تشهد منطقة الشرق الأوسط حزمة من التحولات بدأت مع الألفية الثالثة، وتحديدا منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وبدء الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب، وما صاحبها من تداعيات جمة علي شئون دول المنطقة، مع انطلاق الحملة الدولية ضد أفغانستان 2001، ثم الحرب الأمريكية – البريطانية علي العراق 2003، وتطورات الاحداث في قضية الصراع العربي – الإسرائيلي، وانطلاق المحادثات الإيرانية – الغربية بشأن البرنامج النووي الإيراني، وصولا إلي ما سمي بالربيع العربي وتداعياته التي لا تزال ماثلة حتي اليوم في الشرق الأوسط.
ولا شك في أن هذه التحولات انعكست علي سياسات دول المنطقة وتوجهاتها الخارجية، سواء في تفاعلاتها مع الأطراف الدولية الفاعلة، أو حتي علي المستوي الإقليمي، وهو ما تجلي بوضوح في التقارب الروسي السعودي، خلال الفترة الماضية، حيث شهدت السياسة الخارجية لكل منهما تحولا في توجهاتها صوب الآخر نحو مزيد من التقارب، بما يمكن معه القول إنه رغم ما اتسمت به علاقاتهما من التراوح بين التوافق والاختلاف، فإن اللحظة التاريخية اليوم تدفع الطرفين للتوافق والتقارب في عدد من الملفات المهمة علي المستويين الدولي والإقليمي. يثير ذلك عدة تساؤلات، بعضها يرتبط بالأسباب والدوافع وراء هذا التحول، وبعضها الآخر يقيس حدود هذا التحول، ومجالاته، ومعوقاته، وبعضها الثالث يختبر مدي الاستمرارية في هذا التحول من عدمه. بمعني أكثر تحديدا، هل التقارب يعكس أن ثمة تغييرا حقيقيا تشهده سياسة كلا الطرفين تجاه الآخر، أم أنه تحول لحظي يرتبط بمتغيرات محددة سرعان ما تعود الأوضاع إلي طبيعتها؟.
ويمكن الإجابة علي هذه التساؤلات من خلال محورين علي النحو الآتي:
أولا- التقارب الروسي- السعودي .. فريضة اللحظة:
مثلت الزيارة التي قام بها ولي ولي العهد، النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، وزير الدفاع السعودي، الأمير محمد بن سلمان، إلي روسيا في النصف الثاني من يونيو 2015 خطوة جادة نحو التحول الذي بدأ يطرأ علي سياسات البلدين واتجاههما نحو التقارب، خاصة إذا ما عُدت تمهيدا لزيارة مرتقبة للملك السعودي إلي موسكو في الخريف المقبل، في ضوء الدعوة التي تلقاها من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عبر ممثله الخاص، نائب وزير الخارجية ميخائيل بوجدانوف، في مايو 2015، والتي التقي خلالها الملك سلمان بن عبد العزيز، وسلمه رسالة خطية تضمنت دعوته لزيارة روسيا. وفي حالة إتمامها، ستدخل علاقات البلدين مرحلة أكثر تفاهما، وأعمق تعاونا، وأوسع نطاقا.
وغني عن القول إن زيارة محمد بن سلمان اكتسبت أهميتها من عاملين، الأول: أنها الأولي من نوعها علي هذا المستوي لمسئول سعودي يزور روسيا بعد تسلم الملك سلمان بن عبد العزيز لمقاليد الحكم ، حيث يعد الرجل الثالث في نظام الحكم السعودي، بما يعطيها دلالة علي حرص السعودية علي أهمية إذابة الجليد في علاقاتهما، والذي كان قد امتد إلي نحو أربع سنوات بسبب تباين وجهات النظر بشأن أزمات المنطقة، خاصة الأزمة السورية. وقد عكست هذه الزيارة نجاح البلدين في تجاوز عقدة الأزمة السورية في علاقاتهما، بعدما أدرك الطرفان أن ما يجمعهما أهم وأوسع نطاقا من تباعد مواقفهما حول سوريا. بل إن ثمة مخاطر وتحديات عدة أكثر إلحاحا تدفعهما إلي التقارب والعمل المشترك، وهو ما تجلي فيما أبرم من اتفاقات علي هامش الزيارة.
أما العامل الثاني، فهو أن الزيارة مثلت خطوة صحيحة علي طريق إقناع روسيا بضرورة تغيير خياراتها المتبعة في الشرق الأوسط، خاصة مع إدراك السعودية المكانة الجديدة لروسيا، حيث أصبحت فاعلا مؤثرا دوليا وإقليميا، ومن الصعب تجاوزه، بما يفرض الحاجة إلي التنسيق والتعاون معا لتحقيق استقرار المنطقة، خاصة في ضوء ما تتميز به السياسة الروسية في تعاملها مع دول المنطقة، حيث تستهدف تحقيق مصالحها، عبر علاقات تعاونية علي النحو الذي يخدم مصالح الجانبين، والاستقرار والأمن الإقليمي. يدلل علي ذلك بعض المؤشرات، منها:
– مشاركة محمد بن سلمان في أعمال المنتدي الاقتصادي في سان بطرسبرج، وهو ما يمثل خروجا علي سياسة العقوبات الأمريكية -الغربية المفروضة علي روسيا. ومما عزز من هذا التوجه أيضا مشاركة الوفد العسكري في فعاليات منتدي “الجيش-2015” الذي عقد بضواحي موسكو، خاصة مع ما تردد من إبداء المملكة اهتماما بالمنظومة الصاروخية روسية الصنع “إسكندر- إ”.
– توقيع ست مذكرات تفاهم خلال الزيارة في مجالات مختلفة، منها الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، والفضاء، والإسكان، فضلا عن تفعيل أعمال اللجنة المشتركة للتعاون العسكري/ التقني.
– التعاون في مجال الطاقة، حيث أشار وزير النفط السعودي المشارك ضمن الوفد إلي أن “التعاون والتنسيق بين البلدين في مجال الطاقة سيؤدي إلي تحالف بترولي بين البلدين لمصلحة الدول المنتجة، والسوق الدولية واستقرارها”، وهو ما تعلق موسكو عليه من أهمية في ضوء تدني الأسعار.
ومن الجدير بالذكر أن ثمة محاولات سعودية هدفت إلي تغيير الرؤية الروسية حيال ما يجري في الشرق الأوسط، إلا أنها لم تنجح آنذاك، نتيجة لمجموعة معقدة من العوامل، منها:
– الاستقرار في سوق النفط، حيث كانت أسعاره علي ما يرام، ولم تكن الأزمة الأوكرانية قد تفجرت لتقض مضاجع أوروبا، كما لم تكن هناك عقوبات مفروضة علي موسكو.
– استقرار الأوضاع في سوريا لمصلحة النظام، وتمسك الرئيس بشار الأسد بموقعه.
– تعثر مفاوضات إيران مع الغرب بشأن برنامجها النووي، بل وتقلص الفرص في إمكانية التوصل إلي اتفاق ينهي الأزمة.
– أزمة الثقة الروسية في السياسات السعودية بشأن دورها في دعم التنظيمات المتشددة، استنادا إلي الخبرة الروسية في العهد السوفيتي بشأن الدور السعودي في دعم المجاهدين الأفغان في نهاية السبعينيات من القرن المنصرم، وتأثير ذلك في الاستقرار داخل الدولة الروسية وعلي حدودها. وقد امتدت الاتهامات الروسية إلي بعض المنظمات السعودية غير الحكومية، والتي تري أنها داعمة للجماعات المتطرفة التي كانت وراء الاضطرابات في الشيشان، وداغستان، وإنجوشيا، وجورجيا، وأوكرانيا. وفي الإطار ذاته، تأتي الاتهامات الروسية للسعودية بتمويل الإرهاب بسبب دعم الرياض لبعض جماعات المعارضة السورية، وهي الاتهامات التي تتكرر حينما تتباين وجهات نظر البلدين، كما حدث بشأن الخطاب الذي أرسله الرئيس الروسي بوتين إلي القمة العربية في مارس 2015، وجاء فيه “إن روسيا تقف إلي جانب الشعوب العربية، وتؤيد تسوية الأزمات في سوريا، وليبيا، واليمن علي أسس القانون الدولي”، وهو ما رفضه وزير الخارجية السعودي الراحل، سعود الفيصل، في اتهامه لروسيا بـ”تسليح النظام السوري الذي يفتك بشعبه، وبالتالي فهي مسئولة عن الكارثة التي حلت علي الشعب السوري، وروسيا تقترح حلولا سلمية في حين تواصل تسليح النظام السوري”.
وخلال العام المنصرم (2014) وحتي اليوم، حدثت تحولات مهمة فرضت علي الطرفين إعادة النظر في توجهات كل منهما حيال الآخر. وتمثل أبرز هذه التحولات فيما يأتي:
1- التغير في منظومة الحكم السعودية، وذلك بوصول الملك سلمان بن عبد العزيز إلي مقاليد الحكم، وسعيه إلي إعطاء الدبلوماسية السعودية قوة إضافية تتناسب والمتغيرات التي تجتاح العالم، وليس المنطقة فحسب، حيث استهدفت السياسة السعودية العمل علي تنوع شركائها، بما يمنحها قدرة علي إدارة علاقاتها الدولية علي أسس متوازنة مبنية علي المصالح المشتركة مع الدول الكبري. يعني ذلك أن التقارب السعودي الروسي ليس شرطا أن يعتقد أنه رسالة موجهة ضد واشنطن، فمن غير مصلحة السعودية أن تدخل في صدام مع السياسات الأمريكية وتوجهاتها في المنطقة، وإنما تدرك السعودية جيدا أن علاقاتها مع موسكو لا تعني الاستغناء عن واشنطن، أو تأتي كرد فعل علي سياسة الأخيرة في المنطقة، وإنما تعني البحث عن المصالح الوطنية للدولة السعودية في الخروج من الزاوية الأمريكية الضيقة، وذلك بتوسيع خياراتها، مستغلة المسعي الروسي الرامي لاستعادة الدور العالمي الذي فقدته في مناطق نفوذها السابقة، ومن بينها منطقة الشرق الأوسط، خاصة أن المراقب لتوجهات السياسة الخارجية الروسية يمكن أن يخلص إلي القول إن موسكو عادة ما تستثمر التراجع الأمريكي في منطقة ما لمصلحتها، حيث استغلت الفتور الذي أصاب العلاقات السعودية الامريكية، علي خلفية التقارب الأمريكي -الإيراني، في سبيل تعزيز علاقتها مع المملكة، وذلك علي غرار ما جري في التقارب الروسي – المصري، حينما دخلت العلاقات المصرية – الأمريكية مرحلة الفتور ما بعد 30 يونيو .2013
ومن الجدير بالإشارة إليه أن هذا التغير في الداخل السعودي تزامن مع تغيرات يشهدها النظام الدولي، في ضوء التحولات التي تشهدها مراكز القوي الكبري، وفي ضوء الاضطرابات والتوترات التي تخيم علي علاقاتها البينية بسبب تباين وجهات نظرها حيال مختلف الملفات الساخنة عالميا، كما هو الحال بالنسبة للأزمة الأوكرانية، وإقليميا كما هو الحال في أزمات المنطقة في العراق، وسوريا، واليمن، وليبيا. وفي ضوء ذلك، تتلاقي الرؤي السعودية – الروسية، حيث تسعي السعودية لفتح تواصل مع القوي الدولية المؤثرة، سعيا لإعلاء المصالح، والشراكات، والاستثمارات، بما يكسبها دعما إضافيا مؤثرا. وفي الوقت ذاته، تسعي روسيا إلي كسب شركاء في الخارج، في ظل توتر علاقاتها مع الغرب علي أثر الأزمة الأوكرانية.
2- الاتفاق النووي الإيراني الغربي الموقع في 14 يوليو 2015: شكل توصل الجانبين الأمريكي – الغربي مع إيران إلي اتفاق بشأن برنامج الأخيرة النووي، والذي يقضي بتوقف البرنامج مقابل رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة علي طهران، واستعادة أموالها المجمدة في الخارج، نقطة تحول في العلاقات الروسية الخليجية بصفة عامة، والروسية – السعودية علي وجه الخصوص. فعلي الرغم من مساندة روسيا لطهران في التوصل إلي هذا الاتفاق، حيث لعبت دورا مهما في إبرامه بما قد يساعدها في تلميع صورتها الدولية التي تعرضت لانتكاسة بسبب الأزمة الأوكرانية، فضلا عن المكاسب التي يمكن أن تجنيها روسيا من التوصل إلي هذا الاتفاق، فإنه علي الجانب الآخر، ثمة خسائر يتحملها الاقتصاد الروسي بسبب هذا الاتفاق. فرفع العقوبات والحظر عن طهران يعني زيادة حجم إنتاج النفط بمقدار 4 ملايين برميل يوميا، وهو ما ينعكس سلبا علي أسعاره، في ظل زيادة المعروض، بما يؤثر سلبا في عائدات النفط الروسية، والتي تمثل العمود الفقري للاقتصاد الروسي. فقد كان الانخفاض الحاد في أسعار النفط بين يونيو 2014 ويناير 2015 واحدا من العوامل الرئيسية لدخول روسيا في حالة من الركود، بعد الضغوط المتزايدة علي خزائن الدولة. وإن كان البعض يرفض هذا التحليل من منطق أن الانخفاض المتوقع في أسعار النفط لن يكون كارثيا، نظرا لمصلحة إيران – كعضو في منظمة أوبك – في ضمان استقرار سوق النفط العالمية، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخري، يمكن لروسيا أن تعوض جزءا من خسائرها في السوق النفطية من خلال بيع الأسلحة إلي إيران، بعد رفع الحظر المفروض عليها. ولكن هذا الأمر يظل محل نقاش، في ضوء تأثير عودة إيران إلي الساحة الدولية في التعاون الأوروبي – الروسي، خاصة في مجال الطاقة. فطبقا للتقديرات، تعتمد أوروبا علي روسيا في تلبية 40 من احتياجاتها من الغاز، وأن دخول إيران، التي تمتلك ثاني أكبر احتياطي من الغاز الطبيعي في العالم، يمكنها أن تتنافس مع روسيا في نهاية المطاف لتلبية الطلب الأوروبي. ولن يقتصر الأمر علي مجال الطاقة فحسب، بل -طبقا للبيانات الرسمية- فقد تراجعت التجارة الروسية مع الاتحاد الأوروبي -أكبر شريك لروسيا- بأكثر من الثلث في الشهرين الأولين من عام 2015، بل يقدر رئيس الوزراء الروسي، ديمتري ميدفيديف، أن العقوبات ستكلف روسيا (1.6) مليار دولار خلال عام .2015 ومن هذا المنطلق، ثمة حاجة للتنسيق الروسي/السعودي في مجال النفط من أجل ضبط حجم الإنتاج، كي لا تتأثر الأسعار بصورة تضر باقتصاد البلدين، هذا من ناحية. ومن ناحية أخري، يمكن لروسيا أن تعد الأسواق الخليجية سوقا بديلا لمنتجاتها بسبب توتر علاقتها مع الغرب. ومن ناحية ثالثة، تعمل موسكو علي جذب المزيد من الاستثمارات الخليجية إلي الاقتصاد الروسي بدلا من توجهها نحو السوقين الأوروبي والأمريكي. ومن ناحية رابعة، يمكن لموسكو أن توظف تقاربها مع الرياض للتحكم أكثر في علاقتها مع إيران، خاصة في ظل بدء مسعي الأخيرة للتقارب مع الغرب، نظرا إلي احتياجاتها الضرورية للتكنولوجيا ولتدعيم اقتصادها. وهذا التقارب سيكون حتما علي حساب موسكو، بل وربما علي حساب علاقة روسيا مع سوريا، علي أساس أن إيران هي الطرف الأقوي الآن في سوريا. ومن ثم، كان التوجه الروسي صوب السعودية كحليف محتمل في مقدروه أن يملأ الفراغ الإيراني.
علي الجانب الآخر، رأت السعودية أن توصل الولايات المتحدة إلي هذا الاتفاق مع طهران، في غياب تام لأي دور خليجي في المفاوضات، يعني عدم النظر إلي المخاوف الخليجية من الأطماع الإيرانية في المنطقة، عبر تدخلها المستمر في شئونها، سواء بشكل مباشر، أو عبر أذرعها المنتشرة في بعض هذه البلدان. ولذا، رأت أنه من المصلحة الوطنية توسيع هامش تحركها، والبحث عن شركاء آخرين دون الاقتصار علي الشريك الأمريكي كضامن لأمن الخليج. بمعني أكثر وضوحا، أرادت السعودية أن تعيد ترتيب أوضاع المنطقة ما بعد الاتفاق النووي بصورة لا تنفرد بها الولايات المتحدة، عبر إفساح موطئ قدم للفاعل الدولي الذي يسعي إلي استعادة دوره في المنطقة، خاصة بعد أن أصبح رقما مهما في معادلات المنطقة، في سوريا، واليمن، ولبنان، والتوازن العسكري مع إيران. ما نود قوله إن الاتفاق النووي الإيراني – الغربي مثل نقطة التقاء لمصالح الطرفين، ودفعهما إلي مزيد من التقارب في محاولة لتقليل الخسائر التي يمكن أن تترتب عليه.
3- التعقيدات في الأزمة السورية: إذا كان صحيحا أن روسيا لا تزال تدعم نظام بشار الأسد كما أكد الرئيس الروسي بوتين بقوله: “إن بلاده لا تزال تدعم الأسد .. خوفا من تحول سوريا إلي ليبيا أخري”، فإنه من الصحيح أيضا أن ثمة تحولات في المشهد السوري دفعت روسيا إلي دراسة جميع السيناريوهات المحتملة، بما فيها تقبل إمكانية عدم وجود بشار الأسد، تمثل أبرزها فيما يأتي: خسائر الجيش السوري الذي يقاتل علي جبهات عدة، وسيطرة “داعش” علي نسبة كبيرة من الأراضي السورية، مقابل تراجع نفوذ التنظيمات المسلحة الأخري، وتقدم الأكراد في الشمال، وما ارتبط به من تدخل تركي وإعلان الحرب علي حزب العمال الكردستاني تحت غطاء محاربة “داعش”، فضلا عن قرار واشنطن توفير غطاء جوي لمن تدربهم من المعارضة السورية ضد كل الأطراف، بما فيها النظام السوري. علي الجانب الآخر، ثمة تحولات أيضا في الجانب السعودي دفعتها إلي إمكانية قبول حل وسط، بما فيها إمكانية وجود بشار الأسد خلال مرحلة انتقالية، تمثل أبرزها فيما يأتي : الحرب في اليمن، التي يمكن أن تمتد رغم النجاحات المحققة، وحاجة المملكة إلي تهدئة مع سوريا، وتوثيق العلاقات مع موسكو للتوصل إلي تفاهم مع طهران لاحقا حول هذا الملف، وخروج تنظيم “داعش” عن السيطرة، بل بات يهدد الرياض نفسها. يدلل علي ذلك حالة التعبئة العسكرية المكثفة، خلال الفترة الاخيرة، علي الحدود السعودية الشمالية مع العراق، بما يفتح جبهة أخري للحرب علي الحدود السعودية. وعليه، فقد أشارت بعض المصادر إلي أن ثمة تحولا بدأ يطرأ علي الرؤية الروسية حيال الموقف من بشار الأسد، حيث تري هذه المصادر أن روسيا بدأت تلعب في الوقت الحالي دورا مزدوجا. فهي من ناحية، لا تزال تدعم الأسد. ومن ناحية أخري، تسعي إلي أن يكون لها تأثير في قوي المعارضة المعتدلة التي تدعم السعودية بعضها. يدلل علي ذلك تأييد روسيا للجهود المصرية في عقد جولات من الحوار بين الجانبين، فضلا عن تواصل روسيا المكثف أخيرا مع الائتلاف الوطني المعارض، وكان آخرها استقبالها أحمد الجربا، رئيس الائتلاف السوري في موسكو، بل ولقاء وزير الخارجية الروسي لافروف، مع الرئيس السابق للائتلاف الوطني السوري المعارض، أحمد معاذ الخطيب، في قطر. وقد بدأ الحديث عن رؤية روسية يتم إعدادها، تتضمن الاتفاق علي تشكيل حكومة وحدة وطنية تقود البلاد خلال مرحلة انتقالية تعقبها انتخابات رئاسية، بما يعني أن الترتيبات القادمة قد يكون مقبولا فيها وجود بشار الأسد لفترة انتقالية دون استمراره فيما بعد، خاصة في ضوء ما أثير بشأن عقد لقاء أخيرا بين علي المملوك، رئيس الأمن السوري، والأمير محمد بن سلمان بواسطة روسية، عقب زيارة الأخير لموسكو، بما يمكن معه القول إن ثمة بداية حقيقية للتقارب في وجهات النظر السعودية الروسية بشأن الأزمة السورية، خاصة إذا نظرنا إلي أن الطرفين لديهما مصلحة مشتركة في تمكين الفصائل المعتدلة من وراثة النظام. فالرياض يمكنها أن تمارس نفوذها في أوساط المعارضة داخل “الائتلاف الوطني”، أو في صفوف الفصائل المقاتلة علي الأرض من “جيش حر” وخلافه، وروسيا يمكنها لعب الدور ذاته مع بعض أجنحة النظام العسكرية والسياسية التي لا يروق لها وضع كل الأوراق بيد إيران.
4- مواجهة التنظيمات الإرهابية التي تمثل تهديدا للبلدين، خاصة مع بروز تنظيم “داعش” الإرهابي، الذي يشكل خطرا أمنيا علي روسيا، حيث تذكر بعض التقارير أن نحو 2000 روسي يقاتلون مع “داعش” في سوريا والعراق، بل وتتحدث تقديرات أخري عن 5 آلاف روسي داعشي. ووصل الأمر إلي خطورته مع إصدار التنظيم مجلة باللغة الروسية حملت اسم “ايستوك”. وفي الوقت ذاته، يمثل التنظيم أيضا تهديدا مباشرا للأمن السعودي، سواء عبر تجنيد الشباب السعودي للانضمام إلي هذا التنظيم، وخطورة ذلك علي الداخل السعودي أو بعد عودة هؤلاء إلي السعودية، أو حتي من غير عودته عبر ارتكاب التنظيم لأعمال إرهابية في الأراضي السعودية بهدف تأجيج الصراعات الطائفية، كما حدث أخيرا من تفجيرات في المناطق الشرقية من المملكة، حيث تتركز الأقلية الشيعية. وقد تجلي تقارب الطرفين فيما يطرح من رؤي وسياسات لمواجهة هذه التنظيمات، حيث طرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين – خلال لقائه وزير الخارجية السوري وليد المعلم – مبادرة في 26 يونيو 2015 بتشكيل تحالف يضم كلا من السعودية، وتركيا، والأردن، وسوريا لمحاربة الإرهاب، وتحديدا تنظيم “داعش”. ويذكر أن هذه المبادرة كانت محل مباحثات خلال زيارة محمد بن سلمان لروسيا، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، بقوله “عندما التقينا مع وزير الدفاع السعودي، تحدثنا معه عن خطر الإرهاب في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا .. إن خطر تنظيم “داعش” الإرهابي يتوسع أكثر، وبات من الضروري أن تتوحد جهود دول المنطقة، وخصوصا المملكة العربية السعودية وتركيا، مع سوريا للوقوف في وجهه، وترك الخلافات جانبا، ولو إلي حين.
وفي ضوء هذا التحول، شهدت علاقاتهما تقاربا واسع المدي، خاصة في المجالات الاقتصادية، والتجارية، والاجتماعية، والعسكرية، حيث وقع البلدان خلال زيارة محمد بن سلمان ست اتفاقيات ومذكرات تعاون في المجالات الاقتصادية والعسكرية.
ثانيا- السعودية وروسيا .. قضايا عالقة ومعوقات قائمة:
رغم كل ما يثار بشأن التقارب الروسي – السعودي، خاصة بعد زيارة محمد بن سلمان، ولي ولي العهد، إلي موسكو، كما سبقت الاشارة، فإن ثمة قضايا شائكة في علاقات البلدين تعد بمنزلة معوقات مستمرة، تتمثل فيما يأتي:
1- استمرار الدعم الروسي للنظام السوري، رغم ما يثار حول إمكانية التغير في الموقف الروسي بشأن الأزمة السورية، وكذلك رغم ما أثير بشأن صفقة سعودية – روسية لحل تلك الأزمة كما أشارت إلي ذلك صحيفة نيويورك تايمز في تقرير جاء فيه أن “المسئولين السعوديين يعتقدون أن لديهم بعض النفوذ علي بوتين بسبب قدرتهم علي الحد من المعروض من النفط، وهو ما سيدفع الأسعار إلي الارتفاع”. إلا أن تصريحات المسئولين الروس نفت ذلك قطعا كما جاء علي لسان دميتري بيسكوف، السكرتير الصحفي للرئيس الروسي “أن هذا لا يعدو كونه مجرد افتراء واختلاق، وهو ما أكده أيضا رئيس لجنة العلاقات الدولية في مجلس الدوما، أليكسي بوشكوف، بقوله: “إن المعلومات حول تلك المفاوضات عارية من الصحة”. بل إن ما جاء علي لسان الرئيس بوتين نفسه، خلال زيارة محمد بن سلمان موسكو يؤكد استمرار الموقف الروسي في مساندته للنظام السوري، حيث أكد ذلك بقوله “نحن لا نريد أن يبلغ تطور الأوضاع في سوريا مثل هذا الحد، وذلك ما يفسر موقفنا من تأييد الرئيس الأسد وحكومته. ونحن نري ذلك موقفا صحيحا، ومن الصعب توقع غير ذلك منا”. وهو ما يوضح مدي الأهمية التي تمثلها الأزمة السورية في العلاقات الروسية السعودية، ولأنه إذا أرادت روسيا فتح صفحة جديدة مع الخليج، ولعب دور أكثر فعالية، فيجب أن تكون سوريا نقطة الانطلاق، والمحك الفعلي لاختبار مدي جدية الروس في توجهاتهم طبقا لتصورات قادة دول الخليج، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية التي تري أن حل الأزمة السورية يتمثل في إزاحة الأسد من الحكم.
وتمثل هذه القضية نقطة فاصلة في مسار علاقات البلدين. يدلل علي ذلك عدم نجاح الزيارة التي قام بها وزير الخارجية السعودي عادل الجبير إلي روسيا في أوائل أغسطس 2015 في تغيير موقف النظام الروسي من مساندته للرئيس السوري، حيث أصر كل طرف علي موقفه. ففي الوقت الذي أكد فيه الوزير السعودي أنه لا مكان للأسد في مستقبل سوريا، وأنه جزء من المشكلة، وليس جزءا من الحل، استمر الدعم العسكري الروسي للنظام السوري، حيث قامت روسيا – عقب الزيارة مباشرة – بتزويد الجيش السوري بالعديد من الصواريخ من طراز “كورنت 5” المتطورة، ومدفعية ميدان روسيا من عيار 130 ملم، إضافة إلي 6 طائرات من طراز ميج 31، وذلك ضمن خطة التسلح التي تم توقيعها بين البلدين منذ ثلاث سنوات.
– الموقف الروسي من الأزمة اليمينة: رغم أن روسيا تتبني موقفا رافضا للسياسة السعودية في معالجة الأزمة اليمنية، خاصة مع تشكيل التحالف العربي للتدخل في اليمن تحت عنوان “عاصفة الحزم”، فإنها حرصت في الوقت ذاته علي عدم تأثير هذا الموقف في علاقاتها مع المملكة العربية السعودية، وإنما اتخذت بعض الإجراءات الهادفة إلي الحفاظ علي مساحة من التوافق بين البلدين، منها:
– الامتناع عن التصويت علي قرار مجلس الأمن رقم (2216 الصادر في 14 أبريل 2015) بشأن اليمن، ويحظر توريد الأسلحة للحوثيين، ويدعم الرئيس اليمني عبد ربه هادي منصور، وجهود مجلس التعاون الخليجي.
– إلغاء وزارة الخارجية الروسية لقاء محددا سلفا مع وفد من السياسيين اليمنيين المؤيدين للحوثيين (ضم عارف الزوكا، الأمين العام للمؤتمر الشعبي العام للرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، واثنين من كبار المسئولين في الحزب)، حيث وصل الإشعار بتأجيل الزيارة قبل 48 ساعة من موعدها، وذلك نظرا لأنها كانت ستأتي بعد يوم واحد من زيارة ولي ولي العهد السعودي، وما ستتركه من ردود فعل سلبية علي علاقاتهما، علما بأنه قد تمت الزيارة فيما بعد دون الكشف عما جري خلالها.
– حرص المسئولين الروس علي استخدام خطاب يتقارب مع الموقف السعودي، كما جاء علي لسان أوليج أوزيروف، السفير الروسي لدي السعودية، من أن “المرجعية لحل الأزمة اليمنية معروفة، وأكدنا ذلك أكثر من مرة، وهي تعتمد علي قرار 2216 الصادر من مجلس الأمن .. مع الدفع بالمبادرة الخليجية وآلية تنفيذها”. ولكن هذا الكلام يحتاج إلي ترجمة علي أرض الواقع، لأن طهران وحليفها الحوثي يسعيان من وراء تشجيع الوجود الروسي إلي قيامه، ليس فقط بدور الوساطة، وإنما بدور مساند لهما في الأزمة، من خلال محاولتهما ربط المسار اليمني بالمسار السوري بهدف الحفاظ علي تحالف إيران مع موسكو التي لن تضحي بالأسد.
2- الدعم الروسي لإيران، يمثل الدعم الروسي لطهران مسألة حساسة ومركزية للمملكة العربية السعودية، ولعله إحدي أهم نقاط الاشتباك في علاقاتهما، حيث تعد روسيا الداعم الأول للسياسات الإيرانية في الشرق الأوسط، بالرغم من أضرار وانعكاسات تلك السياسة السلبية علي منطقة الخليج العربي، وفي القلب منها المملكة العربية السعودية، التي باتت في مواجهة ليس فقط مع أنصار إيران في العراق واليمن، وإنما مع إيران نفسها التي بدأت تدخل علي خط المواجهة المباشر. وفي الوقت ذاته، يمثل التقارب الروسي السعودي قضية حساسة لإيران، حيث تعارض الأخيرة أية تفاهمات روسية سعودية بشأن القضايا الاقليمية، كونها تمثل خصما من رصيد طهران الإقليمي، حيث يذكر أنه قبل لقاء بوتين مع محمد بن سلمان، انتقد دبلوماسي إيراني في موسكو ما سماه “اللعبة المزدوجة الروسية في سوريا”. وفي هذا الإطار، تواجه موسكو إشكالية رئيسية تتمثل في ضرورة صياغة نهج جديد يحقق التوازن في علاقاتها مع القطبين الإقليميين المتعارضين: السعودية وإيران، خاصة بعد إبرام الاتفاق النووي بين إيران والقوي الدولية (5+1)، وارتفاع مستوي الاستقطاب، وطبيعة المشاكل الإقليمية. ويصبح التساؤل المهم: كيف يمكن لموسكو أن تنجح في تحقيق هذا التوازن؟. هناك من يري أن الدور المنتظر لموسكو، لما بعد الاتفاق النووي، هو أن تلعب دور الوسيط بين الخليج وإيران، حتي لا تخسر مصالحها مع كل طرف. إلا أن هذا الطريق ليس سهلا، بل يواجه عقبات عدة، منها:
– مدي قبول الإيرانيين للمكانة الجديدة لعلاقاتهم مع روسيا، لأن طهران تفقد بذلك حليفا مهما ساندها ولا يزال في كثير من سياستها، وتحوله إلي وسيط يستوجب منه أن يتخلي عن انحيازاته تجاهها، فإلي أي مدي تقبل طهران ذلك؟.
– يتطلب نجاح دور الوسيط استعداد الطرفين (الخليج وإيران) للتوصل إلي تسوية، وتقديم كل منهما تنازلات وصولا إلي حلول وسط، وإن بدا حتي الآن أن الجانبين لم يتخذا قرارا استراتيجيا لتسوية خلافاتهما.
– مدي سماح الولايات المتحدة لموسكو باستعادة دورها في تفاعلات المنطقة، ولعب دور الوساطة بين الفاعلين الإقليميين، وتأثيرات ذلك في المصالح الأمريكية في المنطقة.
3- السياسة النفطية للبلدين: غني عن القول إن النفط مثل عامل توتر في العلاقة بين السعودية وروسيا، حيث تعد السعودية أكبر منتج داخل “أوبك”، وأكبر بلد مصدر للنفط في العالم، بينما روسيا، غير العضو في “أوبك”، هي ثاني أكبر مصدر للخام إلي الأسواق العالمية. وطبقا للبيانات الرسمية الصادرة عن منتدي الطاقة الدولي، صدرت السعودية في أبريل 2015 نحو 7.74 مليون برميل يوميا من النفط الخام، فيما تبلغ صادرات روسيا قرابة 5 ملايين برميل يوميا، وأن السعودية تجاوزت روسيا كأكبر بلد منتج للنفط الخام في العالم، خلال شهري مارس وأبريل من العام ذاته، حيث ظل إنتاج السعودية عند مستوي 10.3 مليون برميل يوميا، خلال تلك الفترة، فيما أنتجت روسيا 10.11 مليون برميل يوميا في مارس، و10.13 مليون برميل يوميا في أبريل. ولا شك في أن هذا الأمر جعل من روسيا دولة نفطية بامتياز. ومنذ سقوط الاتحاد السوفيتي، أبت روسيا الانضمام لمنظمة أوبك، نتيجة ما تراه اختلافا في التوجهات بينها وبين دول تلك المنظمة حيال السياسة النفطية. ووصل الأمر في بعض الأحيان إلي حالة من التنافس مع أوبك، حيث استفادت روسيا من سياسات الأوبك في خفض الإنتاج، من خلال جني الأرباح لأسعار براميل نفط مرتفعة، وإنتاج كبير. ويظهر الشد والجذب بين المملكة وروسيا بشكل واضح، عندما يتعلق الأمر بهذه المسألة تحديدا (أبرز مثال هو الضغط السعودي علي روسيا لتخفيض إنتاجها نهاية عام 2008 لمنع سقوط الأسعار، وهو الضغط الذي خضعت له موسكو في نهاية المطاف). إلا أنه مع التراجع الأخير لأسعار النفط، بدءا من نهاية العام المنصرم، ورغم اللقاءات والاجتماعات التي كانت تجمع روسيا مع أعضاء منظمة الأوبك بهدف البحث عن آلية تعاون مشترك لتخفيض الإنتاج، كان موقف السعودية ثابتا بأنها لن تخفض إنتاجها بمفردها لإعادة التوازن إلي سوق النفط، التي اختل فيها العرض، وزاد كثيرا علي الطلب، وهو ما يتطلب من موسكو كذلك أن تخفض حجم إنتاجها، رغم اعتماد اقتصادها بشكل شبه كلي علي عائداتها من النفط، وهو ما لم تستطع القيام به بما أثار أزمة في علاقات البلدين. ويزداد الأمر تصعيدا بين البلدين في مجال النفط إذا ما أخذنا في الحسبان أن السوق الرئيسي للنفط السعودي يقع في شرق آسيا (أكثر من 50 من إنتاج المملكة)، وهو سوق تأمل روسيا ليس فقط في دخوله، وإنما في احتكاره سياسيا، من خلال دورها في منظمة شنغهاي للتعاون، التي تأمل في أن تتحول لمنظمة شبيهة بالناتو لمنطقة وسط وشرق آسيا، وهو ما سيعني ضمنا تملك مفاتيح ذلك الجزء الواعد من العالم. ومما زاد الأمر تعقيدا أن روسيا نجحت بالفعل في أن تتقدم علي السعودية في صادراتها إلي السوق الصينية، حيث كشفت الإحصاءات عن الأشهر الخمسة الأولي من العام الحالي (2015) عن ارتفاع واردات الصين من النفط الروسي بنسبة 21 مقارنة بالعام الماضي (2014)، فيما لم تزد وارداتها من السعودية سوي بنحو 4، حيث سبق أن وقعت شركة روسنفت الروسية اتفاقيتي طويلتي الأمد في عام 2013 لتزويد الصين بالنفط، الأولي مع بتروتشاينا، ومدتها 25 عاما، والثانية مع ساينوبك، ومدتها 10 أعوام. وبموجب هذه الاتفاقيات، من الطبيعي أن تزداد كميات النفط الروسي إلي الصين في السنوات القادمة، وهو ما يشكل مناطق تقاطع بين سياسات المملكة وروسيا، تتجاوز مجرد مسألة الاستقرار الإقليمي، أو فلسفة التدخل الدولي في سوريا، وإن كان من المنتظر أن يفسح الاتفاق النفطي الأخير، الموقع خلال زيارة الأمير محمد بن سلمان، لتغير كبير في معادلة سوق النفط في العالم بشكل جذري، حيث يجعلهما أصحاب القرار في رسم أسعار النفط في العالم، بما ينقذ الاقتصاد الروسي من ضغوط العقوبات الأوروبية والأمريكية، وإن كان الأمر يتوقف علي الوزن النسبي لدول الخليج وروسيا كمنتجين للنفط بالنسبة للولايات المتحدة، في ظل التطورات المستحدثة في مجالات إنتاج ما يسمي بالنفط الصخري، وامتلاك الولايات المتحدة تكنولوجيا فريدة لإنتاج كميات وفيرة منه تجعلها دولة مصدرة له، وليست مستوردة.
4- طبيعة العلاقات السعودية – الأمريكية وتوجهاتها: صحيح أن علاقاتهما شهدت فتورا في المرحلة الأخيرة، إلا أنه من الصحيح أيضا أن هذا الفتور هو وضع مؤقت من المنتظر أن يتغير، وذلك لأمرين:
– الأول: إن تباعد السعودية عن الولايات المتحدة علي حساب التقارب مع روسيا أمر لن يستقيم في ظل وضع روسيا الراهن في الاستراتيجية العالمية بحكم أوضاعها الاقتصادية، ومستوي تقدمها العلمي والتكنولوجي، فضلا عن صعوبة تحول منظومة التسلح السعودية من الاعتماد علي السلاح الأمريكي خلال المدي المنظور، وهو ما قد يمثل عائقا أمام المزيد من التقارب السعودي – الروسي، خاصة أن روسيا تسعي، من خلال تعظيم علاقتها مع المملكة، إلي الاستحواذ علي حصة معتبرة من واردات المملكة من السلاح لتعويض الخسائر التي مني بها الاقتصاد الروسي، جراء تراجع أسعار النفط.
– الثاني: إن علاقات الرياض وواشنطن أكثر أهمية وعمقا من الناحية الاستراتيجية بالنسبة للجانبين. يدلل علي ذلك أن السعودية وبقية دول الخليج لم تتردد لحظة في التجاوب مع أول إشارة أمريكية للتباحث والتفاوض، حينما وجهت الإدارة الأمريكية دعوة لقادة دول الخليج لعقد مباحثات كامب ديفيد (13 و14 مايو 2015)، فكانت هناك استجابة سريعة بهدف خوض الصراع ضد طهران حتي بعد اتضاح ملامح الاتفاق النووي- اعتمادا علي الولايات المتحدة، من خلال دعمها للقدرات العسكرية الخليجية، عبر توقيع معاهدة مشتركة أو مذكرة تفاهم تلتزم بمقتضاها واشنطن باحتواء طهران، وبيع دول الخليج أسلحة عسكرية نوعية، بما يضمن تفوقا خليجيا في القوة علي طهران، وهو ما لم تتبنه واشنطن بصورة كاملة، كما جاء علي لسان الرئيس الأمريكي في لقائه مع الصحفي توماس فريدمان (نيويورك تايمز، 4 أبريل 2015) من أن “التهديدات الكبري التي تواجه هذه الدول لن تأتي من الغزو الإيراني، ولكنها ستنبع من حالة عدم الرضا داخل تلك الدول نفسها. وهذا نقاش حاد أمامنا، ولكنه نقاش ينبغي تناوله”، وإنما حاولت واشنطن طمأنتها عبر بعض الإجراءات، منها:
زيارة وزير الدفاع الأمريكي، آشتون كارتر، السعودية، ضمن جولته في المنطقة في أواخر يوليو 2015، أي عقب أسبوع من توقيع الاتفاق. وقد أكد خلالها جدية واشنطن في إقامة منظومة الدرع الصاروخية المشتركة لحماية الخليج، وتقديم ضمانات أمنية واسعة النطاق، وتكثيف المناورات العسكرية المشتركة، وبحث التعاون في مجالات الأمن الإلكتروني والبحري.
زيارة وزير الخارجية الأمريكي إلي المنطقة في أوائل أغسطس 2015، وعقد لقاء مع وزراء دول مجلس التعاون الخليجي في العاصمة القطرية الدوحة ، وكرر ما سبق أن أشار إليه وزير الدفاع، حيث أكد أنه تم التوصل إلي اتفاق لتسريع بيع الأسلحة الضرورية، والبدء بعمليات تدريب محددة جدا، تهدف إلي تبادل وتقاسم المعلومات الاستخباراتية، واستمرار المشاورات حول كيفية دمج أنظمة الصواريخ الباليستية الدفاعية لدول المنطقة مع زيادة عدد التدريبات العسكرية المشتركة.
وفي هذا السياق، يمكن القول إن التقارب الروسي – السعودي سيظل محكوما بأمرين، الأول: تطورات العلاقات الإيرانية الأمريكية، في ضوء مدي التزام طهران بتنفيذ بنود الاتفاق النووي، وهو ما صرح به وزير الخارجية الأمريكي في 19 يوليو 2015، حيث قال إن “الاتفاق مع إيران مبني علي الحذر والمراقبة، وليس علي الثقة .. وإن طهران كانت عدوا للولايات المتحدة في الماضي.. ومازلنا أعداء ولسنا حلفاء أو أصدقاء .. نحن ما زلنا خصمين، وهناك الكثير من القضايا العالقة”. الثاني: طبيعة الإدارة الأمريكية القادمة، بعد الانتهاء من الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في يناير 2017، ونوعية مشروعها الشرق الأوسطي، وما إذا كانت ستأخذ المخاوف الخليجية وتهديداتها في الحسبان، أم لا، وهو ما يفرض علي موسكو أن تسعي إلي ترسيخ شراكتها مع الرياض علي قواعد ثابتة لا تتأثر بمجريات وتطورات العلاقات الأمريكية السعودية، وذلك عبر جديتها والتزامها بتعهداتها التي تم التوافق عليها.
صفوة القول: إنه رغم وجود بعض العقبات والعراقيل التي قد تعيق التقارب السعودي – الروسي، فإن ثمة فرصا مواتية لآفاق هذه العلاقات في ضوء ما يجمع البلدين من مصالح وأهداف مشتركة، بما يعني أن التباين والاختلاف بينهما بشأن بعض الملفات والقضايا لن يؤثرا في تقاربهما، إذا نجحا في تعظيم مساحة الاتفاق، وإدارة مجالات الاختلاف، بما يزيل حالة الجمود التي خيمت علي علاقاتهما علي مدي السنوات الماضية، ويعزز تفاهمهما المشترك في التعامل مع التحديات التي يواجهها كل طرف، سواء في إطار تفاعلاته الدولية، أو اهتماماته الإقليمية.
احمد طاهر
مجلة السياسة الدولية