في حرب الأقمار الاصطناعية: القوي يراقب الضعيف

في حرب الأقمار الاصطناعية: القوي يراقب الضعيف

كثيراً ما يسمع الناس حول العالم بصور خاصة رصدتها أقمار اصطناعية متقدمة التكنولوجيا لمواقع متعددة ولأغراض متنوعة وحول معظم دول العالم في ما يمكن أحياناً اعتباره خرقاً أمنياً ودولياً وانتهاكاً للقوانين إذا ما صبت تلك الصور في مصلحة دول بعينها دون غيرها، وهو ما يتكرر في العالم خلال العقود الماضية، فما قصة تلك الامتيازات التي تحظى بها دول دون أخرى؟

عملية البستان ورصد الفضاء

في عام 2007 تعرض موقع سوري يقع شرق البلاد في محيط مدينة دير الزور لقصف إسرائيلي عنيف عبر مقاتلات “أف 15″ و”أف 16” ومروحية قوات شالداغ الخاصة وحظيت تلك العملية حينها بتعتيم شبه تام وسرية مطلقة من قبل إسرائيل، حتى إن سوريا لم تعلق عليها بصورة رسمية، وأسفرت عن تحقيق الهدف المراد من قبل المستهدف وهو تدمير الموقع بالكامل. العملية سميت حينها (عملية خارج الصندوق – البستان).

قبل سنوات قليلة وبعد مضي 15 عاماً بالضبط اعترفت إسرائيل بتلك العملية ونشرت تفاصيلها قائلة إنها كانت تدميراً لما يشتبه في أنه موقع نووي سري سوري، بالتأكيد إسرائيل حينها لم تعتمد كما قالت هي فقط على تقاطع معلومات استخباراتية، بل على صور أقمار اصطناعية دقيقة ولحظية وتتابعية أتاحت لها إمكانية القصف الدقيق.

هنا يثار التساؤل: من قدم لإسرائيل كدولة امتياز تلك الصور؟ ولو كان الأمر على المقلب الآخر وأرادت دول شرق أوسطية أخرى من بينها سوريا ومصر والأردن واليمن وغيرها مثلاً، أو حتى دول أفريقية أخرى، ودول كثيرة حول العالم، صوراً من أقمار اصطناعية لما تعتقد أنه تهديدات قائمة ضدها في دول مجاورة، فهل كانت ستحظى بتلك الصور؟ قد يكون الجواب نعم في بعض الأحيان، لكن ما المقابل؟ المقابل غالباً سيكون امتيازات للدول التي تحكم تكنولوجيا الفضاء فتمنع مراقبة أراضيها وتراقب دبيب النمل في بقية الكرة الأرضية.

حتى إسرائيل

وحتى إسرائيل تخضع للمراقبة الجوية وفي هذا التباس يقوم على الابتزاز مرات وتضارب المصالح مرات أخرى، فإسرائيل المحصنة بعلاقاتها ليست بمنأى عن تسريب صور ترصد توسع عمليات الاستيطان القائمة على خلاف ما نصت عليه قرارات مجلس الأمن المتعلقة بحل الدولتين والانسحاب لما بعد حدود 1967.

وفي هذه الحالة يبدو الأمر أقرب إلى الابتزاز السياسي الذي يتصارع فيه المعسكران الشرقي والغربي مع وجود أياد خفية للمعسكر الغربي نفسه (الولايات المتحدة) في الضغط على شريكتها في المنطقة بغية تحقيق مكاسب استراتيجية تنتجها لوبيات الضغط في البيت الأبيض والبنتاغون وما يتبعها من خلافات مرحلية بين الجمهوريين والديمقراطيين.

ميانمار أيضاً

وفي مثال آخر حول رصد الأقمار الاصطناعية لدولة فيمكن ذكر مراقبة توسع بناء السجون والمعتقلات في ميانمار جوياً وهي التي تشهد اضطرابات داخلية عنيفة، وهناك قد تتداخل خيوط اللعبة أكثر بعد أن صارت قضية تلك الدولة ملفاً لتكسير العظام بين الصين وأميركا مع من يحالفها في منطقة الهندي – الهادئ كأستراليا والهند واليابان.
الصين تدعم نظام الحكم الانقلابي الذي وصل إلى السلطة في ميانمار كجزء من نشاط دعم الأنظمة الشمولية بينما تميل أميركا لدعم المعارضة، فتشتعل الساحة بين القطبين العالميين لتسرب بكين صوراً عن أنشطة غير شرعية للمعارضة، ولتسرب أميركا صوراً لتوسع السجون والمعتقلات وعمليات القتل التعسفي وكل ما يرتبط بتلك الجوانب ويدعمها من إعلام موجه ودقيق.

في حين يحمي أولئك القطبان أراضيهما من أن يصيرا جداراً مكشوفاً لأقمار معادية، فتنتقل حروب الفضاء نحو ساحات يفرغ فيها الكبار ذخائر بنادقهم بعيداً من حدود بلادهم، واليوم، أو غداً، أو في القريب، ستكون تايوان أول المرشحين لصعود مسرح التقاط الصور الفضائية ضمن إطار الخلاف الدائر في البر الصيني وقبالته والموقف الغربي منه.

ما الأقمار الاصطناعية؟

الأقمار الاصطناعية هي أجسام فضائية كبيرة الحجم نسبياً ومصنعة بطريقة تقنية تتيح لها تعدد المهام والوظائف والدوران حول الأرض أو أجرام سماوية أخرى، ويمكن لها أن تأخذ على عاتقها مهام رصد الطقس وخرائط النجوم والكواكب والنجوم وأغراض علمية ومعرفية أخرى، فيما تعتبر أخطر تلك الأقمار هي تلك المخصصة لأداء مهام عسكرية ومدنية تتعلق فقط بالتقاط صور لأماكن محددة على كوكب الأرض إلى جانب أقمار الاتصالات والملاحة، وتلك هي الأقمار التي تشغل حيز الصراع الدولي منذ أكثر من نصف قرن، فاليوم بات الفضاء فوق أرضنا مليئاً بآلاف الأقمار الاصطناعية.

تقول بعض المصادر المعنية بتتبع الأقمار الاصطناعية إن عددها اليوم في الفضاء وصل إلى نحو 7 آلاف قمر اصطناعي بين نشط وغير نشط، وفي عام 2022 وحده أطلق 150 قمراً، ويجري إطلاق تلك الأقمار بآليات فيزيائية معقدة جداً وضمن مسارات محددة لتجنب اصطدامها وهو أمر قابل الحدوث إلا أنه غير شائع عموماً.

وبتشريح تعداد امتلاك الدول الأقمار الاصطناعية تحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى بـ3415 قمراً، تليها الصين بـ535، ثم المملكة المتحدة بـ486، فروسيا بـ170 قمراً، واليابان 88، والهند 59، وكندا 56، فيما بقية دول العالم تمتلك معاً 180 قمراً، وباعتبار وجود نحو 5 آلاف قمر اصطناعي نشط اليوم فإن موقع Statista المتخصص في متابعة الملف يؤكد أن من بينها فقط 424 قمراً اصطناعياً عسكرياً مصرحاً عنه.

اتفاقات دولية

تمتلك الدول الكبرى تقنياً اتفاقات معقدة أبرزها بين روسيا وأميركا في شأن التشغيل الفضائي المشترك من خلال محطة الفضاء الدولية، لكن الحرب في أوكرانيا هددت هذا التعاون بصورة واضحة ومباشرة، ومن ثم حدوث الانقسام إلى المدارين الروسي والأميركي مما أثر بالضرورة الفورية في مختبر الأبحاث المشترك الذي يقوم على دعم كل طرف للآخر تقنياً في شؤون تعاونية متعددة، بينها بعثات فضائية مشتركة كتلك المنضوية ضمن المحطة الدولية التي تضم أربعة رواد فضاء روس ومثلهم من الأميركيين وآخر أوروبي.

وانطلاقاً من شكل التهديد القائم هذا تمددت روسيا في التجسس من بوابة بولندا أولاً نحو الدول الأوروبية التي شاركت حدودياً أو لوجيستياً أو بشكل عملياتي مباشر وثقيل على الأرض، لتضعهم تحت عين المراقبة الجوية بعيداً من معاهدة الفضاء الخارجي التي وقعت عام 1967 وانضم إليها حتى عام 2008 نحو 100 دولة.

وعلى رغم ذلك فإن هذا التجسس يظل في إطار الرد العملياتي على الشؤون العسكرية المباشرة بنزاع دولتين، إحداهما تملك مقومات حفظ مجالها الفضائي بالقوة (روسيا) وبالتوازنات الإقليمية والدولية كما بالضبط تحمي بريطانيا وفرنسا وأميركا والصين ودول قليلة أخرى أنفسهم، ليصار إلى العودة نحو القاعدة الأولى: التجسس تكمن أهميته للدول العظمى في تحقيق انتصارات من دون خوض حروب مباشرة مع دول تحظى بنفوذ وقوة عسكرية على الأرض.

أساليب متنوعة للتجسس

تراقب روسيا التحركات الأميركية على الأراضي السورية، ومثلها تفعل أميركا، ومعهما دول عدة، لكنها لا تتبع تلك الأساليب بعضها مع بعض، وهذا لا يعني أنها لا تمارس الجاسوسية، بل هي تسعى إلى التقدم بها علماً ونوعاً وكماً وتطوراً منذ حرب الجواسيس بعيد منتصف القرن الماضي، وصولاً لثورة المسيرات والمناطيد وتجنيد رجال الاستخبارات مروراً بالتحليق الهامشي المرتفع للطيران الحربي في جوار المناطق المراد مراقبتها. ولا يزال منطاد الصين المسقط بصاروخ حربي قبالة ساحل ساوث كارولينا في أميركا العام الماضي وما أثاره من هلع سياسي حاضراً كأنموذج حي عما يمكن لعالم الجاسوسية والترصد أن يحمله.

thumbnail_62976c46-c5e1-46f7-bb7b-c4ad55076a1d.jpg
حرب الجواسيس باتت لها أشكال أخرى فضائية (مواقع التواصل)

يترك دائماً هامش لاحتمالية خرق ما يجب ألا يخرق، إذ تتيح الإمكانات التكنولوجية المعقدة والمتطورة لتلك الدول التي لا تفصح عن نشاطاتها العسكرية أن تعترض وتشوش على أقمار لدول أخرى تقترب من مداراتها أو تتجه نحو أراضيها اهتماماً، إذ يمكن لعشرات الأقمار الاصطناعية الأميركية اعتراض الاتصالات لأقمار لدول أخرى.

كما تستطيع دول أخرى فعل ذلك، فمثلاً يمكن لأميركا اعتراض الاتصالات الصينية على مدار البلاد ومراقبة أنشطة أخرى، لكن تلك الأمور بالتحديد، وحتى مجرد التدخل بها، أو مقاطعتها، يعتبر بمثابة إعلان حرب، وإعلان من ذلك الشأن لا تلجأ إليه دول تمتلك أقماراً في الفضاء ورؤوساً نووية على الأرض.

أسباب مركبة: القوي يراقب ولا يراقب

كل تلك الأسباب مجتمعة، ما بين المعاهدات الدولية والتقية السياسية والحذر الاستراتيجي وتجنب المواجهات المفتوحة ونقل الصراعات نحو ساحات مرنة وقابلة للتجاذب، مع الحرص على شكل نظام الحكم العالمي بشكليه القديم (الأوروبي) والحديث (الأميركي – الصيني/ الروسي) تجعل من الأقمار الاصطناعية سلاحاً فتاكاً لكنه مصوب نحو دول ترجع بعائد استغلالي مكسبي مجز استراتيجياً في مرات، أو كأداة ضغط في مرات أخرى كما يحصل في الشرق الأوسط وشرق العالم.

وأيضاً ما يمكن إخضاعه للبازار السياسي، كما الحال في السودان وسوريا والعراق وميانمار وتايوان وأوكرانيا، وكما رصدت كل الأقمار حركة “طالبان” وهي تتوسع وتسيطر مع طائرات أميركية تغادر مطار كابول على عجالة وكأنها فوجئت لتوها بما يحصل في بلاد بأكملها.

وليس لأجل كل ذلك فقط لا تراقب دول العالم المتقدم بعضها، هي فقط لا تريد أن تتواجه في الفضاء وعلى الأرض، وفق حسابات سياسية قسمت العالم مسبقاً لمعسكرين اختارا جبهات صراعهما من تحت الطاولة أحياناً ومن فوقها في أحيان أخرى، على أن تظل هي آمنة، وبعودة بسيطة لإسرائيل وتموضعها الدولي فهي لن تكون يوماً إلا في دائرة نار وبازار وتجاذب، لذا فهي تخضع لمنطق مراقبة ما هو متاح للمراقبة، وبأخذها كمثال نهائي يمكن شرح كل ما تقدم عن الدول التي تراقب أو لا تراقب.