يمكن وبكل واقعية وصف السباق الانتخابي الذي ستعيشه إيران خلال الأيام المقبلة، مطلع مارس (آذار) لاختيار مجلسي النواب وخبراء القيادة بأنه سباق يعبر عن ضرورات النظام في الالتزام بالشكل الديمقراطي الذي نصت عليه الأطر الدستورية وجعلته مرتبطاً بآليات شعبية في عملية تداول السلطة تمر عبر صندوق الاقتراع تلبية للشرط الأساس في تركيبته الجمهورية.
ضرورات النظام هذه، لا تعني أنها تشكل تعبيراً حقيقياً عن الإرادة الشعبية في غالبيتها، باستثناء القاعدة التي تشكل الجسم الذي يتحرك ضمنه النظام ويعتمد عليها في إظهار شعبيته أو شرعيته الشعبية، وهي لا تتجاوز في أفضل مراحل عمره خلال العقدين الماضيين نسبة 30 في المئة، وقد تراجعت بشكل واضح خلال السنوات الأخيرة لتلامس في أفضل التقديرات نسبة 15 في المئة في المدن الكبرى، وهي قاعدة موزعة بين القناعة العقائدية من جهة، وارتباطها مع السلطة بنظام مصالح متبادلة من جهة أخرى.
تراجع القاعدة الشعبية للنظام والقوى الموالية له، وضعها في خانة الأقلية السياسية في مواجهة تنامي وصعود توجهات نهضوية وتغييرية من داخل الجسم العقائدي المتدين الذي وجد في المسار الذي اتبعه النظام في التعاطي مع مسألة السلطة انحرافاً أو ابتعاداً عن الخطوط العامة التي رسمتها الثورة ورفع شعاراتها الزعيم المؤسس، بخاصة أن هذه القوى والتوجهات تتمتعان بالشرعيتين الثورية والعقائدية – الدينية. الأمر الذي أعطاها الجرأة على الجهر بمواقفها والإعلان عن خطابها الإصلاحي الذي لا يتعارض مع الدستور والقانون، بل يصب في إطار عملية إصلاحية للعودة إلى الشعارات المؤسسة التي شلكت الميزة الأساسية وجوهر التركيبة التي قامت على بعدي “الجمهورية” وما تعنيه من التزام بالأطر الديمقراطية، و”الإسلامية” وما تعنيه من دور إرشادي وتوجيهي لموقع ولي الفقيه الذي أدخل على الدستور ووضعه على رأس السلطات كمرشد وحارس للنظام من الأخطاء أو الوقوع في السلطوية الدينية أو الديكتاتورية التي تعزز حكم الفرد على حساب المؤسسة.
هذه الثنائية أو التركيبة، كانت أو شكلت المحفز لكل القوى الليبرالية والقومية في بداية الثورة لتنخرط في العملية السياسية بشكل صادق وفعال لاعتقادها بصدقية الالتزام بهذا المسار متأتية من كونها صادرة عن مرجعية دينية وقيادة عملت معها عن قرب وأعطتها هامشاً واسعاً من حرية التعبير والحركة وحتى المسؤولية، إلا أنها تحولت إلى أولى ضحايا الصراع على السلطة بينها وبين المؤسسة الدينية التي رأت أنها الأحق بالاستحواذ وإبعاد أو إخراج الآخرين غير المنسجمين معها، بغض النظر عن ولائهم الوطني والقومي عن السلطة ومواقع القرار.
إلا أن الصراع بين الخطاب المحافظ والسلطة الدينية من جهة والخطاب الإصلاحي من أخرى، لم يكن تعبيراً عن صراع بين متخالفين او متناقضين، كما حصل مع القوى الليبرالية والقومية حتى وإن كانت متدينة، بل كان نتيجة صراع داخل المؤسسة الدينية المتولية للسلطة، أو بتعبير آخر صراع بين قراءتين للدين، قراءة ترى في الدين الطريق لإقامة سلطة أو حكومة إسلامية، وأخيرة تذهب إلى أن الدين كشأن فردي بعيداً من السياسة، من دون أن تخرج من رؤيتها الأثر الأخلاقي للدين في السلوك الفردي لأي شخص سواء من العامة أو في موقع المسؤولية والقرار. ونادت بفصل الدين كفعل إيماني عن السياسة كفعل مرتبط بالشأن العام والاجتماع والاقتصاد. وكانت أحد تجلياته الأبرز وصول محمد خاتمي إلى رئاسة الجمهورية.
وإذا ما كان الصراع مع القوى الليبرالية والقومية أسس لخروجها من الحياة البرلمانية بعد إخراجها من الحياة السياسية، فإن الصراع مع القوى الإصلاحية يبدو أنه مختلف إلى حد كبير، فمعركة السلطة مع الإصلاحيين انطلقت من ضرورة استعادة النظام والسلطة لسيطرتها على السلطة التشريعية، والانتقال بعدها لتصفية السلطة التنفيذية والتخلص من الإرث الذي تركه خاتمي في جسم مؤسسة الدولة.
وازدادت حدة هذا المسار وارتفع مستوى تشدد السلطة في التعامل مع القوى الخارجة عليها أو على خطابها مع رئاسة حسن روحاني، عندما قررت الانتهاء من عملية استخلاص مراكز القرار وتطهيرها من كل القوى المعارضة أو غير الموالية بغض النظر عن الأثمان السياسية والاجتماعية والشعبية.
وفي هذا السياق، شكلت الانتخابات البرلمانية السابقة التي أنتجت البرلمان الحالي والذي ستنتهي ولايته، في أبريل (نيسان) المقبل، أولى الخطوات المعبرة عن سياسة استخلاص السلطة ومراكز القرار وتصفيتها من المعارضين أو المختلفين.
544027_0.png
جانب من فعاليات انتخابات برلمانية سابقة في مركز اقتراع بطهران (رويترز)
فعلى رغم التراجع الكبير في نسبة المشاركة الشعبية في عملية الاقتراع، والتي لم تتجاوز في أفضل التقديرات مستوى 38 في المئة، في ظاهرة غير مسبوقة بتاريخ الدولة والثورة، إلا أنها كشفت عن إرادة السلطة بالمضي في هذا المسار من إعطاء أي أهمية لإشكالية التمثيل أو الشرعية الشعبية، باعتبار أن القاعدة الموالية لها تشكل الحاضنة والرافعة لمشروعها في الانتقال بالسلطة من دائرة “الجمهورية” إلى فضاء “الإمارة أو الحكومة الدينية”.
هذا إضافة إلى امتلاك هذه السلطة لكل الأدوات التي تساعدها في إسكات الأصوات المعارضة أو المعترضة على هذا المسار وما يحمله من أخطار تنقل إيران من صفة الشرعية الشعبية إلى ضفة المشروعية الدينية.
الدور الذي أدته الانتخابات الماضية، تضاف إليها الانتخابات الرئاسية التي أجريت قبل عامين وأوصلت إبراهيم رئيسي إلى قيادة السلطة التنفيذية، عززت حقيقة انقسام المجتمع الإيراني بين أكثرية شعبية معترضة، وأقلية محافظة، شكل محطات على الطريق الموصل إلى الانتخابات الحالية، التي من المفترض أن تشهد هذه المرة عملية تصفية داخلية بين صفوف الجماعات المحافظة وأذرع النظام والسلطة للوصول إلى حالة “الصفاء الثوري” من خلال اختراع تنافسية منضبطة داخل البيت الواحد، إلا أن هذه التنافسية مفتوحة على صراعات حادة ومحتدمة بين أقطابها على المغانم وتقاسم الحصص والسلطات بحيث تسمح لها بأن تكون شريكاً في القرار.