بسذاجة سياسية تعامل الكثيرون مع المشروع الأميركي في العراق باعتباره دعوة إلى تقسيم البلد المنكوب بحروبه من غير أن ينتبهوا إلى أن الأميركان كانوا أكثر ذكاء في تفكيك العراق من غير الإعلان عن انهيار الدولة العراقية ورفع غطاء السيادة الوطنية عنها. عمل المحتل الأميركي على تمزيق النسيج المجتمعي وزعزعة وحدة الأراضي العراقية سياسيا من غير أن يؤدي تبنيه لاستقلال الإقليم الكردي شمال العراق إلى قيام دولة كردية، تكون عضوا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بالرغم من أن الدولة الكردية التي يتم تمويلها من ميزانية العراق صارت أمرا واقعا، بعلمها وسفاراتها ورئيسها ووزاراتها وجيشها. ولم ينحصر الأمر بمنطق القوة الذي فرض الأميركان من خلاله قيام تلك الدولة الطفيلية بل إن الدستور العراقي الجديد الذي كتبه الأميركان ينصص على الاعتراف بها داخل حدود العراق مع وجود ما يُسمى صوريا بالحكومة الاتحادية في بغداد.
لم يفت الأميركان الإعلان عن أنهم حافظوا على وحدة الأراضي العراقية، بل إنهم وقفوا ضد نتائج الاستفتاء الذي دعا إلى انفصال الإقليم الكردي عن العراق عام 2017. غير أن ذلك لا يخفي حقيقة أن الحكومة الاتحادية لا تملك ممثلا واحدا لها في الحكومة التي تفرض سيطرتها على الأراضي الكردية. ولا يزال الأكراد متمسكين بالمادة رقم 140 من الدستور والخاصة بما يسمى المناطق المتنازع عليها. وهي المناطق التي يعتقد الأكراد أنها تابعة لإقليمهم. وإذا ما نظرنا إلى خارطة العراق في ظل تلك المادة فإن الجزء الأكبر منها سيقع ضمن الدولة الكردية إذا ما تم تنفيذ تلك المادة. لذلك لم ينصص الدستور على أن العراق دولة عربية بل هو دولة مكونات. العراق لم يعد قانونيا دولة عربية بالرغم من أن الجامعة العربية تصر على الاستمرار في احتضانه. وإذا ما كان الاعتراف الدستوري بالإقليم الكردي صريحا فإن الدستور قد نص صراحة في المادة 116 على أن العراق يتكون من عاصمة وأقاليم ومحافظات لا مركزية وإدارات محلية. وهو ما يعني أن العراق لم يعد ذلك العراق الذي نعرفه.
◙ بغض النظر عن فشل مشاريع الأقاليم هنا وهناك يظل مشروع الإقليم الكردي قائما، يتحدى وجوده قيام دولة عراقية موحدة ذات سيادة
في سياق ذلك التحول الخطير في تاريخ العراق فإن فكرة الأقاليم صارت جاهزة على الطاولة. في وقت سابق كانت هناك دعوة إلى إقامة إقليم في الجنوب، عاصمته البصرة، المدينة الثرية بالنفط. سيكون ذلك الإقليم حسب التصنيف الطائفي السائد شيعيا. غير أن الأحزاب الشيعية الموالية لإيران لم تستهوها تلك الفكرة فاختفت بين الأدراج. وليس سنة العراق أقل دهاء حين صاروا يطرحون فكرة الإقليم السني الذي ستكون الرمادي عاصمته. حين ألغيت فكرة الإقليم الشيعي فإن ذلك لم يكن فشلا للمشروع الطائفي الشيعي. فالشيعية السياسية التي هي تجسيد للهيمنة الإيرانية نجحت أخيرا في احتواء العراق الذي ترغب في أن يكون تحت سيطرتها. أما إقامة إقليم سني فإنها ستكون فكرة مرفوضة لا من قبل الأحزاب الشيعية التي انفردت بالحكم في بغداد فحسب، بل وأيضا من قبل إيران والولايات المتحدة، الدولتين اللتين تتحكمان بالقرار السياسي في العراق.
ليست السنية السياسية أفضل حالا من الشيعية السياسية ولا هي أكثر وطنية. لقد انتهى زمن المقاومة وانزوى دعاة الوطنية في بيوتهم. هناك شيء أشبه بالتجارة وليس ممثلو “السنة العرب” كما يسميهم الدستور سوى رجال أعمال، صنع الأميركان الجزء الأكبر منهم واجهة لمشروعهم في المناطق ذات الأغلبية السنية. وقد يعتقد البعض أن هناك خطأ في التوقيت. وهو ما يتناقض مع حقيقة الواقع العراقي. لقد طرد الدستور العراقي “سنة العراق” من العراق التاريخي حين اعتبرهم عربا فيما صار العراق غير عربي. فكرة العزل والإقصاء انطلقت من الدستور. غير أن إدارة الظهر لبغداد ليست فكرة حكيمة تماما. فبغداد التي تمكنت منها الشيعية السياسية تظل عاصمة للعراق الموحد. ذلك العراق الذي صنع السنة دولته، يوم كان مجرد ولايات عثمانية.
وبغض النظر عن فشل مشاريع الأقاليم هنا وهناك يظل مشروع الإقليم الكردي قائما، يتحدى وجوده قيام دولة عراقية موحدة ذات سيادة. ما تم تفكيكه لن يُعاد إلى ما كان عليه. والعراق بلد مفكك، لا تملك حكومته الاتحادية سوى أن تمول الجهات التي تبقيه حاضرا على الخرائط السياسية غير أنه واقعيا لا يملك حضورا مؤثرا. لقد صار العراق دولة مكونات. لن يتمكن تاريخه في الوقت الحالي من ضبط سباق مكوناته.