جاء الاتفاق السعودي الإيراني الذي وقع عليه في آذار 2023 عبر الوساطة الصينية ليمنح رؤية ميدانية وأفاق مستقبلية للأهداف السياسية للنظام الإيراني في علاقته مع دول الجوار المحيطة به وعواصم الخليج العربي والاقطارالعربية بسعيه لإيجاد قواسم مشتركة في عودة العلاقات بإطارها السياسي والاقتصادي ودعم المشاريع الاستثمارية وتحقيق الغايات التي تساهم في تعزيز رؤية إيران في تنفيذ مشروعها عبر التمدد والنفوذ، ومنها السودان التي كانت ترتبط معه بعلاقات وثيقة حتى عام 2016 الذي تم فيه قطع العلاقات بين البلدين تضامناً مع المملكة العربية السعودية على خلفية التدخلات الإيرانية في المنطقة العربية واعتدائها على سفارة وقنصلية السعودية في العاصمة طهران ومدينة مشهد الإيرانية، ثم اعيدت العلاقة في الأول من تشرين الأول 2023 بعد تحسن العلاقات بين الرياض وطهران والذي انعكس على العديد من الأحداث في المنطقة.
اخذت العلاقات بين السودان وإيران تعود لمدياتها الواسعة وفي جميع الأصعدة، فكان التعاون العسكري الذي ابتدأ وحسب تقرير وكالة ( بلومبرغ) بتسليم طهران عدد من الطائرات المسيرة للجيش السوداني بعد عدة أشهر من إستئناف العلاقة بين البلدين والتي أخذت انعطافاً هاماً في طبيعة النزاع القائم بين القوات المسلحة السودانية وقوات الردع السريع الذي أوقعت فيه خسائر كبيرة وتم استعادة عدد من المدن في وسط البلاد وغرب مدينة كردفان وتقدم الجيش في ولايات الجزيرة دارفور وأم درمان والخرطوم البحري وإيقاف الزحف الميداني الذي حققته قوات الردع في الأشهر الماضية، وتحققت هذه الإنجازات العسكرية بعد قيام النظام الإيراني بتزويد الخرطوم بالمعدات العسكرية المتطورة ومنها طائرة مهاجر (6) المسيرة ذات التقنية العالية والتي تم تصميمها عبر شركة القدس للصناعات الجوية الإيرانية بمواصفات متقدمة عبر حملها لذخائر موجهة، وهي نفس نوع الطائرة التي سلمتها إيران للجيش الروسي واستخدمها في حربه مع أوكرانيا وأثبت كفاءتها ميدانياً.
هذا التقدم في العلاقات كان ثمرة اللقاء الذي تم بين الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ورئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان في العاصمة السعودية ( الرياض) أثناء انعقاء القمة العربية الإسلامية في تشرين ثاني 2023 التي ناقشت تطور الأوضاع في قطاع غزة، والذي تحدد بموجبه الأبعاد الاستراتيجية للعلاقات القادمة وسبل تعزيز التعاون العسكري والأمني وانسيابية وصول الأسلحة والمعدات التي يحتاجها الجيش السوداني وتحقيق الغاليات والأهداف التي يسعى إليها البلدان في تعزيز مصالحهما وأفاق تعاونهما الثنائي، وهذا ما تحقق في الميدان بعودة سيطرة القوات المسلحة السودانية على مناطق مهمة حققت انعطافة كبيرة وأحدثت تغييراً استراتيجياً في المواجهة مع قوات الردع السريع.
سعى النظام الإيراني إلى استغلال الأحداث الجارية في السودان لتحقيق مأربه ومحاولته الوصول لساحل البحرالاحمر ومداخل القارة الأفريقية عبر الأراضي السودانية وإيجاد منافذ حقيقية له في تعزيز دوره في العمق الأفريقي وتحقيق الاطلالة البحرية عبر قواعد عسكرية إيرانية تطل على البحر الأحمر لتكون قريبة من الحدود المائية مع اليمن وتحقيق التواصل مع الحوثيين وتنفيذ الأبعاد الاستراتيجية للمشروع السياسي الإيراني في التمدد والنفوذ عبر طرق المواصلات البحرية والسيطرة على المضائق والممرات المائية والتجارية القريبة من السعودية واليمن وإسرائيل عبر قناة السويس وهذا ما تسعى اليه في تنويع تدخلاتها الدولية والإقليمية لتعزيز مكاسبها وتحقيق ومنافعها في مناطق مهمة ولكي يكون لديها دوراً مفاعلاً في معالجة حالة الخلاف بين طرفي النزاع في السودان.
مبادئ عودة العلاقات بين طهران والخرطوم حددها بيان الحكومة السودانية في الأول من تشرين الأول 2023 والذي تم خلاله بدأ الدعم العسكري والنفوذ الإيراني، بعد الفشل الذي أصاب مبادرة ( الايجاد) التابعة للإتحاد الأفريقي لحل الهلال بين عبد الفتاح البرهان الذي رأى أن هناك انحيازاً في التعامل مع الطرف الثاني محمد حمدان دقلو وعدم وجود مصداقية لحل الأزمة السودانية ثم جاءت عملية تعليق مفاوضات جدة بين الطرفين لتكون سبباً للتدخل الإيراني الذي رأي في هذه الأحداث فرصة ثمينة لتعميق دوره الميداني في التواجد على الأرض التي تشكل له تربة خصبة لتوسيع نفوذه اعتماداً على حالة التفكك التي يشهدها ويعيشها السودان وإستثمار أثار العلاقة التاريخية التي تربط مجموعة ( الكيزان) َوهي المفردة التي أطلقها الشعب السوداني على المنتمين للحركة الإسلامية التي تزعمها حسن الترابي زهاء نصف قرن من الزمن وكانت تحت مسميات عدة منها ( الجمعية الإسلامية القومية والمؤتمر الشعبي وجمعية الميثاق الإسلامية واخيراً المؤتمر الشعبي)، وهم المجموعة التي ارتبطت بعلاقات وثيقة مع إيران وحزب الله اللبناني وتنظيم القاعدة ثم تعاونت مع عمر البشير وبمباركة حسن الترابي وباقي قيادات الحركة الإسلامية في السيطرة على السودان عام 1989، حيث بقيت العلاقة مع قيادة الحركة الإسلامية وإيران مستمرة وظهر تأثيرها في عودة العلاقات بين الخرطوم وطهران وتواصل عبد الفتاح البرهان مع القيادة الإيرانية وطلب المعونة العسكرية منهم مستنداً على عمق العلاقات السابقة التي كانت تربط النظام السوداني بايران عبر العديد من الفعاليات والجهد الأمني والعسكري الذي قامت به إيران في تسعينيات القرن الماضي والذي شهد أولى مراحل التغلغل الإيراني في بناء مجمع مصانع اليرموك بالقرب من العاصمة السودانية الخرطوم، وهو مصنع لإنتاج الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة والذي أقيم لخدمة إيران وتعزيز مخزونها الاستراتيجي من الأسلحة إلا أن ذلك المصنع قصفه الطيران الإسرائيلي فجر الثالث والعشرين من شهر أكتوبر عام 2012،
فضلًا عن إرسال إيران 2000 فرد من الحرس الثوري الإيراني للسودان لإنشاء وتدريب قوات الدفاع الشعبي على غرار قوات الباسيج الإيرانية، وهو الأمر الذي فتح آفاق لها داخل القارة السمراء ووقوعها كذلك بين أهم معبرين للتجارة العالمية هما قناة السويس ومضيق باب المندب علاوة على ثروات السودان ومناجم الذهب واليورانيوم.
ثم توجه النظام الإيراني ومؤسساته الدينية والثقافية في إقامة مكتبات عامة في بعض المراكز الثقافية، كالمركز الثقافي في العاصمة السودانية الخرطوم ومكتبة الإمام جعفر الصادق بمنطقة العمارات ومكتبات أخرى في مدينة أم درمان، ومن أبرز المؤسسات التعليمية التي أقيمت مؤسسة الإمام علي بن أبي طالب و مدرسة فاطمة الزهراء بالعاصمة السودانية الخرطوم، ومعهد الإمام علي للقراءات بمنطقة الفتيحاب.
أتخذ عبد الفتاح البرهان من مدينة بورسودان شرق البلاد المطلة على البحر الأحمر عاصمة له وأصبح من المتعاونين معه ( محمد الأمين ترك) وهو شخصية سياسية وعضو المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية وقريب من إيران ويرأس حاليآ (المجلس الأعلى لنظارات البحا والعموديات) المستقل في شرق السودان وله طموح سياسي في إنشاء وتأسيس ( دولة البجا)، وهناك كتائب عسكرية تتكون من تشكيلات الصاعقة والقوات الخاصة وتكتلات إسلامية في منطقة (كسلا) ومدينة الخرطوم تدين بالولاء لعدد من التيارات الإسلامية، كما وان المقاومة الشعبية السودانية في ولاية البحر الأحمر لديها توجهات إسلامية، وأصبحت جميع هذه التشكيلات داعمة َومساندة للجيش السوداني بزعامة عبد الفتاح البرهان وهو ما يشكل عمقاً مهما التواجد الإيراني في السودان.
تتحدد مجمل الغايات الإيرانية في انها تنطرللسودان بشكل جيو سياسي استراتيجي من موقع اهتمامها لإيجاد موطئ قدم لها في البحر الأحمر واعتبره مدخلاً للقارة الأفريقية وتعزيز نفوذها في المنطقة عبر البوابة السودانية.
اما الأهداف السودانية فإن قيادة عبد الفتاح البرهان ترى في التعاون العسكري مع إيران سبيلاً لمواجهة التمرد المسلح لقوات الردع السريع والتفاف على العقوبات الدولية المفروضة على السودان منذ عقدين من الزمن وهذا ما يجعله يسارع في شراكات سياسية عسكرية مع إيران ويرى فيها مجالاً لتعزيز كفته في النزاع القائم مع قوات الردع السريع.
ويبقى الأمر مثير لاهتمام الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول الخليج العربي في ظل الغايات الإيرانية وطموحات القيادات العسكرية والاستخبارية التابعة للحرس الثوري في تنفيذ المشروع السياسي الإيراني التمدد والنفوذ، والخوف من أن بتحول الجيش السوداني لمليشيات شبيهة بالفصائل المسلحة في سوريا والعراق بعد أن دعت قياداته الميدانية لتسليح المواطنين واعدادهم ضمن تشكيلات خاصة في المقاومة الشعبية.
وحدة الدراسات الايرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتبجة