إن دلّت الاصطدامات الأميركية – الإيرانية خلال السنوات الماضية وصولاً إلى قتل الجنود الأميركيين على الحدود بين الأردن وسوريا هذا الأسبوع، بواسطة درون أطلقتها الميليشيات الإيرانية، على شيء، فدلت على موقف غريب لسياسة واشنطن تجاه الميليشيات الإيرانية، ولا سيما موقف الإدارة الحالية. فما يراه المراقبون، وفي شكل واضح لا يقبل اللغط، هو ردود فعل متعثرة ومترددة لا تحاكي عمق القوة الإيرانية، على رغم كثافة الهجمات الميليشياوية على الوحدات الأميركية في المنطقة. وقد بينا في كتابات سابقة أن السبب الرئيس لـ “حياء” الرد الأميركي وتأنيه حيال إيران كان ولا يزال تواصل المحادثات في الاتفاق النووي، وضغوطات اللوبي الإيراني في واشنطن. فإدارتا أوباما وبايدن قد ترددتا طويلاً أمام قرارات الرد على الضربات الإيرانية للمواقع الأميركية. ولكن تكثيف الاعتداءات على قوات التحالف أخيراً، بدأ يطرح سؤالاً أساسياً أمام الرأي العام الأميركي والإقليمي: إلى أي مدى ستمتنع إدارة بايدن عن الرد الاستراتيجي على الهجمة الإيرانية؟ وإلى أي حد بإمكانها أن تتراجع؟
“قوانين الاشتباك”
في معظم القوانين العسكرية في العالم، بما فيها القوانين العسكرية الأميركية، هنالك مبدأ واحد وواضح معروف بـ”مبادئ الاشتباك” Rules of Engagement. ويتلخص بآلية الرد على العدوان العسكري وضوابطه. وبالتلخيص لبعض جوانبه، يحق للمعتدى عليه أن يرد بالمثل، وإذا استمرت الاعتداءات، يحق للمعتدى عليه أن يغير قواعد الاشتباك بتوسيع دائرة الحرب لاقتلاع جذور الاعتداء. وقد طبقت القوات الأميركية والتحالف هذا المبدأ بشكل عام، ولكن تحت الإمرة السياسية المباشرة للبيت الأبيض، تحت إدارات أوباما وترمب وبايدن، ولكن بمناهج مختلفة. إدارة أوباما أوعزت للعسكريين أن يهيئوا الخطط المناسبة للرد ولكنها لم تعطِ أوامر مباشرة بالضرب رداً على هجمات لأن هذه الأخيرة كانت محدودة، وسبب ذلك قرار طهران بعدم إشعال جبهة مع واشنطن ما دامت “داعش” تشكل خطراً. إدارة ترمب صعدت ضد إيران دبلوماسياً، وردت عسكرياً بشكل أقوى، وصولاً إلى استهداف قيادات في الباسدران بمن فيهم قائد قوة القدس. ولكن المعارضة الداخلية في الولايات المتحدة أدت إلى شل بعض القرارات لإدارة ترمب حيال جيوش إيران الميليشياوية في المنطقة. ميدانياً كان الانتشار العسكري الأفضل باتجاه إيران تحت إدارة ترمب ولكن استهداف قوى الباسدران داخل إيران نفسها ظل غير مطروح حتى تحت إدارة ترمب. أما تحت إدارة بايدن، فتمت المحافظة على الحد الأدنى من عقيدة “قواعد الاشتباك” ولكن بحدود دنيا، يمكن أن نصفها بأنها وفرت المبادرة لطهران وأضعفت قدرة واشنطن على ردع النظام على رغم المفاوضات… لماذا؟
اذا استمعتم إلى بروباغندا المحور الإيراني قد تعتقدون أن طهران وشركاءها توصلوا فعلاً إلى فرض توازن قوى جديد بذكائهم الاستراتيجي، وسلاحهم المتطور، ومنهجهم العقائدي. ويحاولون إقناع مؤيديهم بأنهم يفرضون الهزيمة والتراجع على القوات الأميركية في المنطقة. بالطبع نعلم أن خطاباً إعلامياً كهذا هو قريب من الهذيان السياسي ولا واقع موضوعياً فيه. فالقوة الأميركية إن عزمت، بإمكانها أن تدمر الميليشيات الإيرانية في الهلال الخصيب من دون نقاش، بقوة النار الهائلة، التكنولوجيا المتقدمة، والقدرات اللوجستية اللا محدودة. فإذا قررت واشنطن شن حرب هجومية بكامل طاقاتها على قوى المحور في سوريا، والعراق، وعلى “حزب الله” في لبنان، ستسقط “المستعمرات الثلاث”. ولكن ما لا يفهمه كثيرون في المنطقة، أن السلاح الوحيد الذي تملكه إيران ضد أميركا ليس موجود في الشرق، بل هو “حاملة طائرات” خفية في عمق الولايات المتحدة، معروف باسم اللوبي الإيراني. فهذه القوة الضاغطة، التي يمولها الاتفاق النووي، هي التي تشل قدرة الإدارة على إصدار أوامر الاشتباك. إنه السلاح الأفتك والأقدم في التاريخ: المال السياسي.