ما إن نطق الرئيس الأميركي جو بايدن بكلام عام عن “حلّ الدولتين” إبان القصف الانتقامي الإسرائيلي لمدن قطاع غزّة ومخيماته، حتى انثنى كتّاب الصحافة إلى استذكار اتفاق أوسلو، فيما انفتل بنيامين نتنياهو إلى تحذير الإسرائيليين من أنه لن يكرّر “أوسلو” إطلاقًا لأنه كان خطأ فادحاً. ومع أن العام 2023 طوى معه 30 سنة على ذلك الاتفاق، ومع أن اتفاق أوسلو مات وشبع موتاً، إلا أن إعادة النظر في ذلك الالتفاف أمرٌ لا مفرّ منه، خصوصاً إذا كان ثمّة احتمال، ولو ضئيلا جدّا، يلوح في الميدان السياسي، ويشير إلى إمكان معاودة السير نحو اتفاق جديد غير واضح الملامح. وستحاول هذه المقالة إدارة الظهر إلى متلازمة التعريض باتفاق أوسلو أو تقريظه، لأُعيد النظر في الخيارات والنتائج التي تمخّص عنها ذلك الاتفاق.
في سنة 2003، أي بعد عشر سنوات على اتفاق أوسلو، وفي خضم انتفاضة الأقصى التي أشعلها ياسر عرفات في سنة 2000، وأشرف بنفسه على تسعير فاعلياتها، ودَفَعَ حياته ثمنًا لخياره العسكري ولقرار المواجهة الشعبية، كُتب الكثير عن فشل “أوسلو”. أما انتفاضة الأقصى فقد وجدت من يشكّك فيها؛ فبعض الأصوات الفلسطينية في دمشق ارتفعت لتقول إن هذه الانتفاضة مشبوهة لأن عرفات أراد أن يغطّي تنازلاته التي قدمها لإسرائيل في منتجع كامب دايفيد في سنة 2000. وحتى حركة حماس “كانت متشكّكة في البداية في الانتفاضة الثانية. واعتقدت أنها مناورة من ياسر عرفات متعلقة بالمفاوضات الفاشلة في كامب دايفيد، وغايتها الردّ على حصار عرفات وتحسين وضعه التفاوضي، وأنها ستنتهي بعد فترة وجيزة” (عزمي بشارة، في نفي المنفى، حاوره صقر أبو فخر، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2017، ص 207). وانتفاضة الأقصى التي اندلعت في 28/9/2000 خضعت لسياقها الخاص مثل أي انتفاضةٍ أخرى، فقد كان الجيش الإسرائيلي مصاباً بهزيمة مذلّة في الجنوب اللبناني بعدما أُرغم على الخروج من جنوب لبنان في 24/5/2000 من دون أي شروط. وقد اعتقد عرفات أن في إمكانه دفع الحكومة الإسرائيلية إلى تقديم التنازلات، لكن الجيش الإسرائيلي اهتبلها فرصة كي يستعرض قوته في الضفة الغربية بعد هزيمته في لبنان. ومهما تكن الحال، ففي 2013، أي بعد مرور 20 سنة على ذلك الاتفاق، وكان عرفات قد رحل عن هذه الدنيا، تكرّر الكلام عن اتفاق أوسلو وفشله في التوصل إلى ما أرادت القيادة الفلسطينية أن تصل إليه. واليوم مع انطواء سنة 2023، أي بعد 30 سنة، ها نحن نكتب ونحلل ونقرأ مآلات “أوسلو” وآثاره المباشرة في مجرى السياسات الفلسطينية المتناقضة والمتنافرة. وعلى الراجح، من سيبقى منّا حيّاً سيعيد الكرّة في سنة 2033، الأمر الذي يبرهن بجلاء الأهمية التاريخية والسياسية لذلك الاتفاق، ويشير إلى الحاجة أحياناً إلى حل سياسي ولو موقّتا في أحوال معينة، خصوصًا أن جوهر اتفاق أوسلو هو “حلّ الدولتين” الذي يُستعاد باستمرار في الأوساط الدولية كلما نشبت المعارك في فلسطين.
اتفاق أوسلو يحتاج بالفعل إلى قراءاتٍ جديدة؛ قراءة الأحوال التي نشأ في سياقها، ومناقشة الأوضاع التي أدّت إلى موته
اتفاق أوسلو، أو إعلان المبادئ بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، هو في التوصيف السياسي، هدنة مؤقتة وليس اتفاق سلام. ولو أن الأمور جرت بحسب ما كانت تشتهيه القيادة الفلسطينية، أي إقامة دولة فلسطينية مستقلة، لكان الطرفان انتقلا من حالة إعلان المبادئ إلى توقيع معاهدة سلام على غرار معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية. إذًا هو هُدنة، ومثله مثل أي هدنة، تنتهي مفاعيله بعد فترة. وهذه الهدنة انتهت نهائيًا منذ سنة 2004، ثم ماتت وصارت عظامها مكاحل، لكنها تركت آثاراً خطيرة ما فتئت ندوبها ظاهرة في الحياة السياسية الفلسطينية. ومع ذلك، أرى أن اتفاق أوسلو يحتاج بالفعل إلى قراءاتٍ جديدة؛ قراءة الأحوال التي نشأ في سياقها، ومناقشة الأوضاع التي أدّت إلى موته. وها أنا أحاول.
السياق التاريخي
لم يكن اتفاق أوسلو خياراً حرّاً لمنظمة التحرير الفلسطينية في سنة 1993 بل كان اضطراراً. لنتذكّر بعض الوقائع التاريخية: كانت مصر قد خرجت من الصراع العربي – الصهيوني في سنة 1977 (زيارة أنور السادات القدس)، وشرعت في 1978 في مفاوضات كامب دايفيد، ووقعت اتفاقية السلام مع إسرائيل في سنة 1979. ثم وقعت حرب 1982 واجتياح إسرائيل لبنان الذي كان من عقابيله تناثر الجسم الحيوي لمنظمة التحرير الفلسطينية في سورية ولبنان واليمن والسودان والجزائر وتونس، وفقدت المنظمة في تلك الأحوال قاعدة الارتكاز العسكرية في الجنوب اللبناني، وهي الورقة الأكثر قوة في أي مفاوضات يمكن أن تنعقد. ثم جاء التخلي العربي عن منظمة التحرير بعد اجتياح العراق الكويت في 1990، وبداية الحصار السياسي والمالي الذي اتخذته دول الخليج العربي بما في ذلك طرد الفلسطينيين من الكويت. لنتذكّر أيضاً أن الملك حسين ألغى اتفاق عمّان بين منظمة التحرير والأردن في 19/2/1986 بعد سنة فقط من توقيعه في 11/2/1985، وأن أي بند يتعلق بقضية فلسطين لم يُدرَج على جدول أعمال مؤتمر القمة العربية في عمّان في 8/11/1978. وفي تلك القمة كان عرفات الزعيم الأوحد الذي لم يستقبله الملك حسين في المطار ولم يودعه كذلك. ولولا المندوب الليبي الذي أصرّ في اللحظات الأخيرة على إدارج نص قصير عن الأراضي المحتلة في البيان الختامي للقمة العربية، لما تضمن ذلك البيان أي عبارة عن فلسطين. وفي 31/7/1988 سمع الفلسطينيون بكثير من الدهشة والامتعاض الخطاب المتلفز للملك حسين الذي أعلن فيه فك الارتباط الإداري بين الأردن والضفة الغربية المحتلة.
اتفاق أوسلو كان في أحد وجوهه اتفاق الاضطرار لا الخيار، وإذعاناً لإكراهات السياسة والميدان السياسي
بعد الخروج الفلسطيني من لبنان في 1982 اعتُبر ياسر عرفات في منزلة الميّت سياسياً، ومنظمة التحرير في منزلة اليتيم السياسي. ولولا الانتفاضة الأولى في 1987 لما كان بين يدي ياسر عرفات أي ورقة قوية ليحمي بها الجسم السياسي للمنظمة، ولم تكن الدول العربية مستعدّة آنذاك لتقديم تلك الحماية في سياق النبذ الذي مارسته تلك الدول بحقّ منظمة التحرير بعد احتلال العراق الكويت. وكان من شأن ذلك أن تتجرّأ إيران على إعلان صيغة “الفصائل العشر” من عاصمتها طهران في 22/10/1991 في أثناء المؤتمر الدولي لمناصرة الثورة الإسلامية في فلسطين، ثم صدر البيان الأول للفصائل العشر في 24/10/1991، أي قبل ستة أيام فقط من عقد مؤتمر مدريد في 30/10/1991. أما المنظمات العشر فهي: حماس، الجبهة الشعبية، الجبهة الديمقراطية، حركة الجهاد الإسلامي، فتح الانتفاضة، فتح المجلس الثوري، الجبهة الشعبية – القيادة العامة، الصاعقة، جبهة النضال الشعبي، الحزب الشيوعي الفلسطيني الثوري. وبهذا المعنى، فإن اتفاق أوسلو، أو إعلان المبادئ الذي جاء بعد الانتهاء الموقت للحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي وتفكّك حلف وارسو ومنظومة الدول الاشتراكية، كان في أحد وجوهه اتفاق الاضطرار لا الخيار، وإذعاناً لإكراهات السياسة والميدان السياسي وموازين القوى المائلة في غير صالح الشعب الفلسطيني آنذاك. إن أي اتفاق هو، في نهاية المطاف، انعكاس لموازين القوى الفعلية والمادية وليس عنتريات وأهازيج وزجليات. إذا كان لديك مائة دولار وتريد أن تجول في السوق لشراء حاجاتك، وإذا كنت مساومًا جيدًا فيمكنك في أحوال ملائمة، شراء بضاعة بمائة ودولارين وتدفع لقاء ذلك مائة دولار. وإذا كنتَ شارياً غشيماً، فستبتاع بضاعة قيمتها 90 دولاراً وتدفع في مقابلها مائة دولار. وإذا كان الطرفان يعرفان الأسعار جيداً، فسيشتري الشاري بضاعة قيمتها مائة دولار ويدفع لقاء ذلك مائة دولار لا غير، وليس هناك فهلوة أو زعبرة في هذه الأمور.
ما الذي دفع إسرائيل إلى السير نحو اتفاق أوسلو في 1993؟ الدوافع متعددة منها فوز حزب العمل الإسرائيلي في انتخابات الكنيست في 1992 واستطرادًا هزيمة حزب الليكود، علاوة على الضغط الأميركي الذي ظهر في سياق الدعوة إلى مؤتمر مدريد في 1991. وكانت الولايات المتحدة منتشية آنذاك بسقوط الاتحاد السوفييتي، وبانتصارها على العراق في الكويت، الأمر الذي جعل جورج بوش الأب ووزير خارجيته جيمس بيكر يبدآن التخطيط لنظامٍ عالمي جديد وحيد القطب، ولـِ “قرن أميركي جديد”. وتبيّن أن ذلك كله كان مجرد أوهام ليلية.
التفاوض لم يبدأ إلا بعد فشل الكفاح المسلح في تحقيق الحد الأدنى من الأهداف التي كان يصبو إليها الشعب الفلسطيني
الخيارات الصعبة والأهداف المستحيلة
بعد نحو ربع قرن بين انطلاقة الكفاح المسلح بأيدي مناضلي حركة فتح في 1/1/1965 ومؤتمر مدريد للسلام في 30/10/1991، وصلنا إلى عجزيْن: عجز الإسرائيليين عن إطفاء شعلة التحرّر الوطني لدى الشعب الفلسطيني، وعجز الفلسطينيين عن تحرير وطنهم. وهذه الحال تولّد، نظرياً على الأقل، إمكانًا للتسوية بين الطرفين في أوضاع مواتية. ولم يكن ثمّة أوضاع مواتية للتسوية لا بعد حرب أكتوبر 1973 ولا بعد الخروج من لبنان في سنة 1982، ولا بعد مبادرة الأمير فهد في 1981 التي تبنّاها مؤتمر القمّة العربية في فاس في 25/11/1981، وأطلق عليها عبارة “الأرض مقابل السلام”. لكن اتفاق أوسلو كان المحاولة العملية الوحيدة للتسوية التي نفرنا منها آنذاك. ومع ذلك، فشل هذا الاتفاق، على فجواته الكثيرة، بعد 20 سنة من التفاوض المر، في الوصول إلى محطة النهاية.
فشلت استراتيجية التفاوض؟ هذا صحيح. لكن التفاوض لم يبدأ إلا بعد فشل الكفاح المسلح في تحقيق الحد الأدنى من الأهداف التي كان يصبو إليها الشعب الفلسطيني. ومنذ نحو عشر سنوات، أي منذ 29/4/2014، انتهى آخر شوط من أشواط التفاوض الفلسطيني – الإسرائيلي من دون تحقيق أي تقدّم، وتحوّلت المفاوضات إلى مجرّد مطالب يعرضها الجانب الفلسطيني على الطاولة، فيرفضها الجانب الإسرائيلي. ويتمثل المأزق التفاوضي الفلسطيني في أن الفلسطينيين ما عادوا يمتلكون أوراقاً سياسية، وفقدوا كثيراً من وسائلهم التي من شأنها أن تُرغم إسرائيل على تنفيذ ما اتُفق عليه في أوسلو. وكما أن “لا صلاة من دون وضوء”، كذلك لا يمكن الذهاب إلى المفاوضات من دون أوراق سياسية مُجدية. ثم إن قناة أوسلو السرية لم تُحفر إلا بعدما وصلت مفاوضات واشنطن المنبثقة عن مؤتمر مدريد إلى طريق مسدود، وعاد حيدر عبد الشافي إلى غزّة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1992، وقدّم استقالته التي لم يلبث أن تراجع عنها. وفي أي حال، كان يؤمل من إعلان المبادئ أن يكون الخطوة الأولى نحو حلّ الدولتين، أي نحو الدولة الفلسطينية المستقلة، وبصرف النظر عن مقدار الوهم في هذا الأمل، إلا أن منظمة التحرير حاولت، بشتى الطرائق، بالسلاح والسياسة معًا، وعلى قاعدة Talk Talk Fight Fight، أن تجعل من اتفاق أوسلو مدخلاً إلى تطوير دينامية سياسية تؤدّي، في نهاية المطاف، إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة. لكن هذا المسعى لم يصل إلى خواتيمه، وربما دُمِّر إلى حد بعيد، وانتصرت الرؤية الإسرائيلية في هذا الشأن. فقد عرض العرب على الإسرائيليين مبادرة محدّدة هي مبادرة الأمير فهد (وكذلك مبادرة السلام في سنة 2000) التي تتضمّن صيغة “الأرض مقابل السلام”، غير أن إسرائيل نجحت في دفن هذا العرض، وطفقت تعرض بدلاً منها صيغة أخرى هي “السلام مقابل السلام”. وحتى يتسحاق رابين، وهو يشهد توقيع شمعون بيريز اتفاق إعلان المبادئ في حديقة البيت الأبيض في 13/9/1993 لم يكن يريد الانسحاب من القدس أو من المناطق المحاذية للمستوطنات، ولا الإقرار بدولة فلسطينية مستقلة.
أظهرت السنون العشرون من التفاوض (1994-2014) أن إسرائيل لا تريد أي حلٍّ دائم مع الفلسطينيين
في الجانب الآخر، كان هناك انقسام عميقٌ جدّاً بين الإسرائيليين في الموقف من اتفاق أوسلو؛ بين مَن هم مع الاتفاق ومَن هم ضده. وفي التصويت على الاتفاق في الكنيست، لم يحظ ذلك الاتفاق بأغلبية يهودية، بل حاز الأغلبية بأصوات النواب العرب. ولهذا، ربما، اغتال ييغائيل عمير، وهو يهودي يمني، رابين في 4/11/1995 لأنه وافق على أن تكون “يهودا والسامرة” أرضاً فلسطينية. وكانت ذريعة القاتل أن رابين ما كان يستطيع تمرير اتفاق أوسلو في الكنيست لولا أصوات النواب العرب، وهذا يعني أن مصير إسرائيل ما عاد في أيدي اليهود وحدهم، بل إن الفلسطينيين صاروا شركاء فيه.
مَن أفشل اتفاق أوسلو هم الإسرائيليون أنفسهم. وبعد اغتيال رابين وصل بنيامين نتنياهو إلى الحكم كما هو معروف (1996-1999)، وأوقف تنفيذ بنود الاتفاق. ثم جاء إيهود باراك (1999-2001) وأفشل مفاوضات كامب دايفيد الثانية. ثم جاء أريئيل شارون وبقية القصة معروفة. وشكّل اغتيال ياسر عرفات في سنة 2004 الإعلان الختامي عن موت “أوسلو” وعقم الانخراط في المفاوضات من دون أوراق سياسية متينة. وأظهرت السنون العشرون من التفاوض (1994-2014) أن إسرائيل لا تريد أي حلٍّ دائم مع الفلسطينيين، ولم تسعَ في أي يوم إلى التوصل إلى اتفاق سلام، بل سعت إلى اتفاقات أمنية تتيح لها البقاء في الضفة الغربية والقدس الشرقية بصورة شرعية، مع منح الفلسطينيين ضرباً من الحكم الذاتي. والحكم الذاتي في المفهوم الإسرائيلي ينطبق على الشعب لا على الأرض، أي استيطان يهودي غير محدود مع حكم ذاتي محدود للفلسطينيين. وحين يُستعاد اليوم مصطلح “حلّ الدولتين” على لسان جو بايدن أو غيره يكون جوهر الكلام إما استحالة أي حل سياسي، أو ينصرف الذهن في هذه الحال إلى الحكم الذاتي للسكّان بالمفهوم الإسرائيلي.
من دون المستوطنات يصبح الجيش الإسرائيلي، في منظار الرأي العام الغربي، جيش احتلالٍ يسيطر على شعبٍ آخر
آثاره
سقط اتفاق أوسلو، وانحسرت انتفاضة الأقصى بالتدريج، ثم اغتيل ياسر عرفات في سنة 2004، ولم يبقَ من ذلك الاتفاق غير آثاره السالبة التي تمثّلت في انفلات الاستيطان، وتملّص بعض الدول العربية من أعباء قضية فلسطين، وتضاؤل مكانة منظمة التحرير الفلسطينية. ومن المؤكّد أن أحد الأهداف المباشرة الذي جعل قيادة منظمة التحرير توقّع اتفاق أوسلو كان وقف التمدّد الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس الشرقية، الأمر الذي لم يحدُث قط، بل ابتلع الاستيطان الضفة الغربية والقدس الشرقية، فمن دون المستوطنات يصبح الجيش الإسرائيلي، في منظار الرأي العام الغربي، جيش احتلالٍ يسيطر على شعبٍ آخر. بينما التوسّع في الاستيطان يحوّل الضفة الغربية مكاناً يعيش فيه اليهود. وهذا يعني أمام الرأي العام الدولي أن وجود الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية ضروري لحماية اليهود من الفلسطينيين. وفوق ذلك، جعل الاستيطان فكرة حلّ الدولتين غير ممكنة، ورسم إلى حد بعيد حدود إسرائيل في أي مفاوضات مقبلة.
في الميدان العربي، منح اتفاق أوسلو بعض الدول العربية ذريعةً للتملّص من عبء قضية فلسطين، والتحلّل من أي التزاماتٍ سابقة، وباتت حكمة بعض العرب هي القول للفلسطينيين: الآن صارت قضية فلسطين في عهدتكم وحدكم، فتصرّفوا كما ترغبون، ونحن سنتصرّف بحسب رغباتنا ومصالحنا. حتى إن الملك حسين الذي ارتعب من إعلان اتفاق أوسلو في أول الأمر، وهرول إلى دمشق للتباحث مع الرئيس حافظ الأسد في عقابيل ذلك الاتفاق، لم يطُل الأمر به حتى انتهى إلى توقيع اتفاق وادي عربة في 26/10/1994. وكنّا قبل اليوم نشهد انحسار قضية فلسطين عن إعلام الدول العربية إلا في المناسبات العامة أو حين يفرض الحدث الفلسطيني نفسه على الإعلام العربي كالحرب الهمجية على غزّة في هذه الأيام. واللافت في هذا المجال أن قضية فلسطين تكاد تنحسر تماماً عن أدبيات المعارضات العربية، سيما المعارضات في العراق وسورية ولبنان وتونس.
لم يكن “حقّ العودة” يحظى باهتمام خاص قبل اتفاق أوسلو، فقد كان تحصيل حاصلٍ لعملية التحرير الوطني
في مرحلةٍ من مراحل الماضي القريب كان أي انقسام فلسطيني يُعالَج تحت سقف البيت الفلسطيني، أي في منظمة التحرير ومؤسساتها الوحدوية. وهذا ما جرى في الانقسام الذي نشب في عام 1974 وتأسيس جبهة الرفض على خلفية برنامج النقاط العشر وفكرة الدولة الفلسطينية الموهومة. وذلك الانقسام لم يُخلّع أبواب منظمة التحرير ألبتة. وكذلك لم يتمكّن انقسام ما بعد الخروج من لبنان من تهديم البيت. لكن انقسام ما بعد اتفاق أوسلو، جرّاء العوامل المستجدة، أدّى إلى قيام مقاطعات فلسطينية متنافرة، 1- السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير التي نَحَلتْ مؤسّساتها وهُمّشت وصارت مثل الخليفة العباسي في دولة السلاجقة أو في دولة البويهيين. 2- التحالفات المتفاوتة القيمة السياسية خارج نطاق منظمة التحرير كتحالف حركتي حماس والجهاد الإسلامي. 3- الصيغ العقيمة والمتهالكة مثل صيغة الفصائل العشر وصيغة جبهة الإنقاذ (اقرأ: جبهة الأنقاض). وعلى هذا المنوال، استُضعفت المؤسسة الوطنية الأهم في تاريخ الفلسطينيين الحديث، أي منظمة التحرير الفلسطينية.
لم يكن “حقّ العودة” يحظى باهتمام خاص قبل اتفاق أوسلو، فقد كان تحصيل حاصلٍ لعملية التحرير الوطني. لكن كثيرين، بعد أوسلو، استشعروا أن حل قضية اللاجئين مؤجّلة وصعبة، وتكاد تقارب المحال في شروط الواقع، فتحرّكت نخب متعدّدة لإعادة تأكيد هذا الحقّ. والمعروف أن الثورة الفلسطينية المعاصرة قامت في المقام الأول على سواعد اللاجئين، وعلى أكتافهم وأجسادهم. لكن ميدان المواجهة تحوّل، منذ سنة 1993 من قواعد الفدائيين في جنوب لبنان إلى مخيّمات الضفة الغربية ومدنها وبلداتها، فضلاً عن القدس، وتحوّل الفلسطينيون في مخيّمات اللجوء إلى مؤازرين. وبهذ الرؤية، أعتقد أن هناك في الضفة الغربية والقدس سيتقرّر مصير قضية فلسطين في المدى البعيد؛ إما أن يُهزم مشروع الذروة الإسرائيلي، أو أن ينتصر مشروع الحد الأدنى الفلسطيني. والنصر والهزيمة، بهذا المعنى، عملية واحدة، يتبادل طرفاها المواقع المتقابلة. ومن المُحال فرض إرادة الشعب الفلسطيني على جدول أعمال العالم وعلى دولة إسرائيل ما لم يصبح هذا الشعب موحّداً سياسياً ونضالياً، وهي غايةٌ لا تلوح بجلاء في الأفق القريب إلا إذا تمكّن الفلسطينيون من تحويل الأهوال النازلة بقطاع غزّة، وتلك الآلام العظيمة التي يواجهها الغزّيون إلى أمجاد نادرة وإلى ملحمة بشرية فريدة كي تُضاف إلى الملاحم الإنسانية الجبّارة التي انتهت إلى خلاصة إنسانية مهيبة هي انتصار الإنسان الفلسطيني على الهمجية الإسرائيلية المتمادية.