متعدد الأقطاب تكون هي أحد أقطابه.

خلاصة

ومن غير المرجح أن يدمر بوتين العلاقات مع إسرائيل فجأة على غرار الاتحاد السوفياتي. ومن غير المرجح أن تبادر تل أبيب بذلك، لكن إغراء ركوب موجة الدعم للفلسطينيين كبير للغاية ويدفع روسيا نحو التقارب مع معارضي إسرائيل. ويتم دفعها في الاتجاه نفسه من خلال العلاقات الوثيقة مع إيران، وهي واحدة من الحلفاء القلائل الصريحين في الحرب ضد أوكرانيا وموردي المعدات العسكرية.

تصريحات بوتين منذ اندلاع الحرب في غزة، وامتنان “حماس” له، لا يمكن تفسيرها على أنها مشاعر روسية مستجدة مؤيدة للفلسطينيين. فموقف الكرملين هو الحياد على ما يبدو، ولكنني أعتقد أن الحياد في إسرائيل يفسر على أنه دعم للفلسطينيين، لأن هذا وقت عصيب للغاية للدولة العبرية.

ومهما يكن، فإن روسيا لا تستفيد من صراع طويل الأمد في الشرق الأوسط. وتتلقى موسكو مكاسب على وجه التحديد من “عدم الاستقرار البطيء”، حيث يمكنها أن تعرض على شخص ما دورها كوسيط أو مساعدة، لكن روسيا لا تحتاج إلى حالة حرب كبرى يمكن أن تغير ميزان القوى في منطقة الشرق الأوسط.

في الواقع، من المرجح أن يؤدي صراع أوسع يشمل “حزب الله” وغيره من وكلاء إيران إلى تحويل الكثير من المساعدات العسكرية التي ترسلها طهران إلى موسكو. فإذا تورطت إيران أكثر فأكثر بشكل مباشر في الصراع في غزة، فقد تحاول طهران أن تسترجع “سندات دين” من روسيا، وتطلب أسلحة حديثة وعدتها بها روسيا لكنها لا تريد توفيرها في المستقبل القريب.

لذلك، فإن أي إجراءات تتخذها روسيا في الشرق الأوسط لم يعد من الممكن النظر إليها بمعزل عن الحرب في أوكرانيا وعلاقات موسكو العسكرية مع إيران. لقد وقف بوتين مرة أخرى بثبات خلف مصالح بوتين نفسه، الأمر الذي كان وما زال يعني أن لبوتين هدفين رئيسين مما يجري في الشرق الأوسط، تحقيق النصر في أوكرانيا من خلال الحفاظ على تدفق الأسلحة من إيران، والحفاظ على وجود عسكري في سوريا، وتسيطر روسيا على ميناء طرطوس. وكل تصرفات بوتين تمليها على وجه التحديد هذه الأهداف والمصالح.