مع بداية العد التنازلي للانتخابات البرلمانية الإيرانية بدأ المشهد داخل صفوف التيار المحافظ أو الموالي للنظام بالاتضاح، وبدأت معه الخلافات بين الأجنحة المتنافسة في هذا التيار تدخل مستوى متقدماً من الصراع المفتوح على مستقبل كل من هذه الأجنحة داخل السلطة.
ولم تفلح كل اللقاءات التي عقدتها هذه الأجنحة وكل الخطابات والمواقف الداعية إلى وحدة الصف داخل هذا التيار، ولم تستطع التغطية أو التعمية على الخلافات الداخلية بينها، ومحاولة كل منها تقديم نفسه باعتباره الجهة التي تعلب دوراً محورياً في التعبير عن مواقف وسياسات التيار المحافظ، وهي خلافات أنتجت انشقاقات عدة وكشفت عن توجهات مختلفة ومتعارضة ومتصارعة.
هذه الاختلافات والتعددية داخل التيار المحافظ وتمظهرها على شكل صراعات بين مختلف أجنحته، ومحاولة كل طرف أن يكون صاحب الحظوة التي تمثل إرادة النظام وتوجهات المرشد والقائد، تصب في سياق جهود النظام وخطته لصناعة صراع انتخابي وإنتاج قوى سياسية تعبر عن التعددية السياسية التي يريدها، وتنسجم مع إرادته ولا تخرج عن الخطوط العامة للدور المرسوم بها.
عملية الإعدام السياسي التي قام بها مجلس صيانة الدستور لكل الأصوات المعارضة أو التي تحمل إمكان الوقوف في الجهة المعارضة، سواء تلك التي تحمل خطاباً مغايراً لخطاب النظام أو تلك التي تبدي نوعاً من التمايز مع خطابه أو تعارض بعض السياسيات والقرارات والتوجهات، جاءت منسجمة مع المسار الذي بدأه النظام لتطبيق إستراتيجيته في توظيف العملية الديمقراطية للوصول إلى مفهوم التمكين للسلطة الإسلامية أو “الحكومة الدينية”، وتحويل الآليات الجمهورية وصناديق الاقتراع إلى علمية وظيفية لاستخدامها في إقناع الجمهور بالتزام السلطة بمبدأ جمهورية النظام.
العدد الكبير لمرشحي السباق البرلماني تحول إلى ورقة في يد التيار المحافظ وأحزابه للسيطرة على المشهد الانتخابي ومعركته، ومن المفترض أن تساعد في كسر حال العزوف الشعبي من خلال:
أولاً خلق أجواء تنافسية تسعى وتهدف إلى تحفيز الشارع الشعبي للخروج من حال المقاطعة أو الموقف الرمادي والانتقال إلى المشاركة.
وثائق إيرانية مسربة 1: النظام توقع استمرار “احتجاجات مهسا أميني”
وثانياً محاولة حصر خيارات الناخب الإيراني بين المحافظين التقليديين أو المحافظين الجدد أو القوى الثورية الأصولية في ظل غياب الخيارات الأخرى.
وثالثاً محاولة الحفاظ على الشكل الديمقراطي من عملية الاقتراع تقلق الاتهام بهندسة الانتخابات والنتائج، وفي بعض الأحيان الاتهامات الموجهة للنظام باختيار الفائزين قبل الانتخاب.
أما المعطيات والحيثيات المرافقة للعملية الانتخابية والمعركة التي تخوضها أجنحة وأحزاب التيار المحافظ فتحمل على الاعتقاد بصورة واضحة أن هذه الانتخابات ليست سوى معركة داخل التيار المحافظ وبين مرشحيه للفوز بأصوات القاعدة الشعبية الموالية لهم، وهي قاعدة لا تتراوح نسبتها بين 20 في المئة، وفي أعلى تقدير 30 في المئة، وهي النسبة التي تقترب من التقديرات العامة لنسبة المشاركة التي من المتوقع أن تصل إلى 35 في المئة في أفضل التقديرات، ما لم يحصل أي تدخل من جهات مجهولة.
وعلى العكس مما تحاول الترويج له جماعة النظام بأنها قد تتجاوز نسبة 50 في المئة، مما يعطيها هامشاً للمناورة حول شرعيتها التمثيلية والشعبية.
ولا شك في أن معركة العاصمة طهران ومقاعدها الـ 30 تعبر أو تشكل أم المعارك أو المعركة الأساس بين الأجنحة والأحزاب المحافظة، ولعل ما يؤكد مقولة أن هذه الانتخابات ليست سوى معركة داخلية بين توجهات هذا التيار هو الحديث الذي يدور عن إمكان أن يقوم هذا التيار بتشكيل ثلاث لوائح في الأقل أو ست لوائح في الحد الأعلى.
وتسوغ هذه القوى هذا التعدد بأنه يساعد في رفع مستوى المشاركة الشعبية، وبالتالي تحويل الانتخابات من عملية شكلية معروفة النتائج مسبقاً إلى انتخابات تنافسية بين أقطاب وأبناء التيار الواحد، في حين يبدو أن أحزاب التيارين الإصلاحي والمعتدل والوسطي تواجه حتى الآن أزمة في تشكيل لائحة واحد مكتملة الأعضاء الـ 30.
وإذا أخذنا في الاعتبار الحد الأدنى لعدد لوائح المحافظين فإنها لن تكون سوى تعبير عن أجنحة هذا التيار التي تختلف في ما بينها على المكاسب والمصالح، لكنها تلتقي وتنضوي تحت سقف الخطاب المتشدد الذي يعبر عن رؤية النظام في إدارة مؤسسات الدولة، إضافة إلى قبولها المشروع الإستراتيجي لبناء سلطة دينية تعمل على توظيف العملية الديمقراطية وصناديق الاقتراع من أجل تعزيز مشروعيتها الشعبية.
الصراع على المصالح بين الأحزاب والأجنحة المحافظة كشفت عن حجم الخلافات والاختلافات والانشقاقات التي تسطير على العلاقة بينها، والتي دفعت كثيرين منها إلى استخدام شتى الوسائل لإسقاط واتهام الطرف المنافس، ولعل فتح ملف هجرة إسحاق قاليباف نجل رئيس البرلمان الحالي إلى كندا، والمتهم أيضاً بالاستفادة من امتيازات مالية ومشاريع من الدولة بواسطة والده، ويعطي صورة واضحة عن المدى الذي وصل إليه الصراع الداخلي، بخاصة أن قوى من المحافظين الجدد، ولا سيما جماعة “الثابتون – بايداريها” بقيادة صادق محصولي وزير داخلية محمود أحمدي نجاد سعت إلى إبعاد قاليباف عن رئاسة البرلمان، وتسعى إلى إخراجه من لائحة الأسماء المرشحة لتولي الرئاسة المقبلة.
وعدم قدرة الأحزاب المحافظة على التوصل إلى مستوى مقبول من التنسيق الذي يسمح بتشكيل لائحة موحدة، ويعكس حجم الصراع بين هذه القوى لفرض نفسها الجهة الأقوى داخل تركيبة النظام، والتي تضمن لها في المستقبل الحصول على الحصة الكبرى، وأن تكون شريكة في رسم مستقبل النظام والتأثير في سياساته.