قد يؤيد معظم الإسرائيليين التوصل إلى اتفاق حول حل الدولتين إذا كانوا متأكدين من أنه سيجلب لهم الأمن، لكن شكوكهم الحالية ترتكز على مخاوف حقيقية وعاجلة بشأن نزع السلاح، نظراً لتجربتهم السابقة مع غزة ولبنان.
تأمل إدارة بايدن استخدام صفقة إطلاق سراح الرهائن للانتقال من حرب غزة إلى تحقيق اختراق إقليمي تاريخي أوسع نطاقاً بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، ونصر استراتيجي حاسم ضد القوى المزعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط. ومع استياء السعوديين من سقوط ضحايا من المدنيين الفلسطينيين خلال الحرب التي اندلعت بين إسرائيل و”حماس” ما بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر، فقد جعلوا اليوم الخطوات التي لا يمكن التراجع عنها نحو إقامة دولة فلسطينية شرطاً مسبقاً لتحقيق مثل هذا التقدّم.
وفي هذا السياق، ذكرت صحيفة “واشنطن بوست” في الخامس عشر من شباط/فبراير أن الولايات المتحدة والعديد من الدول العربية تجري مناقشات متلاحقة لتطوير خطة سلام إسرائيلية فلسطينية شاملة مع “جدول زمني محدد” لإقامة دولة فلسطينية. وفي حين أن ذلك قد يكون على الأرجح بمثابة اختبار – ربما بدأه مسؤولون عرب – ومن غير الواضح ما إذا كان البيت الأبيض سيوافق على التواريخ المحددة أو على خطة مفصلة لإقامة دولة فلسطينية، فإن البعض يريد عرضاً سريعاً للتقدم لتهدئة التوترات التي من المتوقع أن تتصاعد خلال شهر رمضان، الذي يبدأ في 10 آذار/مارس. وتجدر الإشارة إلى أن الجدول الزمني للتوصل إلى اتفاق فعلي هو قصير الأمد بسبب الانتخابات الأمريكية المقبلة، حيث تريد إدارة بايدن إبرام صفقة مع السعودية قبل حلول الصيف عندما تكون الحملة الرئاسية في أوجها.
ومن غير المستغرب أن تكون هذه الخطة قد أثارت استياء الكثيرين في إسرائيل، الذين يشعرون أن ذلك من شأنه أن يكافئ “حماس” فعلياً على المجزرة التي ارتكبتها ضد الإسرائيليين. وفي كل من مقال “واشنطن بوست” وبعض التحليلات الأخرى، يتم تقديم حكومة نتنياهو و”حماس” على أنهما العائق الحقيقي الوحيد أمام التوصل إلى اتفاق مهم من شأنه المصالحة بين إسرائيل والعديد من الدول العربية مع تحقيق حل الدولتين.
ومع ذلك، فإن التحفظات الإسرائيلية بشأن إقامة دولة فلسطينية تتخطى نتنياهو وتستند إلى مخاوف حقيقية وملحة، وعلى رأسها المخاوف الأمنية. ولابد من التعامل مع هذه القضية بجدية من خلال ربط التقدم على مسار إقامة دولة فلسطينية بتلبية معايير أمنية واضحة، من دونها يصبح عدم الاستقرار أمراً محتماً. وقد يخاطر الجهد الأمريكي الذي لا يأخذ ذلك بعين الاعتبار بإساءة قراءة السياسة الإسرائيلية ومخاوف غالبية الإسرائيليين عبر الطيف السياسي.
ويشهد الدعم الإسرائيلي لحل الدولتين، والذي كان يمثل أغلبية كبيرة في الأيام الزاخرة التي طبعت “اتفاقيات أوسلو” في التسعينيات، تراجعاً منذ سنوات. فقد أدت الصدمة الوطنية الناجمة عن المجزرة المرتكبة بحق 1200 من الأبرياء الإسرائيليين – بعضهم قطعت رؤوسهم وأحرقوا أحياء واغتصبوا – في السابع من تشرين الأول/أكتوبر والحرب التي تلت ذلك إلى زيادة تصلب الرأي العام. وفي كانون الثاني/يناير، رفض 59 في المائة من الإسرائيليين اليهود حل الدولتين كجزء من حزمة ضمانات أمريكية، والتطبيع مع الدول العربية، والسلام العسكري طويل الأمد. ويرتبط دعم حل الدولتين بالتصورات المتعلقة بجدوى هذا الحل، وقد أصبح الإسرائيليون متشككين على نحو متزايد: فقبل شهر من السابع من تشرين الأول/أكتوبر، كان 32 في المائة فقط من اليهود الإسرائيليين يعتقدون أن إسرائيل والدولة الفلسطينية يمكن أن تتعايشا سلمياً، في انخفاض قدره 14 في المائة عن عام 2013.
ويُعتبر السبب الأساسي لهذه المعارضة عملياً أكثر منه أيديولوجياً. فالعديد من الإسرائيليين يؤيدون فكرة التوصل إلى حل وسط من أجل السلام، لكنهم يشعرون بالقلق من التخلي عن الوضع الراهن من دون التوصل إلى اتفاق مع شريك يثقون به – وهو في نظرهم السبيل الوحيد لتوفير الأمن الحقيقي وإنهاء الصراع فعلياً. وفي حين أن أقلية معينة تعتبر الضفة الغربية إرثاً من الكتاب المقدس لا يجوز التنازل عنه، إلّا أنه في كانون الثاني/يناير 2023، كان أكثر من 60 في المائة من الإسرائيليين على استعداد لقبول الاعتراف الإسرائيلي الفلسطيني المتبادل بالمطالبات المشروعة للطرف الآخر، وإنهاء النزاع وانتهاء المطالبات المستقبلية في إطار حل الدولتين. وإذا اعتقد الإسرائيليون أن الاتفاق سينجح، فإن الأغلبية ستؤيده. فهم يدركون أن حل الدولتين، إذا نجح، هو أفضل وسيلة لضمان مستقبل إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية.
لكن في الوقت الحالي، يربط معظم الإسرائيليين حل الدولتين بخطر أمني كبير ويفضلون الوضع الراهن، على الرغم من مخاطره. وهذا القلق له مبرّراته. فعلى مدى الأعوام الثلاثين الماضية، كان الانسحاب الإسرائيلي من الساحة الفلسطينية يؤدي في الكثير من الأحيان ـ وإن لم يكن دائماً ـ إلى العنف، وليس السلام.
وعلى الرغم من انسحاب إسرائيل من مدن الضفة الغربية خلال “اتفاقيات أوسلو”، إلا أن الانتفاضة الثانية اندلعت بعد وقت قصير من انهيار محادثات السلام التي قادتها الولايات المتحدة في عام 2000. وقُتل أكثر من 1000 إسرائيلي، العديد منهم في تفجيرات انتحارية. وشهد الانسحاب من غزة في عام 2005 قيام “حماس” بطرد السلطة الفلسطينية – التي هي التيار الرئيسي للفلسطينيين – من المنطقة في غضون أيام قليلة في عام 2007 مع مجموعة أساسية صغيرة من المقاتلين المدججين بالسلاح، ثم أمضت 16 عاماً في تطوير مصانع الصواريخ وقلعة مترامية الأطراف تحت الأرض دون عوائق. وكانت هذه نقطة حاسمة. فعندما تدهورت الأمور، لم يتمكن أحد من منع “حماس” من التفوق على السلطة الفلسطينية في المناورة. و منذ ذلك الحين، تعيش إسرائيل مع سيطرة “حماس”. ولم يكن عام 2007 أي لحظة من الزمن، بل غيّر مسار السيطرة على غزة بحد ذاته.
وبعيداً عن الساحة الإسرائيلية الفلسطينية، فإن الانسحاب من المنطقة الأمنية الإسرائيلية في جنوب لبنان لم يجلب السلام مع “حزب الله”، بل سمح للـ”حزب” بتعزيز سيطرته على الرغم من الحرب مع إسرائيل في عام 2006، وتجاهله “قرار الأمم المتحدة رقم 1701” من خلال تطويره ترسانة مكونة من 150 ألف صاروخ وقذيفة، بعضها موجه بدقة، ونشره 6000 من قوات كوماندوز “الرضوان” بالقرب من الحدود – وهي نقطة تحوّل حاسمة ثانية لم تتعاف منها إسرائيل. واضطرت إسرائيل إلى إجلاء ما بين 60 ألف و80 ألف مدني من منطقة حدودها الشمالية بعد وقت قصير من 7 تشرين الأول/أكتوبر خوفاً من وقوع هجوم مماثل هناك.
آلية تأمين الفشل
إن إخفاقات غزة ولبنان، والتي أكدها استمرار “حماس” و”حزب الله” في إنكار حق إسرائيل في الوجود، دحضت الفرضية الأساسية لأي اتفاق سلام بأن الانسحاب يجعل إسرائيل أكثر أماناً. والدرس الذي يتعيّن على الإسرائيليين أن يتعلموه بسيط: من دون التنفيذ الدائم والجوهري لنزع السلاح في الدولة الفلسطينية المستقبلية، سيصبح أي حل سياسي للنزاع مهدداً بشكل دائم.
ويقيناً، لدى الفلسطينيين أسباب كافية لعدم الوثوق بإسرائيل. فقد أيّد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً حل الدولتين في عام 2009، لكنه تخلى عنه في وقت لاحق، ويعارض العديد من الشخصيات الرئيسية في حكومته إقامة دولة فلسطينية لأسباب أيديولوجية. كما أدى التوسع الاستيطاني المستمر إلى الإضرار بالتصورات المتعلقة بجدوى حل الدولتين.
وعلى الرغم من أنه من غير المرجح أن تتأثر هذه الحكومة، إلّا أن الاستراتيجية الأمريكية يجب أن تفصل المعارضة الأيديولوجية للدولة الفلسطينية عن المجموعة الأكبر من الإسرائيليين الذين تنبع مقاومتهم من مخاوف أمنية. ومن أجل إقناع أغلبية الإسرائيليين بدعم حل الدولتين وإخلاء مستوطنات الضفة الغربية، من الضروري أن تتواجد آلية آمنة لضمان بقاء الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح. وتُعتبر المبادئ الغامضة غير كافية.
إن ضمان نجاح الدولة الفلسطينية المستقبلية يتطلب إصلاح عدم التناسق بين الجهات الفاعلة القوية غير التابعة للدولة والجهات الضعيفة التابعة للدولة، وهو ما يؤدي إلى عدم الاستقرار المزمن في العديد من دول الشرق الأوسط. وفي كثير من الأحيان، أولئك الذين يتخذون الإجراءات هم الذين يقررونها. وتتلخص الخطوة الأولى، التي تقوم بها إسرائيل حالياً، في القضاء على القدرات العسكرية لـ “حماس” وإضعافها بما يكفي لتتمكن قوات الأمن الفلسطينية من احتوائها.
ومن ثم، لابد أن توفر الدولة الفلسطينية المستقبلية الكرامة والسيادة للفلسطينيين، وتكون قوية بما يكفي للتعامل مع الجهات المتطرفة مثل “حماس”، من دون العسكرة وتشكيل تهديد أمني لإسرائيل. وهذا توازن دقيق لا مثيل له على المستوى الدولي، إذ لا تقع أي من الدول الخمس عشرة منزوعة السلاح في مختلف أنحاء العالم في مناطق نزاع. لكن ذلك ليس مستحيلاً.
وحددت المقترحات السابقة لنزع السلاح قيام دولة فلسطينية دون سلاح جو أو مدرعات أو أسلحة ثقيلة، ولكن مع أمن داخلي قوي وشرطة وقوات لمكافحة الإرهاب للحفاظ على النظام الداخلي. ومن شأن التعاون الاستخباراتي الإسرائيلي الفلسطيني والتعاون العملياتي أن يستمر بين حين وآخر. ويتمثل العنصر الأساسي بوجود طرف ثالث قادر على ضمان نزع السلاح وبقاء الدولة الفلسطينية الناشئة في الوقت نفسه. وسيشرف هذا الطرف الثالث على أمن الحدود لمنع تهريب الأسلحة، والتحقق من نزع السلاح من خلال التحقق من وجود مصانع أسلحة وغيرها، وفض النزاع بين القوات الإسرائيلية والفلسطينية. ففي نهاية المطاف، تريد الولايات المتحدة أن تبدو الدولة الفلسطينية على غرار كوستاريكا، ولكن لأسباب وجيهة ترجع إلى الخبرة، تخشى إسرائيل أن يؤدي الانسحاب غير المتأني إلى إنشاء دولة فلسطينية تبدو أشبه بإيران مصغرة خطيرة.
ومن الناحية النظرية، يمكن للدول العربية الست التي عقدت اتفاقيات سلام مع إسرائيل أن تؤدي هذه المهمة، ولكن لا يوجد دليل على أنها تريد أن يُنظر إليها على أنها تستخدم القوة ضد إخوانها العرب. وإذا لم تكن معظم الدول العربية على استعداد حتى لإدانة الفظائع التي وقعت في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، فما ستكون جدوى تلك الضمانات؟
وفي غياب “تحالف راغب” جدي للغاية من الدول المهمة المستعدة لمواجهة الجهات الفاعلة السيئة، يبدو أن الولايات المتحدة أو حلف شمال الأطلسي هما الخياران الوحيدان. وتحتفظ الولايات المتحدة بوجود عسكري في عشرات الدول مثل ألمانيا وكوريا الجنوبية بناءً على طلب هذه الدول دون المساس بسيادتها.
ولن يحبذ الأمريكيون والإسرائيليون على حد سواء فكرة نشر قوات أمريكية أو أخرى من حلف شمال الأطلسي. فالأمريكيون يريدون تجنب التورطات الخارجية الخطيرة، والإسرائيليون لا يرغبون في تعقيد العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، إذ أنهم فخورون بأن إسرائيل تدافع عن نفسها بنفسها، ولا يريدون تعريض حياة الأمريكيين للخطر. ويمكن لإسرائيل أن تكون بمثابة الضامن الأولي ثم تقوم بتسليم السلطة في نهاية المطاف، لأنها سوف تريد أن تكون لها القدرة على التدخل إذا أثبتت السلطة الفلسطينية عدم قدرتها على احتواء “حماس”. ومع ذلك، فمن المرجح أن يتم تفسير ذلك على أنه امتداد للاحتلال العسكري، وقد يكون غير مقبول سياسياً، ومن هنا ضرورة تأمين مرحلة انتقالية.
لا ينبغي لهذه التفاصيل الهامة أن تحجب النقطة الرئيسية. فالتاريخ الحديث يُظهر أن أي مناقشة لحل الدولتين دون وجود آلية تنفيذ مصاحبة له هي وصفة للفشل. يتعين على الولايات المتحدة أن تمارس الضغوط من أجل إقامة دولة فلسطينية ناجحة فعلياً، وإلا ستستولي عليها “حماس” وغيرها من الجماعات المتطرفة العنيفة، وسوف يُكرر يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر نفسه.
ديفيد ماكوفسكي