هل استدرج الأميركي في العراق؟ وهل سيكون انسحابه سريعاً أم تدريجاً؟ وهل سيحتفظ بوجود قوات استشارية وتدريبية والاستغناء عن قواته القتالية؟ وما انعكاس هذا الانسحاب على القواعد الأميركية في شرق سوريا؟
أسئلة يفرضها إعلان واشنطن التوصل إلى نتائج نهائية للمحادثات التي بدأت، في شهر أغسطس (آب) 2023، مع الحكومة العراقية برئاسة محمد شياع السوداني في إطار التعاون الثنائي لتنفيذ اتفاق الشراكة الاستراتيجية.
النتائج النهائية التي تحدثت عنها واشنطن، جاءت ترجمتها من بغداد، من خلال ترحيب جميع القيادات السياسية بهذه النتائج التي تفتح الطريق لبدء انسحاب قوات التحالف الدولي الذي تقوده أميركا من العراق.
هذا الترحيب جاء من مختلف المكونات، وتحديداً قوى الإطار التنسيقي الذي يضم الأحزاب الشيعية، إضافة إلى رئيس البرلمان المقال وزعيم حزب “تقدم” محمد الحلبوسي، في وقت أعلن فيه الزعيم الكردي مسعود بارزاني دعم موقف الحكومة استئناف المحادثات مع الجانب الأميركي “بهدف صياغة علاقة مستقبلية في الإطار العسكري والأمني”. وهو موقف يعبر عن حالة من عدم الارتياح لهذا التطور، بخاصة أن الانسحاب الأميركي يعني خسارة أربيل المظلة الدولية التي طالما شكلت حماية لها، وأن ذهابها إلى خيار الاتفاق المباشر مع واشنطن قد يكون معقداً، وفي حاجة إلى موافقة الحكومة الاتحادية في بغداد، وإلا فقد تذهب إلى مواجهة مفتوحة مع الداخل الإقليم – إيران، مما يعقد الموقف على واشنطن المنشغلة بأكثر من جبهة في أوكرانيا والبحر الأحمر وحرب إسرائيل الوجودية مع المقاومة الفلسطينية وحركة “حماس” في قطاع غزة، والأهم اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية وتراجع شعبية الرئيس جو بايدن.
ويأتي قرار واشنطن تزامناً مع إعلان الخارجية الأميركية عن ترشيح السيدة تريسي جاكوبسون لمنصب سفيرة جديدة للولايات المتحدة لدى العراق بدلاً من السفيرة الحالية ألينا رومانوسكي. والسيدة تريسي سبق أن عينها الرئيس جو بايدن، عام 2021، على رأس “لجنة إجلاء حلفاء أميركا من أفغانستان”، وفي سيرتها أنها عملت سفيرة لدى كل من إثيوبيا وكوسوفو وطاجيكستان وتركمانستان.
وتوقيت الإعلان عن نجاح الحوار حول صياغة جدول زمني محدد لنهاية وجود التحالف الدولي في العراق جاء بعد لقاء جرى بين السفيرة رومانوسكي مع زعيم ائتلاف “دولة القانون” رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، والتفاهم على تعاون ثنائي مختلف في المرحلة المقبلة بين الحليفين والشريكين على المستويات الاقتصادية والتجارية والثقافية والاجتماعية.
هذا التعاون الثنائي “المختلف” كشف عن أبعاده تعليق المالكي والإطار التنسيقي على قرار الانسحاب، عندما اعتبر أن هذا الاتفاق قد لا يقف عند حدود إنهاء وجود العناصر القتالية لقوات التحالف الدولي، ومن ضمنهم القوات الأميركية، بل من المفترض به أن يسري أيضاً على العناصر العالميين تحت عنوان مستشارين ومدربين من خلال “صياغة جدول زمني محدد وواضح لمدة وجود مستشاري التحالف الدولي والمباشرة بخفض عددهم على الأراضي العراقية”، مما يعني إنهاء الوجود الأميركي بالكامل على الأراضي العراقية، وكأنه يلمح إلى إمكانية تكرار تجربة 2011 مع الرئيس باراك أوباما، وكان حينها بايدن نائباً للرئيس عندما اتخذ قرار الانسحاب الكامل من العراق.
إشارة المالكي جاءت ترجمتها في المواقف الصادرة عن قيادات الفصائل المتهمة بشن عمليات عسكرية ضد القوات الأميركية واستهداف قواعدها في العراق وسوريا، والتي رحبت بهذا التطور “على الطريق الصحيح”، في حين دعت الفصائل المدرجة تحت اسم “المقاومة الإسلامية”، والتي تخضع لعقوبات أميركية وتتهمها واشنطن بالمسؤولية عن عمليات استهداف قواعد قواتها في العراق وسوريا، دعت إلى “التنبه من خديعة أميركية ومماطلتها”، مؤكدة، في الوقت نفسه استمرار عملياتها العسكرية التي لن تتوقف ضد الأميركيين.
في المقابل، فان رد فعل وزارة الدفاع الأميركية “البنتاغون” تأكيده أنه لم يتلقى أي طلب، بسحب القوات الأميركية، من العراق، والاجتماعات التي ستعقد بين الطرفين لا علاقة لها بموضوع سحب القوات وليست مفاوضات حول الانسحاب، يمكن أن يؤشر إلى إمكانية وجود خلاف بين القيادة العسكرية ووزارة الخارجية، على غرار ما حصل مع الرئيس السابق دونالد ترمب حول قراره الانسحاب من سوريا، والذي رفضه “البنتاغون”.
موقف القيادة العسكرية يأتي مختلفاً عن مسار الأحداث والحراك الدبلوماسي للسفيرة الأميركية لدى بغداد رومانوسكي، ويطرح سؤالاً حول جدية الرسالة التي نقلتها إلى وزارة الخارجية العراقية حول التوجه الأميركي بأن “الانتقال إلى شراكة أمنية ثنائية مستدامة أمر مهم لتأكيد التزامنا المستمر بدعم أمن المنطقة وسيادة العراق” من خلال البدء بالحوار حول مستقبل قوات التحالف الدولي في هذا البلد، وأيضاً صدقية البيان الصادر عن الخارجية العراقية الذي تحدث عن “انتقال إلى علاقات ثنائية شاملة مع دول التحالف سياسية واقتصادية وثقافية وأمنية وعسكرية تتسق مع رؤية الحكومة العراقية”، وأن الجانب العراقي “يجدد التزامه سلامة مستشاري التحالف الدولي في أثناء مدة التفاوض في كل أرجاء البلاد والحفاظ على الاستقرار ومنع التصعيد”، وهو ما ينسجم مع الطلب الأميركي في الرسالة التي تلقاها السوداني من الخارجية الأميركية حول أمن وسلامة القوات الأميركية ووقف العمليات التي تتعرض لها القواعد الأميركية في العراق.
البدء بتخفيض الوجود القتالي لقوات التحالف الدولي في العراق، وإن كان تدريجاً، فإنه سينعكس أيضاً على الوجود القتالي في مناطق شرق سوريا، بخاصة القواعد الأميركية التي تشكل هدفاً دائماً ومستمراً لهجمات الفصائل العراقية الموالية لإيران، ما قد يعني أن الانسحاب التدريجي لا يرتبط فقط بترتيب الأمور مع الجانب العراقي، إنما ينسحب أيضاً على ترتيب مستقبل القوات الأميركية داخل الأراضي السورية، ما قد يعني أن انسحاباً مزدوجاً قد يحدث قبل نهاية رئاسة بايدن، أو يورث تنفيذ هذا القرار للرئيس الذي سيأتي في حال خسارته، كما حصل في قرار الانسحاب من أفغانستان الذي اتخذه ترمب ونفذه بايدن.
وإذا ما كان الجانب الإيراني المستفيد الأول من هذا الانسحاب الذي ستعتبره طهران انتصاراً للاستراتيجية التي رسمها المرشد الأعلى بإخراج القوات الأميركية من هذين البلدين انتقاماً لاغتيال قائد قوة القدس قاسم سليماني، فإن من المستبعد أن يكون هذا القرار، أي قرار الانسحاب، بعيداً من تفاهمات جرت خلف الكواليس بين واشنطن وطهران حول هذه الخطوة، لا تقتصر على ضمانات إيرانية للمصالح الأميركية في العراق، بل قد تكون هناك تسوية واسعة تشمل الملفات الإقليمية الأخرى التي تمتد على مساحة الإقليم من البحر الأحمر ومضيق باب المندب، إلى مستقبل الوضع في لبنان وصولاً إلى معدات حل النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي وإنهاء الحرب القائمة في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة “حماس”. وتعزز إمكانيتها – التسوية – التسريبات التي تتحدث عن حوارات إيرانية – أميركية غير مباشرة وبعضها مباشر حول هذه الملفات قد لا تتأخر نتائجها كثيراً ما لم تحصل أخطاء على واحدة من الجبهات أو تفلت أحد الأطراف من السيطرة، والغالب أن يكون الإسرائيلي، تقلب المعادلات وتجر الجميع إلى حرب أو مواجهة على مستوى الإقليم.