جاءت نتائج التصويت على انتخابات مجلسي الشورى والخبراء في إيران مغايرة لجميع التوقعات والأمال التي سعى إليها النظام الإيراني وأجهزته الدستورية والمؤسساتية في الوصول إلى نسب عالية او التقدم عن النسبة الحاصلة للدورة الانتخابية السابقة، ولكنه فشل في رهانه بعدم ذهاب المواطنين إلى مراكز الاقتراع والمشاركة بشكل واسع بل أن بعض الصناديق ارسلت فارغة إلى لجان الفرز والعد، وهذا يؤكد عدم اهتمام ورغبة الجمهور الإيراني في مسايرة النظام وأدواته ورفض أساليبه في معالجة الأزمات الداخلية والتي لم يتمكن من إيجاد حلول جذرية لها بل أن اتساع مساحة الفساد المالي والسياسي هي السمة الأساسية التي تعصف بالمجتمع الإيراني وانخفاض قيمة العمل المحلية التي وصلت إلى أن يكون الدولار الأمريكي مساوية في الصرف إلى 61 الف تومان إيراني.
هذه الوقائع الميدانية شكلت تأثيراً كبيراً على عدم نجاح العملية الانتخابية بشكل يوازي الطموح السياسي للنظام وأدواته، وهو ما أشارت إليه وكالة مهر الإعلامية الرسمية بتقريرها موضحة ( أن هذه الانتخابات شكلت أدنى مشاركة شعبية) رغم جميع الامكانيات التي توفرت لها والدعايات الرسمية َوالتصريحات السياسية التي واكبت مرحلة التهئ للانتخابات، ومنها تدخل المؤسسة الدينية في توجيه المواطنين بضرورة الذهاب إلى مراكز الاقتراع واعتبار ذلك من الأمور الشرعية الدينية الواجب الالتزام بها وحسب توجيهات المرشد الأعلى علي خامنئي الذي أكد في خديثه بتاريخ 28 شباط 2024 ( أن كل من يحب إيران والأمة وأمنها أن يعلم اذا أجريت انتخابات ضعيفة فلن يستفيد منها أحد وسيتضرر الجميع)، ولم يدلي بأي حديث بعد الإنتهاء من عمليات الفرز وتثبيت الأصوات.
أراد النظام الإيراني من هذه الانتخابات إثبات شرعيته وأحقيته في استمراره بقيادة البلاد، ولكنه استخدم الآلة الأمنية والسياسية وتحكم في استبعاد الكثير من المعارضين والذين يعترضون على السياسة التي يتبعها في إدارته لشؤون البلاد الداخلية والخارجية، فحصل أن غابت الشخصيات الدينية والسياسية المعتدلة والإصلاحية بسبب تدخل لجنة صيانة الدستور والتي ابعدت المئات من هذه الشخصيات أبرزها الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني الذي حكم إيران منذ عام (2013-2012) خشية منافسته للرئيس الحالي ابراهيم رئيسي على رئاسة مجلس الخبراء المكلف باختبار المرشد الأعلى القادم لإيران، والذي ترغب الاوساط الدينية والسياسية من المحافظين والدائرة القريبة من خامنئي بل ان القيادات العسكرية والأمنية في الحرس الثوري هي من تشاركهم أيضاً في رغبتهم بدعم اختيار أبراهيم رئيسي خليفة لعلي خامنئي، لتستمر عجلة النظام على نفس السياقات القائمة حاليا والتي تتوافق وأهداف المشروع الإيراني السياسي في التمدد والنفوذ وتصدير الثورة والمصالح والمنافع الذاتية للأحزاب الدينية من المحافظين والمتشددين وقيادات فيلق القدس والحرس الثوري.
إن العملية الانتخابية قد استبعدت الكثير من المعارضين وبالتالي فإن هذا الأمر أكد عدم جدية النظام الإيراني واهتمام بالرأي العام وتمسكه بأرائه التي يرى فيها أن نتائج الانتخابات هي من تقرر مستقبله وضمان وجوده وفق المعطيات القائمة وعبر الأزمات الدولية والإقليمية التي تحيط بسياسة النظام وسعيه للتعامل معها بشكل براغماتي يحفظ له وجوده بعيداً عن الشعارات والأهداف التي يعلنها على الملأ او عبر وسائل الإعلام المختلفة وهذا ما تدركه الجماهير الإيرانية التي رأت ان الانتخابات سوف لا تؤثر بشكل فعال على سياسة التغيير والإصلاح التي تنشدها،وأمام استمرار حالة القمع والاضطهاد
والجوع والإفقار والتمييز العنصري والقومي الذي يعانيه الايرانيين، إضافة إلى القمع ووأد حرية الرأي والتعبير، كانت من الأسباب الأساسية التي ساهمت في عدم الذهاب إلى الانتخابات التي لن تغير شيئاً في سياسات خبروها جيداً وتظاهروا ضدها ودفعوا مئات الضحايا في سبيل تعديلها.
ولهذا فإن من مجموع (61) مليون مواطن له الحق في التصويت شارك (25) مليون فقط في الاقتراع لاختيار (290) عضواً في مجلس الشورى و(88) عضواً لمجلس الخبراء، ونبه الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي تعليقه على هذه الأرقام بقوله ( أن الواقع الحالي يوضح تراجع للسلطة وضياع لروح الانتخابات، والتصويت دعوة إلى يقظة السلطات التي عليها أن تستمع لأصوات (36) مليون مواطن لم يشاركوا في الانتخابات).
والحصيلة أن مواطنين من المتشددين والمحسوبين والمؤيدين للمحافظين انتخبوا سياسين وشخصيات دينية متشددين سيمسكون بسلطة فاقدة الشعبية في ظروف صعبة يعيشها الشعب الإيراني ومحطات مفصلية قد تحدد مصير النظام بأكمله.
وشكلت النسبة التي أعلنتها وزارة الداخلية الإيرانية والتي بلغت، 41٪ أدنى مشاركة منذ سنة 1979،
لم يشارك في أفضل التقديرات ما تمناه المسؤولون على رغم تمديد مهلة إقفال الصناديق ثلاث مرات حتى منتصف ليلة الجمعة الأول من آذار 2024، ولم ينفع ذلك كثيراً في زيادة الإقبال بهدف تخطي أرقام انتخابات 2020 ولا اقترب عدد المقترعين من نسبة 62 في المئة المسجلة عام 2016 في الانتخابات التي أعقبت توقيع الاتفاق النووي.
وتباينت المواقف السياسية الرسمية من عملية الانتخابات، فقد أصدرت ( جبهة الإصلاح) وهي الائتلاف الرئيسي للأحزاب الإصلاحية التي يقودها الرئيس السابق محمد خاتمي بياناً أعلنت فيه موقفها بالقول ( أن عدم مشاركتها في الانتخابات لأنها ترى أن لا معنى لها بعد استبعاد مرشحين من الجبهة وبعض الشخصيات المعارضة الأخرى)، وفي سابقة لأول مرة امتنع محمد خاتمي عن المشاركة في الاقتراع الخاص باختيار أعضاء لمجلس الشورى وبين ذلك بقوله ( بأن امتناعه لحث السلطات الإيرانية على الاستماع لنصائحه).
وافصحت الانتخابات عن مدى الوعي والإدراك الذي تتمتع به الشعوب الإيرانية خاصة وانها تأتي بعد مرحلة مهمة من الاحتجاجات الشعبية التي رافقت عملية مقتل الشابة الكردية مهسا اميني في منتصف أيلول 2022 واتساعها لتشمل معظم المدن الكبرى والقصبات الإيرانية والتي راح ضحيتها المئات من الشباب المنتفض وزج العديد منهم في السجون والمعتقلات، وهذا انعكس بشكل كبير على طبيعة الاختيار السياسي والمشاركة الفعلية التي ايقن المواطن الإيراني أن نتائجها ستكون من نصيب المحافظين والمتشددين والمحسوبين على النظام والتي أشار إليها الرئيس محمد خاتمي بشكل دقيق بقوله ( أن إيران بعيدة كل البعد عن انتخابات حرة وديمقراطية ولا يمكن إجراء انتخابات حرة وشفافة) في إشارة منه عن تغيب الإصلاحين والمعتدلين وتراجع القاعدة الشعبية للنظام وامتلاك السلطة لجميع أدوات إسكات الأصوات المطالبة بالتغيير والإصلاح.
وحدة الدراسات الايرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية