كيف يغير التنافس بين واشنطن وبكين العلاقات الدولية؟

كيف يغير التنافس بين واشنطن وبكين العلاقات الدولية؟

يظهر النقاش السياسي الدائر اليوم في العاصمة واشنطن حول مستقبل العلاقات الدولية أن الولايات المتحدة ممثلة في نخب الحزبين الديمقراطي والجمهوري والنخب الفكرية والبحثية والإعلامية وجماعات المصالح والضغط والشرائح البيروقراطية العليا في المؤسسات الرسمية تتوافق على كون الصين هي عنوان التحدي الأخطر للهيمنة الأمريكية غير أنها لم تستقر بعد على سياسات وتكتيكات المواجهة.
تتوقع الولايات المتحدة تواصل الصعود الاقتصادي والتجاري للصين خلال السنوات والعقود القادمة، وتواكبه مع اكتساب المزيد من القوة الجيو ـ سياسية (خاصة في منطقة المحيط الهندي والمحيط الهادي) واتساع ساحات الدور الدبلوماسي للعملاق الآسيوي (خاصة في جواره المباشر وفي منطقة الشرق الأوسط وفي القارة الافريقية). تأسيسا على ذلك، تتحسب واشنطن لأن تصير بكين في المستقبل القريب القوة العظمى الوحيدة القادرة بالفعل على منازعة الهيمنة الأمريكية.
بحسابات اليوم، لا تتوقع الولايات المتحدة أن تمتد المنازعة الصينية إلى المجالين العسكري والتكنولوجي، وفيهما يتواصل التفوق الأمريكي الذي يحول دون أن يكون للأسلحة والمنتجات التكنولوجية الصينية حين تقارن بالنظائر الأمريكية مزايا نسبية غير السعر المنخفض. تأسيسا على ذلك، ترى واشنطن، من جهة، أن تحدي بكين لن يخل بكل موازين عالم ما بعد نهاية الحرب الباردة الذي انفردت الولايات المتحدة بقيادته لعقود ويستحيل تغيير كل حقائقه مرة واحدة. من جهة أخرى، تدرك نخب واشنطن أهمية الاعتماد على استمرار التفوق العسكري والتكنولوجي لاحتواء تحدي بكين إن على مستوى المنافسة الثنائية بين القوتين العظميين أو فيما خص اجتذابهما للحلفاء والأصدقاء على امتداد خريطة العالم.
والحقيقة أن الكثير من الحوارات الراهنة للنخب السياسية والفكرية والبحثية والإعلامية الأمريكية حول الصين لا يخلو إن من الزهو على سبيل المثال بتفوق طائرات اف ـ 35 واف ـ 16 على المقاتلات التي يستخدمها الجيش الصيني (وتستورد بكين محركاتها من موسكو وكانت تستورد بعضها من كييف قبل انفجار الحرب الروسية ـ الأوكرانية) أو من الإشادة بالريادة التكنولوجية لشركات كغوغل ومايكروسوفت وأبل وتقدمها الكاسح على منافسيها الصينيين.
تحاول الولايات المتحدة جاهدة أن تضيف إلى تفوقها العسكري والتكنولوجي تفوقا ايديولوجيا يروج لأفضلية «النموذج الديمقراطي» الأمريكي على حساب «النموذج الديكتاتوري» الصيني فيما خص استقرار وتقدم الدول والنمو المستدام للمجتمعات وصون حقوق وحريات المواطنات والمواطنين.
تحاول الولايات المتحدة جاهدة الترويج العالمي لتفوقها الإيديولوجي وتكثر، ممثلة في نخب واشنطن، من الحديث عن أن جذور التنافس الراهن والصراع القادم مع بكين تضرب في أعماق التناقض بين قيم «الحرية» الأمريكية وسياسات «السيطرة» الصينية. والحقيقة أن نخب واشنطن تتورط هنا في استنساخ مزدوج فاشل، من جهة لماضي المقولات الايديولوجية التي شهدتها الحرب الباردة بين النموذجين الأمريكي والسوفييتي ومن جهة أخرى لمقولات الحاضر المرتبطة بتصوير الحرب الروسية ـ الأوكرانية كحرب بين الديمقراطيات التي ترفض الغزو والاحتلال وبين الديكتاتوريات التي تغزو وتحتل.

تتجاهل واشنطن أن بلدان العالم الواقعة بينها وبين بكين لا تقبع فقط في محل المفعول به وأنها قد تمتلك من مصادر القوة والأدوات التفاوضية ما قد يمكنها من فرض إرادتها على القوتين العظميين في بعض القضايا والأحيان

تتناسى نخب واشنطن أن مقولات الحرب الباردة لم تعد ذات مغزى كبير لأغلبية من يعيشون اليوم على سطح الكرة الأرضية، وأن الادعاء بكون الديمقراطيات ترفض الغزو والاحتلال صار فارغ المضمون منذ غزت الولايات المتحدة أفغانستان والعراق. تماما مثلما يظل الدفع بأن الحكومات الديمقراطية لا تقبل الاعتراف بنتائج الغزو والاحتلال دون أدنى درجات المصداقية نظرا لازدواجية معايير الأمريكيين خصوصا والغربيين عموما، كما تدلل بجلاء صادم مواقفهم من إسرائيل التي غزت واحتلت وهجرت واستوطنت وأقامت نظاما للفصل العنصري وتتورط اليوم في حرب دموية في غزة، ومراكز القوة والثروة في الولايات المتحدة وأوروبا تعترف بالنتائج وتقبلها وتقاوم بعنف كل محاولة لتغيير واقع الأبارتايد الذي يئن منه الشعب الفلسطيني.
تتوقع الولايات المتحدة أن تفرض المنازعة الصينية لهيمنتها في المستقبل القريب على القوى الكبرى (وهي الدول والكيانات المؤثرة عالميا) والقوى الوسيطة (وهي الدول والكيانات المؤثرة في أقاليم بعينها) الاختيار بين التوجه نحو واشنطن وبين الذهاب إلى بكين من أجل تطوير علاقات تحالف تشمل العناصر الاقتصادية والتجارية والعسكرية والتكنولوجية ومعها التعاون الدبلوماسي وضمانات الأمن الثنائية (أي المقدمة من أي من القوتين العظميين إلى دولة بعينها) ومتعددة الأطراف (أي المقدمة من واشنطن أو بكين إلى مجموعات من الدول أو إلى تجمعات إقليمية تضم في عضويتها أكثر من دولة). وبينما تبدو أوروبا وكندا واليابان وكوريا الجنوبية في خانة التحالف الشامل مع الولايات المتحدة وتلتزم روسيا بالشراكة الاستراتيجية الكاملة مع الصين، تدرك نخب واشنطن أن القوى الكبرى الأخرى كالهند والبرازيل والقوى الوسيطة التي صارت تنتظم في تجمعات إقليمية عديدة (كأسيان وبريكس وشنغهاي وتحالف كواد ومجلس التعاون الخليجي وغيرها) وأبرزها اليوم ماليزيا واندونيسيا وجنوب إفريقيا والمكسيك وبعض دول الشرق الأوسط، تفتش عن سبل للمزج بين التعاون مع القوتين العظميين.
غير أن الولايات المتحدة، ولأنها تتأرجح اليوم بين تفضيل سياسات وتكتيكات صراعية تجاه الصين وبين اعتماد خليط من سياسات التعاون مع الإبقاء على التفوق الأمريكي (عسكريا وتكنولوجيا) ومن تكتيكات احتواء الصين (اقتصاديا وتجاريا ودبلوماسيا وأمنيا) مع الابتعاد عن التصعيد الشامل، لم تحسم أمرها بعد فيما خص كيفية وحدود تخييرها للقوى الكبرى والوسيطة ومدى استعدادها للنتائج المتوقعة. وفي تأرجحها، تتجاهل واشنطن أن بلدان العالم الواقعة بينها وبين بكين لا تقبع فقط في محل المفعول به وأنها قد تمتلك من مصادر القوة والأدوات التفاوضية ما قد يمكنها من فرض إرادتها على القوتين العظميين في بعض القضايا والأحيان.
فقط في سياق الحراك والتنافس بين الولايات المتحدة والصين يمكن أن ندرك الأبعاد الكاملة لترحيب بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بتنامي دور الصين الاقتصادي والتجاري والسياسي وتدريجيا الأمني والدبلوماسي وبصعودها كمنافس للولايات المتحدة الأمريكية وللاتحاد الأوروبي، وبتنسيقها في بعض قضايا وشؤون المنطقة مع روسيا.
فقط في ذات السياق أيضا يمكن أن نفهم الأهمية الكبرى لانضمام إيران والإمارات والسعودية ومصر إلى تجمع «بريكس» كأعضاء كاملين اعتبارا من 2024 وبما تؤشر عليه عضوية تجمع يضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا فيما خص الرغبة الإيرانية في تهميش الدور الأمريكي في الشرق الأوسط، والتوجه الإماراتي والسعودي إلى الانفتاح على تحالفات اقتصادية وتجارية ونقدية متنوعة تقلل من تبعية البلدين للولايات المتحدة والغرب والدولار كعملة عالمية، والسعي المصري إلى التفاوض الجماعي باسم القارة الإفريقية ودول الجنوب العالمي لتسوية ديون الجنوب المتراكمة ومن داخلها الديون المصرية والحصول على عوائد تنموية حقيقية والتوسع في برامج مبادلة الاقتصاد الأخضر ونقل التكنولوجيا.