في الشرق الأوسط الإسلامي مشروعان إقليميان كبيران.
الأول قديم ومستمر وضعته وتسعى إلى تنفيذه منذ تأسيسها الجمهورية الإسلامية الإيرانية. نقطة انطلاقه كانت مبدأ تصدير الثورة الإسلامية الذي وضعه مفجّرها الإمام (الراحل) آية الله الخميني. طبعاً أعاقت الحرب العسكرية التي شنّها الرئيس العراقي (الراحل) صدام حسين على إيران بعد انتصار ثورتها بوقت قصير، المباشرة بتصدير الثورة، وخصوصاً بعدما حالت أميركا دون انتصارها فيها بامدادها العراق بكل ما يحتاج إليه من أسلحة وذخائر ومعلومات ووسائل اتصال ولوائح أهداف. لكن الهدف بقي راسخاً في عقول قادتها والعمل من أجل تحقيقه استمر لأن عدم الانتصار يعني الهزيمة. فالمبادر الى الحرب وإلى احتلال أراضٍ إيرانية اضُطر إلى الخروج منها بعد ثماني سنوات. والذي مُنِع من الانتصار بالحؤول دون احتلاله أراضي عراقية عام 1988 حافظ على سلامة أراضيه بقدرته العسكرية وباندفاع الشعب المؤمن بثورته. علماً أن هدف أميركا من مساعدة عراق صدام حسين كان منع انهياره كي يبقى سداً منيعاً أمام ايران الجديدة وليس الانتصار عليها باحتلال أجزاء من أراضيها، وإن كان بعضها عربياً في الأساس. ومع الوقت ورغم العقوبات الدولية والأميركية والأوروبية على إيران وضعت هذه الدولة “نصاً” تفصيلياً لمشروعها الاقليمي، وباشرت تنفيذه محددة هدفه الأساسي بمواجهة اغتصاب اسرائيل فلسطين واحتلالها أراضي عربية، وذلك اقتناعاً منها بهذا الأمر ولعدم إثارة شكوك العرب في نياتها القومية أو المذهبية. ونجحت إلى حد بعيد في تنفيذ هذا المشروع مستفيدة من تطوّرات كان أهمها إطاحة أميركا عراق صدام حسين بطريقة جعلتها هي المستفيدة الأولى من العملية. وكان أهمها أيضاً نجاح “حزب الله” ابنها وشريكها في إنهاء الاحتلال الاسرائيلي للبنان. وكان أهمها أخيراً تطويرها العلاقة مع سوريا الأسد من الشراكة أيام المؤسس حافظ الأسد إلى التبعية أيام النجل الوارث.
تبلور المناخ المذكور في قيام هلال إقليمي قوي يبدأ من طهران ويمر في بغداد ودمشق وبيروت وينتهي في غزة. لكن ما سُمي “الربيع العربي” الذي بدأ أواخر عام 2010، والذي لا يزال مستمراً ولكن بعدما صار عواصف وحروب في أكثر من دولة عربية، أقام سدّاً منيعاً في وجه المشروع الايراني الإقليمي ثم أحدث تصدّعات داخله.
فالعراق لم يعد كله في يد إيران، وسوريا تمزّقت وبقي لها فيها قسم صغير كاد أن ينهار لو لم تستعِن بروسيا فلاديمير بوتين. ولبنان صار “لا تهزوا واقف على شوار”. فهو مقسوم إلى نصفين مذهبيين متصارعين سياسياً ليس من مصلحتهما الانتقال إلى الصراع الأمني – العسكري بسبب التطورات المعروفة. و”غزّة” “حماس” لم تعد معها رغم احتفاظهما بخيط علاقة واهٍ وكذلك “غزّة” “الجهاد الإسلامي”. ولم يعد معها من فلسطين إلا “الصابرين” الذين لا يزالون في البدايات.
طبعاً لا تزال هي متمسّكة بالهلال وتقاتل من أجل المحافظة عليه وإعادة وصل أجزائه. لكن هذه المهمة تبدو مستحيلة، أو بالأحرى صعبة لأسباب عدة، منها تحول الصراع في العالمين العربي والإسلامي مذهبياً، ومنها أيضاً انهيار النظام الاقليمي بعد نحو 100 سنة على تأسيسه وعدم حلول آخر جديد مكانه. علماً ن ملامحه لا توحي إلا بالتفتيت أو التجزئة والتقسيم داخل كيانات النظام القديم أو في جغرافيا الكيانات نفسها. ومنها ثالثاً استحالة أو بالأحرى صعوبة قبول بقاء ايران مباشرة وعبر حلفائها في شرق المتوسط وعلى حدود اسرائيل.
الى ذلك كله لا يمكن إغفال دور “التشاطر” المدعوم بقوة دولة جدِّية في جعل الولايات المتحدة تتشدّد معها، وتتساهل مع حلفائها من العرب، وفي مقدمهم السعودية. فالقيادة في طهران أكدت أن بعد “الاتفاق النووي” لا تفاوض مع أميركا على القضايا الخلافية الاقليمية وتمسَّكت بمشروعها الاقليمي. ووفّرت الظروف لدخول روسيا ساحة الشرق الأوسط من موقع قوة. وكوّن ذلك انطباعاً أنها ربما عاد إليها “غرور القوة” بعد “نشوة الانتصار” في الموضوع النووي. لكن الموقف المتشدِّد للقيادة قد تكون أسبابه الرغبة في احداث تقبل ايراني شعبي تدريجاً لأميركا والغرب بعد طول عداء لهما، وانتظار رفع العقوبات، وتحسين شروطها التفاوضية مع أميركا. ولا يستطيع أن يفصل أحد في صحة ذلك كله.
ما هو المشروع الإقليمي الثاني؟ وهل هناك مجال لقيام مشروع إقليمي ثالث؟
سركيس نعوم
نقلا عن النهار اللبنانية