ليس في لبنان المأزوم حل أصغر من لبنان الكبير، ولا أكبر منه. ومشكلته ليست الجغرافيا ولا حتى الديموغرافيا، بل لعب السلاح بالموقع الجيوسياسي من خارج ما سماه ماكس فيبر “الاحتكار الشرعي للعنف”. وليست الدستور بل تعليق الدستور، وليست المركزية الشديدة في النظام بل التصرف الواقعي على أساس أنه “فيدرالية طوائف” لكل منها زعيم يمارس دور الديكتاتور في نظام ديمقراطي هو مجموعة “ديكتاتوريات”. هو، بحسب الدستور بعد اتفاق الطائف، “وطن نهائي لجميع أبنائه”. وهو، عملياً “ساحة” للصراعات الإقليمية والدولية منذ معركة مصر وسوريا في الخمسينيات ضد”حلف السنتو” الذي كان اسمه “حلف بغداد”، ثم تحويله إلى “فتح لاند” في الستينيات مما قاد إلى حرب ودخول عسكري سوري واجتياح إسرائيلي وقوات دولية وقوة متعددة الجنسيات وصراع أميركي- سوفياتي، قبل أن يصبح “إيران لاند” وضمنها “حماس لاند”.
أما الأزمات المالية والاقتصادية التي تضربه وسط كثير من الفساد، فإن لها علاجات سياسية ممكنة، وأما التغيير الذي يطالب به بعضهم في “اتفاق الطائف”، فإنه دخول في مأزق آخر. فالحل هو تطبيقه بعد معاناة امتناع القوى النافذة عن التطبيق الكامل والحقيقي للاتفاق.
في الطائف جرى الاتفاق على “اللامركزية الإدارية الموسعة”، لكن مشاريعها، لا سيما المشروع الذي أعده وزير الداخلية زياد بارود خلال عهد الرئيس ميشال سليمان، بقيت كلاماً في الهواء أو حبراً على ورق. واليوم، أكثر من أي وقت مضى، ترتفع الأصوات الداعية إلى نظام فيدرالي على أساس أنه المخرج الممكن من مأزق التسلط على الدولة.
لكن الفيدرالية الناجحة مثل نظام في أميركا وألمانيا وبلجيكا وسويسرا وسواها تصطدم بعقبات كبيرة في لبنان، فالشرط الأول لنجاح الفيدرالية هو الاتفاق على السياسة الخارجية والسياسة الدفاعية وإبقاؤهما في يد السلطة المركزية، ثم ترك كل منطقة تدير أمورها التعليمية والبلدية والاجتماعية كما يقرر أهلها. وهذا الشرط مفقود في لبنان لأن الخلاف الكبير يتركز على السياستين الخارجية والدفاعية. أما بقية قضايا المجتمع، فإن الخلافات حولها محدودة.
وأبسط مثال على ذلك هو الجدل حول الحياد والانحياز. الحياد إلا في الصراع مع إسرائيل، والانحياز إلى الموجات التي تعلو في الشرق أو في الغرب. ففي بيان حكومة الاستقلال الأولى، حكومة الرئيس رياض الصلح، التزم لبنان “الحياد بين الشرق والغرب” مع الإفادة من “النافع” عند الآخرين. وفي الواقع اليوم صار لبنان جزءاً من “محور المقاومة” بقيادة إيران. لبنان الذي قيل إنه “بلد حاجز”، ثم جرى تصنيفه في القمم العربية كدولة “مساندة”، صار الجبهة الأمامية في حرب دائمة مع إسرائيل، والجبهة الأساسية في الدفاع عن الجمهورية الإسلامية ومشروعها.
والسؤال هو ما الذي يتغير بين المركزية والفيدرالية ما دام “حزب الله” قادراً على حمل السلاح من خارج الشرعية وفتح الجبهة الجنوبية لمساندة حركة “حماس” والمشاركة في حرب سوريا دفاعاً عن النظام والقيام بدور إقليمي في العراق واليمن وسواهما؟ لا شيء عملياً.
وإذا كان النظام المركزي عاجزاً عن استرداد قرار الحرب والسلم من “المقاومة الإسلامية”، وحتى عن الحؤول دون تسلطها على مفاصل السلطة، فإن النظام الفيدرالي أكثر عجزاً.
الحل الوحيد والضروري والممكن في لبنان، تكراراً، هو تطبيق “اتفاق الطائف” نصاً وروحاً وهو بذلك بناء مشروع الدولة، فما نحن فيه اليوم هو انحلال الدولة وضعف السلطة وقوة التسلط، وهو أيضاً الدخول في صراع المحاور.
الطائف رسم طريق تطويره عبر فتح الباب على مراحل إلى دولة مدنية، وما حدث هو السير في الاتجاه المعاكس نحو دولة المذاهب التي ليست دولة. ومن هنا نبدأ أو نبقى في المأزق اللبناني ضمن مأزق إقليمي أخطر.