مع تزايد أهمية دور موارد الطاقة في استقلال الدول لا يمكن النظر إلى الخلاف النفطي بين بغداد وأربيل على أنه مجرد خلاف طارئ، وإنما يتجاوز ذلك إلى الحسابات السياسية المتعلقة بخيار الاستقلال الكردي وتوفير البنية التحتية لهذا الاستقلال.
بغداد – يرى محللون أن قانون النفط الجديد الذي تعمل على إعداده الحكومة العراقية في بغداد سيكون العامل الأخير الذي سينهي حلم استقلال كردستان العراق، وهو ما سيؤثر بدوره على مستقبل شركات النفط الغربية العاملة في المنطقة. وقضت المحكمة الاتحادية العليا في 21 فبراير الماضي بأن على حكومة إقليم كردستان العراق تسليم “جميع الإيرادات النفطية وغير النفطية” إلى بغداد.
ويقول الخبير الاقتصادي سايمون واتكينز في تقرير نشره موقع أويل برايس الأميركي “إن هذا يضع نهاية لأي نقاش حول قدرة حكومة إقليم كردستان على الاستمرار في عمليات بيع النفط المستقلة عن الحكومة الاتحادية وشركة تسويق النفط العراقية (سومو)”. ويضيف واتكينز أنه “حتى لو تمكن الإقليم من ترتيب قنوات لتحقيق هدفه، فسيتوجب عليه تسليم جميع مداخيله النفطية إلى الحكومة الاتحادية في بغداد، ما يمنح الحكومة المركزية في العراق السيطرة المالية الكاملة عليه”.
وأضافت المحكمة الاتحادية العليا أن الحكومة الاتحادية ستكون المسؤولة عن دفع رواتب الموظفين العموميين في حكومة أربيل، مع خصم المبلغ المدفوع من المنبع في بغداد من حصة حكومة الإقليم، كما يجب على حكومة إقليم كردستان تقديم حسابات شهرية تفصل كل راتب مدفوع. وتعدّ هذه من الناحية الفعلية إعادة ضبط أكثر صرامة لصفقة “مدفوعات الميزانية لعائدات النفط” الأصلية المتفق عليها بين حكومة إقليم كردستان العراق والحكومة الاتحادية في نوفمبر 2014.
وكان الاتفاق ينص على أن تصدر حكومة إقليم كردستان ما يصل إلى 550 ألف برميل نفط يوميا من حقولها ومن كركوك عبر سومو. وفي المقابل سترسل بغداد 17 في المئة من الميزانية الاتحادية، بعد طرح المصاريف السيادية (حوالي 500 مليون دولار آنذاك)، شهريا في مدفوعات الميزانية إلى الأكراد. ولم يكن هذا الترتيب مرضيا، حيث اتهمت حكومة إقليم كردستان في الكثير من الأحيان الحكومة الاتحادية بعدم تسديد مدفوعات الميزانية كاملة، وكثيرا ما اتهمت الحكومة الاتحاديةُ حكومةَ إقليم كردستان بتقديم عائدات النفط منقوصة.
ومن ثمة تقرر استبدال الصفقة بتفاهم أمكن التوصل إليه بين حكومة إقليم كردستان والحكومة الاتحادية الجديدة التي تشكلت في أكتوبر 2018. وركزت الحكومة الاتحادية على مشروع قانون الميزانية الوطنية لعام 2019. وقد تطلب منها ذلك تحويل أموال كافية من الميزانية إلى دفع رواتب موظفي حكومة إقليم كردستان بالإضافة إلى تعويضات مالية أخرى مقابل تسليم حكومة أربيل عمليات تصدير ما لا يقل عن 250 ألف برميل يوميا من النفط الخام إلى سومو. ولم يعمل هذا الترتيب بشكل مرضيّ أيضا.
وتدهورت الأوضاع في أواخر 2017 لسببين: أولهما هو أن 25 سبتمبر 2017 شهد تصويتا غير ملزم على الاستقلال الكامل لكردستان العراق. ووعدت الولايات المتحدة وحلفاؤها ضمنيا كردستان العراق بالاستقلال في مقابل أن يكون جيش البيشمركة في مقدمة القتال ضد داعش. وصوت أكثر من 92 في المئة من الناخبين في استفتاء 2017 لصالح الاستقلال. ولكن قوات من العراق وإيران (بدعم من تركيا أيضا) انتقلت إلى المنطقة الكردية بعد وقت قصير من إعلان النتائج، وقمعت أي خطوات أخرى في اتجاه الاستقلال.
ولا يمكن أن يتسامح العراق وإيران وتركيا (وهي بلدان فيها عدد كبير من السكان الأكراد) مع تداعيات التصاعد المتزايد لحركة الاستقلال الكردية في جميع أنحاء المنطقة. والسبب الثاني هو سيطرة روسيا على قطاع النفط في كردستان العراق من خلال ثلاث آليات رئيسية. ولم يقتصر هدف موسكو على تأمين احتياطيات النفط والغاز الكبيرة في كردستان العراق، بل امتد إلى زرع بذور تدمير الاستقلال الكردي واستيعابه في عراق واحد على المدى الطويل.
وكانت روسيا بذلك هي التي أذكت غياب الثقة وتصاعد السخط بين حكومة إقليم كردستان والحكومة الاتحادية بشأن صفقة “مدفوعات الميزانية لعائدات النفط” الأصلية لسنة 2014، وهذا ما أفشلها. وكان غموض عبارة “عائدات النفط” في الدستور العراقي هو الذي خلق خط الصدع الذي استغلته موسكو لخلق الفوضى بين الجانبين.
وترى الحكومة في أربيل أنها تتمتع بسلطة لإدارة النفط والغاز المستخرجين من الحقول التي لم تكن قيد الإنتاج في 2005 بموجب المادتين 112 و115 من الدستور في إقليم كردستان. وكانت 2005 السنة التي اعتمد خلالها الدستور عن طريق الاستفتاء. كما تؤكد حكومة إقليم كردستان أن المادة 115 تنص على أن “كل ما لم ينص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية، يكون من صلاحية الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، والصلاحيات الأخرى المشتركة بين الحكومة الاتحادية والأقاليم، تكون الأولوية فيها لقانون الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، في حالة الخلاف بينهما”.
وتؤكد حكومة إقليم كردستان بهذا أنها تتمتع بسلطة بيع صادراتها من النفط والغاز وتلقي عائدات هذه العملية. كما تسلط حكومة إقليم كردستان الضوء على أن الدستور ينص على أنه في حالة نشوء نزاع، تعطى الأولوية لقانون الأقاليم والمحافظات. لكن الحكومة الاتحادية وسومو تجادلان بأن “النفط والغاز هما ملك كل الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات” بموجب المادة 111 من الدستور.
وساءت الأمور بالنسبة إلى كردستان العراق في نهاية 2021 عندما أنهت الولايات المتحدة مهمتها القتالية في العراق، ما فتح الباب فعليا أمام نفوذ إيراني وروسي وصيني اقتصادي وسياسي وعسكري أكبر في البلاد. وليس من مصلحة أي من هذه الدول الثلاث أن تكون كردستان العراق الموالية للولايات المتحدة موجودة. وتبدو موسكو راضية بمواصلة العمل في حقول شمال العراق وجنوبه، تحت إدارة سلطة مركزية صديقة في بغداد.
وفي الأثناء تعمل الصين على بناء نفوذها في جنوب العراق، من خلال صفقات متعددة في قطاع النفط والغاز أمكن الاستفادة منها بعد ذلك في صفقات بنية تحتية أكبر في جميع أنحاء الجنوب. وأمكن إبرام اتفاقية التعاون الشامل بين إيران والصين لسنة 2021. وشكّلت امتدادا في حجم ونطاق اتفاقية “النفط مقابل إعادة الإعمار والاستثمار” التي وقعتها بغداد وبكين في سبتمبر 2019، والتي سمحت للشركات الصينية بالاستثمار في مشاريع البنية التحتية في العراق مقابل النفط.
ولهذا لا ينبغي أن يُفاجأ أحد بالتصريح الذي أدلى به رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في 3 أغسطس 2023. وذكر آنذاك أن قانون النفط الموحد الجديد المدار من بغداد سيحكم كل إنتاج النفط والغاز والاستثمارات في العراق وإقليم كردستان وسيشكل عاملا قويا لوحدة البلاد
العرب