العقوبات الاقتصادية… سلاح أميركا غير الحاسم

العقوبات الاقتصادية… سلاح أميركا غير الحاسم

في الذكرى الثانية للعمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، أعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي فرض عقوبات جديدة على موسكو، إذ جاءت هذه الخطوة بعد أسبوع واحد من وفاة المعارض الروسي البارز أليكسي نافالني، أثناء احتجازه في أحد السجون.

وخلال إعلانه عن 500 عقوبة جديدة ضد موسكو، قال الرئيس الأميركي جو بايدن، إنها تستهدف آلة الحرب الروسية، كما تفرض قيوداً على صادرات 100 شركة أو فرد.

كما اتخذت بريطانيا قراراً يفضي إلى تجميد أصول ستة من قادة سجن نافالني، فضلاً عن منعهم من السفر إلى المملكة المتحدة، وأقرت حظراً جديداً على صادرات روسيا للمعادن والماس والطاقة.

لم تكن هذه العقوبات هي الأولى من نوعها منذ اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية في فبراير (شباط) 2022، ذلك أنها إلى جانب دول أخرى بينها أستراليا وكندا واليابان فرضت نحو 16500 عقوبة على موسكو.

هنا يطفو على سطح القراءة التحليلية علامة استفهام في حق جدوى هذه العقوبات، وهل باتت فاعلة وناجزة في حق الدول التي تراها واشنطن مارقة، أم إنها فقدت فاعليتها، وبات على واشنطن وحلفائها السعي في طريق آخر، يمكنها تسخيره لفرض إرادتها الدولية؟

عن تاريخ العقوبات الاقتصادية

لعله من المؤكد أن التاريخ الإنساني عرف طريق العقوبات الاقتصادية في الأزمنة البعيدة، وبذلك لن يكون السبق لواشنطن، إذ يرجع عدد بالغ من المؤرخين الاقتصاديين أن تاريخ أولى العقوبات الاقتصادية يعود إلى العصور الإغريقية، وذلك عندما أصدرت الجمعية العامة في أثينا ما سمي “المرسوم الميغاري”، في العامين 433- 432 ق. م، الذي منع تجار مدينة “ميغارا” بموجبه المتاجرة في الأسواق والموانئ الأثينية (نسبة إلى أثينا).

وفي القرون الوسطى استخدمت العقوبات على نطاق واسع، ولكنها كانت في الغالب قصيرة الأمد، إذ كانت التحالفات والعداوات بين الحكام سريعة التقلب، فعدو اليوم يصبح حليفاً غداً والعكس صحيح.

وتشمل العقوبات الاقتصادية عقوبات مالية وتجارية من قبل دولة أو أكثر أو منظمة دولية ما في حق دولة أخرى أو فرد بعينه. ولا تتعلق العقوبات الاقتصادية بالضرورة بخلافات اقتصادية، بل غالب الأمر أنها تنشأ من خلفية صراعات سياسية.

ولعله من عجائب الأقدار أن روسيا الاتحادية منطلق الحديث عن العقوبات الاقتصادية هذه الأيام، كانت أول من أصابته سهام العقوبات في العصور الحديثة. ففي سنة 1917 فرضت الولايات المتحدة عقوبات على الروس البلاشفة، وما انفكت بريطانيا وفرنسا وألمانيا يوقعون عقوبات مماثلة في سنة 1919، وأعقبها تدخل عسكري سافر.

AFP__20240229__34KE3BD__v1__Preview__RussiaPoliticsPutin.jpg
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (أ ف ب)

والغريب إلى حد العجيب أن تلك العقوبات لم تفلح في إسقاط نظام البلاشفة الروس الجدد، كما تبدو إخفاقات عقوبات العم سام المعاصرة، في التأثير في حضور ونفوذ القيصر فلاديمير بوتين.

وأحد الأسئلة المثيرة والخطرة معاً، “هل العقوبات الاقتصادية ذات تأثير مماثل للمواجهات العسكرية المسلحة؟”.

ذهب الرئيس الأميركي الأسبق وودرو ويلسون (1856-1924)، ذات مرة إلى القول “إن العقوبات الاقتصادية تمثل شكلاً مروعاً أكثر من الحرب، شكلاً قد يؤدي إلى إيقاع الأذى بالأبرياء بالقتل جوعاً، بخاصة في الدول ذات الاقتصاد الضعيف وعلى الجانب الآخر قد تؤثر إيجاباً على اقتصادات بعض الدول، دافعة إياها للاكتفاء الذاتي”.

غير أن تجارب محدثة تكاد تقطع بأن واشنطن تخسر من جراء هذا السلاح، بأكثر مما تكسب.

عن عقوبات أميركا الاقتصادية

يمكن القول إن فكرة العقوبات الاقتصادية الأميركية على نحو خاص، ولدت من خلال حاضنة عرفتها البلاد في أعقاب الحرب العالمية الثانية سنة 1945، عرفت باسم “الوكالة التنسيقية للرقابة الشاملة على الصادرات”، وكانت مهمتها فرض قيود شديدة تصل في بعض جوانبها إلى حد الخطر التام على تصدير السلع والتكنولوجيا الاستراتيجية إلى الاتحاد السوفياتي.

عبر النصف الثاني من القرن الـ20، ضربت الولايات المتحدة أنواعاً مختلفة من العقوبات الاقتصادية على عدد وافر من الدول، لعل أشهرها العقوبات والحصار على كوبا ذاك الذي بدأ سنة 1958، ولا يزال قائماً حتى اليوم، على رغم التعديلات والتغيرات التي جرت عليه.

فرضت واشنطن كذلك عقوبات متنوعة ومتدرجة على كوريا الشمالية سنة 1950، وشددتها عقب قصفها لجارتها الجنوبية بالصواريخ، واشتملت العقوبات على حظر تزويد بيونغ يانغ بالأسلحة.

واليوم يسعى الرئيس الأميركي جو بادين إلى توقيع نوع جديد من أنواع العقوبات الاقتصادية على الصين، وبخاصة في مجال المحركات الرئيسة التي تمثل ركائز العالم الجديد، وفي القلب منها الرقائق الإلكترونية والذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية.

اقرأ المزيد

“الأوليغارشية” الروسية ماكينة ثروات تفرم العقوبات

“الأسطول الشبح” أداة روسيا للالتفاف على العقوبات النفطية

في ذكرى الحرب الروسية – الأوكرانية: فشل العقوبات والسقف السعري

عقوبات أميركية على 500 هدف في روسيا
على أن التساؤل الذي شغل عقول كثير من المفكرين الأميركيين ولا يزال يدور في سياق فاعلية هذه العقوبات، وهل هي سيف بتار بالفعل أم إنها بدأت تفقد حسمها وعزمها، لا سيما بعد تغير مشهد النظام العالمي الحاضر؟

في كتابهما الشهير “العسل والنحل”، يقر المنظر السياسي الأميركي الشهير “ريتشارد هاس”، وأستاذة الشؤون الدولية في كلية كيندي بجامعة هارفرد “ميغان أوسوليفان”، بأن العقوبات تسفر بصورة شبه دائمة عن صعوبات اقتصادية لكن تأثيرها لا يكفي غالباً أو يعجز عن فرض التغيير السياسي المطلوب في البلد المستهدف، عطفاً على ذلك فقد تكون العقوبات مكلفة بالنسبة إلى الأبرياء.

كما أن العقوبات تثير عادة نتائج غير مقصودة، مثل تقوية النظم المعادية، وفي ضوء هذه النتائج هناك تسليم متزايد بأن الاعتماد فقط على الأدوات الجزائية مثل العقوبات نادراً ما يمثل استراتيجية فعالة للسياسة الخارجية، وكان لتزايد الوعي بهذا وراء الدعوى لاستكشاف استراتيجيات للسياسة الخارجية، تتسم بالفوارق الدقيقة بينها، وإن تضمنت عنصراً محتملاً للعقوبات، إلا أنها لا تعتمد عليها بشكل كلي في تحقيق أهداف البلاد.

هل تجهزت روسيا للعقوبات؟

كان من اليسير جداً لروسيا – بوتين، أن تدرك كيف أنها ستقع من جديد تحت سيف العقوبات الاقتصادية الأميركية، لا سيما أنها كانت تعانيها بالفعل منذ ضمها لشبه جزيرة القرم سنة.

وقبل بدء العمليات العسكرية في أوكرانيا، أعلنت وزارة المالية الروسية عن نيتها تصفية الصندوق السيادي الوطني من كل أصوله الدولارية، وحدث ذلك في وقت كان الدولار يمثل فيه 35 في المئة من أصوله، لا سيما من عائدات بيع النفط في الخارج، ويومها صرح وزير المالية الروسي أنطوان سيلوانوف بأنه سيتم تبديل أصول الدولار باليورو والذهب، وكذلك باليوان الصيني.

كان التخطيط الروسي ولا يزال أن يمتلك الصندوق السيادي أصولاً بنسب متفاوتة، لا مكان للدولار فيها (40 في المئة منها باليورو و30 في المئة باليوان و20 في المئة منها بالذهب، وخمسة في المئة بالجنيه الاسترليني وخمسة في المئة منها بالين الياباني).

واتضح جداً أن الروس تعلموا من التجارب السابقة، كيف يبنون اقتصاداً قوياً بدرجة أو بأخرى، بحيث يكون في أمان من تقلبات العم سام وعقوباته الاقتصادية التي باتت تهدد القاصي والداني دفعة واحدة، ولهذا جرى الاهتمام بفكرة تعزيز الإنتاج المحلي للاستغناء عن الواردات من الخارج التي تستهلك العملات الأجنبية.

نجحت روسيا في الاستعداد لمواجهة عقوبات واشنطن، وهو أمر توقعته وكالات اقتصادية عالمية مثل “ستاندرد أند بورز”، خصوصاً بعد أن نجحت موسكو في تنويع سلة عوائدها، ما بين صادرات عسكرية متقدمة تدر عليها مليارات الدولارات، ونفط يقي الخزانة الروسية ذل العقوبات، ناهيك بأن روسيا باتت مورداً رسمياً أممياً معتمداً للحبوب وفي مقدمها القمح لكثير من البلدان حول العالم.

عطفاً على هذا وذاك بدت روسيا- بوتين، عائدة وبقوة إلى قطاعات جغرافية أممية، لعبت فيها دوراً تاريخياً، لا سيما على صعيد الصناعات الثقيلة في حقبتي الستينيات والسبعينيات، واليوم تعود بقوة من نفس الأبواب، إضافة إلى باب جديد، لا يصد ولا يرد، وهو باب الصناعات النووية، لا سيما المفاعلات التي تعزز من مربعات نفوذها حول العالم.

AFP__20240216__34JJ8UD__v2__Preview__TopshotPolandRussiaPoliticsPrisonersNavalny.jpg
وقفة لتأبين زعيم المعارضة الروسية الراحل أليكسي نافالني (أ ف ب)

حقق الاقتصاد الروسي نمواً واضحاً على رغم العقوبات، مما دعا الرئيس بوتين إلى القول “إن العقوبات الاقتصادية، لم تلحق الضرر بروسيا… نحن نحقق نمواً وهم يتراجعون”.

استطاعت روسيا بيع النفط في الخارج بأكثر من الحد الأقصى للسعر الذي حددته مجموعة السبع، وفقاً للمجلس الأطلسي وهو مركز أبحاث أميركي، لا سيما في ظل استخدام ما يعرف بالأسطول الشبح، أو أسطول الظل الروسي المؤلف من نحو ألف ناقلة.

ولا تزال روسيا تصدر قرابة تسعة ملايين برميل نفط يومياً، بعد زيادة الإمدادات إلى الهند والصين، ليبقى التساؤل هل عرفت موسكو كيف تتفاعل مع النظام العالمي المضطرب الرافض للهيمنة الأحادية الأميركية؟

غالباً هذا ما حدث، فعزفت على أوتار كارهي الأمركة، وهم كثر، من الصين إلى إيران، ومن فنزويلا إلى البرازيل، ناهيك بأدوار دول (بريكس) و(بريكس بلس)، ومن غير أن ننسى الجمهوريات السوفياتية السابقة، التي تظل بعضها على درجة من الوفاء والولاء لموسكو الأم.

ولعل جزءاً كبيراً من نجاحات الاقتصاد الروسي ومقدرته على مجابهة العقوبات الاقتصادية، مرجعه ما لعبته محافظ البنك المركزي إلفيرا نابيولينا من دور رائد ورائع في تعزيز مرونة اقتصاد موسكو، وبما مكن البلاد من الصمود في وجه العقوبات الغربية طوال العامين الماضيين، بل وتحقيق نتائج إيجابية وذلك جنباً إلى جنب مع تقوية وتمتين العلاقات مع الصين، التي مثلت حائط صد ورد للعقوبات الأميركية والأوروبية معاً.

إذن، هل كانت حظوظ الصين مثل نظيرتها الروسية في إبطال مقدرات العقوبات الأميركية والأوروبية؟

هل تفلح العقوبات ضد الصين؟

قبل نحو شهر أو يزيد قليلاً، بدأت إدارة الرئيس بايدن، في التجهيز لتنفيذ أمر تنفيذي ضد الصين، يمنع الاستثمار فيها لا سيما في مجالات التكنولوجيا المتقدمة.

هذا الأمر التنفيذي، لم يكن سوى واحدة من أدوات العقوبات الاقتصادية التي توجهها واشنطن لجهة بكين، عوضاً عن المواجهة العسكرية، التي تتوارى خلف ملفات ملتهبة قابلة للانفجار في أي لحظة، من بحر الصين الجنوبي، وصولاً إلى تايوان، ومنطقة الإندوباسيفيك.

مع قدوم الرئيس الأميركي السابق “دونالد ترمب”، سنة 2016، كانت مقاربة التفاهم مع الصين قد وصلت إلى نهايتها، وبدأت مرحلة عنوانها “المواجهة”، حينها فرضت إدارته تعرفة جمركية على واردات بكين وصلت إلى حد 200 مليار دولار، فضلاً عن العقوبات على قطاع التكنولوجيات والشركات الصينية من قبل تقنية G5 وشركة “هواوي” وهو مما أدى في النهاية إلى نشوب حرب تجارية وبداية مرحلة “الحماية الاقتصادية” إذ بادرت الصين من جانبها أيضاً بفرض تعرفة جمركية على البضائع الأميركية وإن بمستوى أقل.

لكن مع مغادرة ترمب للبيت الأبيض، اتضح أن هذه السياسات باتت إحدى ركائز السياسة الخارجية الأميركية، فأصدرت إدارة الرئيس بايدن في أغسطس (آب) 2022، تشريعاً يسمى CHIPS and Science Act، الذي بموجبه ستسرع الولايات المتحدة الاستثمار في التكنولوجيا الخاصة بالرقائق الدقيقة أو أشباه الموصلات مع فرض عقوبات شديدة على أي شركة غربية تزود الصين بهذه التكنولوجيا.

هل كانت بكين تتوقع خطوات واشنطن في هذا السياق؟

هذا ما جرت به المقادير بالفعل، ذلك أنه بحلول سنة 2020، كانت الصين استوردت ما قيمته أكثر من 350 مليار دولار من أشباه الموصلات، أي أكثر من حيث القيمة، من وارداتها من النفط.

شعر الصينيون بنوع كبير من الإزعاج بعد أن جمدت واشنطن 300 مليار دولار من أصول البنك المركزي الروسي بالعملة الأجنبية، وإزالة البنوك الروسية من نظام المدفوعات بين البنوك (سويفت)، مما أثار قلق المتخصصين الصينيين بشكل خاص، بالنظر إلى احتياطات الصين من النقد الأجنبي التي تزيد على ثلاثة تريليونات دولار واقتصادها المعتمد على التصدير.

يختلف الوضع بين روسيا والصين، أن الأولى لا تملك إيذاء واشنطن في نقاط ضعف في جدها المالي، كما تفعل الثانية.

خذ إليك ما كتبه وانغ يونغلي، المدير العام لشركة “تشاينا أنترناشيونال فيوتشرز”، وهي واحدة من كبرى شركات الوساطة المالية في مجال السلع والعقود الآجلة، أنه إذا نفذت أميركا عقوبات على الصين، على غرار النمط الروسي، فيجب على بكين تجميد الاستثمارات وصناديق التقاعد الأميركية والاستيلاء على أصول الشركات الأميركية.

استعانت الصين بكبار العقليات الاقتصادية الصينية، من أمثال “سون شياو تاو”، من مركز الصين للتبادلات الاقتصادية الدولية، الذي أكد ضرورة ضغط بكين من أجل مزيد من التجارة المقومة بالذهب لمنع التقلبات الكبيرة في قيمة اليوان، واستعان بقرار البنك المركزي الروسي بزيادة احتياطاته الرسمية من الذهب.

أضف إلى ما تقدم، أن الصين تلعب دوراً مهماً في سلاسل القيمة العالمية، ما من شأنه أن يمنحها مزيداً من الفرص للتحايل على العقوبات، كما أن قدرتها على استبدال التكنولوجيا الأجنبية بالإنتاج المحلي أقوى بكثير من قدرة روسيا، وفقاً لما قاله مارتن تشورزيمبا، زميل أول في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي في واشنطن.

هل تسعى واشنطن لتسخير العقوبات الاقتصادية بهدف وقف نمو الصين؟ في تقرير لمجلة “فورين بوليسي” الأميركية نشرته سبتمبر (أيلول) الماضي، يدرك القارئ أن الحكومة الأميركية تسعى إلى وقف نمو الصين، ومع ذلك فإن السؤال الكبير هو ما إذا كانت واشنطن قادرة على النجاح في هذه الحملة؟ والإجابة هي لا.

العقوبات… تفيد أم تضر؟

تعرض عدد من الاقتصاديين الكبار، من أمثال البروفيسور الأميركي، كينيث روغوف، لقضية العقوبات، وهل تمثل أداة تفيد أم آلية تضر السياسات الخارجية الأميركية؟

يلفت روغوف الانتباه إلى أن معظم العقوبات في العصر الحديث تفرضها دولة كبرى على أخرى صغيرة، ولو أنها في بضع حالات تشمل دولاً متساوية الحجم، مثل الشجار الطويل من الخمسينيات إلى الثمانينيات، بين المملكة المتحدة وإسبانيا في شأن جبل طارق.

ويرى البروفيسور الأميركي أنه في بعض الأحيان تنجح العقوبات، فسبق أن ساعد الإجماع الدولي القوي على فرض العقوبات على جنوب أفريقيا في الثمانينيات في وضع حد لنظام الفصل العنصري هناك في نهاية المطاف، لكنه من جانب آخر ينبه إلى خطورة فكرة العقوبات، لا سيما في عالم تسبب الانتشار النووي فيه في جعل الحروب العالمية التقليدية ضرباً من المستحيل، فمن الواضح أن العقوبات الاقتصادية وعمليات التخريب من المرجح أن تلعب دوراً كبيراً في الجغرافيا السياسية في القرن الـ21.

وضرب مثالاً أنه بدلاً من منع الصراع ساعدت عقوبات “بيريكليس” الاقتصادية في اليونان القدمية في إشعال شرارة الحرب البيلوبونسيسة في نهاية المطاف.

ويأمل روغوف أن تكون الغلبة للعقول الرزينة الحكيمة في قرننا هذا، وأن تؤدي العقوبات الاقتصادية إلى التفاوض وليس العنف.

أحد أهم الأصوات التي تناولت شأن العقوبات الاقتصادية الأميركية أخيراً، البروفيسور منذر سليمان، مدير مركز الدراسات الأميركية والعربية في واشنطن، الذي ذكر في قراءة حديثة له أن الحزبين الرئيسين الديمقراطي والجمهوري، ينعمان بالإجماع على تفعيل سياسة العقوبات الاقتصادية ضد الدول الأخرى، فضلاً عن “العقوبات الثانوية” ضد مؤسسات ومصالح تجارية تملكها أطراف ثالثة غير مدرجة في لائحة العقوبات، لكنها تعاقب، إن ثبت لواشنطن عكس ذلك.

يخلص البروفيسور سليمان إلى أن الولايات المتحدة “تفعل مروحة شاملة من العقوبات الاقتصادية، بوتيرة متزايدة، على رغم خلو سجلها من أي مؤشرات على النجاح، ومن تعاظم الأدلة أيضاً على تسببها بإلحاق أضرار هائلة في حق مواطني البلدان المستهدفة.

كتب الأستاذ الجامعي والصحافي المرموق، بيتر بينارت، في صحيفة “واشنطن بوست” بتاريخ أبريل (نيسان) 2021، موجزاً عجز الدبلوماسية الأميركية عن فرضها سياسات العقوبات والمقاطعة على الخصوم قائلاً “إنه سلاح يتغذى على فكر أسطوري فحواه اعتقاد واشنطن أن تلك الدول سترضخ لشروطها في نهاية المطاف مع استمرار معاقبتها وانهيار نظامها”.

AFP__20240301__2015829962__v5__Preview__PresidentBidenGivesRemarksOnTheReportedDeath.jpg
الرئيس الأميركي جو بايدن خلال كلمة له (أ ف ب)

هل كان البروفيسور بينارت على حق في تشخيص أبعاد المشهد الأميركي والعقوبات المعاصرة؟ مؤكد هو كذلك، وخير مثال أن الصين التي تحاول الولايات المتحدة خنق صناعاتها التكنولوجية الحديثة، وفي مقدمها الذكاء الاصطناعي وذلك من خلال منع الاستثمار فيها، لن تعدم مصادر مالية أخرى، مثل دول الخليج والدول الآسيوية وبعض من دول أميركا اللاتينية، وحتى بعض من دول القارة الأفريقية التي تظهر وكأنها فقيرة، لكنها تمتلك من الموارد الطبيعية ما يكفي لدعم الصين.

لم يعد سراً أن العقوبات الأميركية تأتي “عادة بنتائج عكسية”، والعهدة هنا على الراوي الصحافي المخضرم في الشؤون العربية توماس ليبان.

تجمع الآراء على أن واشنطن تكاد تكون مركز القوة الوحيد في العالم الذي يستخدم سلاح العقوبات الاقتصادية أكثر من أي حكومة في العالم، وتضاعف الهوة والبؤس بينها وبين المستهدفين.

خلال مسيرة تكثيف واشنطن العقوبات على موسكو، كتب المعلق في صحيفة “نيويورك تايمز”، كريستوفر كولدويل، مؤلف كتاب “تأملات في الثورة بأوروبا: الهجرة والإسلام والغرب”، مقالاً جاء فيه أن لدى الولايات المتحدة مجموعة من الأدوات الجديدة للتنمر على العالم.

كولدويل اعتبر أن أميركا حولت اقتصاد العالم إلى سلاح ووسيلة للتنمر، وأنها كثيراً ما أرادت الولايات المتحدة من الأوروبيين التخلي عن عمودين يقوم عليهما اقتصادهم، الواردات الرخيصة من الطاقة الروسية، وتصدير الصناعات للصين، حليفة موسكو.

وهل خسر الأوروبيون من سيرهم في قاطرة واشنطن، التي فرضت أنواعاً من العقوبات؟ مؤكد هذا جرت به المقادير، ومع ذلك ها هي أوروبا تمضي من جديد في إطار سلسلة من العقوبات لا يظن أحد أنها ستجبر القيصر على تغيير مساراته.

هنا يبقى الاحتمال الذي تحدث عنه البروفيسور روغوف، الخاص بالحرب من جراء العقوبات أمراً وارداً وبقوة، وعلى غير المصدق مراجعة تجهيزات بوتين لحربه النووية مع أوروبا وأميركا، وللحديث بقية.