في سياق الحرب الدائرة منذ عقود بين الدولة التركية وحزب العمال الكوردستاني، قطعت تركيا والعراق خطوة طال انتظارها من جانب أنقرة بشأن الاعتراف بـ«حزب العمال الكردستاني» بوصفه تنظيماً إرهابياً، والتعاون في وقف أنشطته في شمال العراق. فقد رحبت الخارجية التركية بقرار مجلس الأمن الوطني العراقي اعتبار الحزب -الذي تصنفه تركيا إرهابيا- تنظيما محظورا في العراق. حيث أثمر الضغط التركي الشديد على العراق وموجة الزيارات غير المسبوقة في كثافتها وتواترها من قبل المسؤولين الأتراك إلى العراق واستقبال المسؤولين العراقيين في أنقرة، عن نتائج إيجابية لتركيا تخدم هدفها الأول المتمثّل في سعيها لحسم الحرب الطويلة ضدّ حزب العمّال الكردستاني، بالإضافة إلى ضمان موطئ قدم اقتصادي واستثماري في العراق.
ونظرت أنقرة بأهمية شديدة لهذا القرا كونه يفتح الباب لانخراط فعلي من قبل العراق في حرب تركيا ضد الحزب داخل الأراضي العراقية، وذلك بعد أن فشلت جهود عسكرية تركية متواصلة منذ نحو أربعة عقود في اجتثاث مقاتليه من مناطق شمال العراق التي شكّلت بتضاريسها الوعرة معاقل حصينة لهم.
وقد اعتبرت المشاورات الكثيفة التي أجراها كبار المسؤولين العسكريين والأمنيين الأتراك مع نظرائهم العراقيين على مدار الأشهر الماضية، بالإضافة إلى التهديدات الكثيرة التي أطلقها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لحزب العمال وإشاراته لقرب حسم المعركة ضدّه، علامة على قرب شنّ القوات التركية لحملة عسكرية هي الأوسع نطاقا على معاقل حزب العمال الكردستاني داخل العراق. ولم تخالف قيادات الحزب من جهتها هذا التوقّع حيث نظرت إلى ما تمخّضت عنه زيارة المسؤولين الأتراك الأخيرة وكانت برئاسة وزير الخارجية هاكان فیدان، برفقة وزير الدفاع الوطني يشار غولر، ورئيس جهاز الاستخبارات الوطنية إبراهيم كالين، ونائب وزير الداخلية منير كارال أوغلو إلى بغداد باعتباره إيذانا بقرب شنّ الحملة المذكورة.
مع ذلك، هناك تعقيدان رئيسان يواجهان مساعي تركيا والعراق إلى بناء شراكة استراتيجية لن تكون أقلّ تأثيراً من الحوافز التي تدفعهما إلى ذلك. أولاً، من غير الواضح كيف سيتعامل البلدان مع مستقبل الوجود العسكري التركي في شمالي العراق، لكن أنقرة لن تتخلى عن هذا الوجود في المستقبل المنظور، وقبل إزالة تهديد حزب العمّال نهائياً. كما أن حقيقة أن قوات البيشمركة وحرس الحدود العراقي لن يكون بمقدورهما ملء أي فراغ ينجم عن انسحاب تركي من هناك، تلعب دوراً أساسياً في تشكيل الاستراتيجية التركية في شمالي العراق. وهنا تبرُز إشكالية الطبيعة المعقّدة التي تحكم العلاقة بين الحكومة الاتحادية في بغداد وإقليم كردستان العراق، عامل تعقيد آخر بهذا الخصوص. والافتراض السائد أن إبرام اتفاقية أمنية بين تركيا والعراق سيعالج على مراحل ملفّ الوجود العسكري التركي، كما سيضع إطاراً قانونياً يُنظّم التدخل العسكري التركي على المدى البعيد.
وتمثل التعقيد الثاني في التوجّس الإيراني من التقارب التركي العراقي. مطلع العام الجاري، أجرى الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي زيارة إلى أنقرة وأبلغه نظيره التركي أردوغان بأن أنقرة تتطلع إلى تعاون مع طهران ضد حزب العمّال الكردستاني. ولا تزال مُتشكّكة باستعداد طهران بالعمل معها لتقويض نشاط الحزب، كما أن لهذه الشكوك ما يُبررها. علاوة على التأثير الذي مارسته إيران في السابق على بغداد لتبنّي موقف متشدّد من العمليات العسكرية التركية، فإن بعض الفصائل العراقية تُقيم منذ سنوات تحالفاً مع حزب العمّال الكردستاني في سنجار. كما أن طهران تعدّ داعماً رئيسياً لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يوفّر ملاذاً لمقاتلي الحزب في مناطق سيطرته. في السنوات السابقة، كان النفوذ القوي الذي مارسته طهران على الحكومات العراقية لتبنّي موقف متشدّد إزاء العمليات العسكرية التركية عائقاً أساسياً أمام بغداد للتعاون مع أنقرة. لكن حكومة رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني تسعى إلى تبنّي نهج يقوم على تحقيق مصالح العراق بالدرجة الأولى.
إن القرار يعتبر خطوة باتجاه نجاح أنقرة في إقناع كل من بغداد وأربيل بالانخراط المباشر في الحرب التركية ضد الحزب، وهو أمر في حال حدوثه سيكون ثمرة لاستخدام الحكومة التركية لملفي المياه والتعاون الاقتصادي كورقتي ضغط على حكومتي العراق وإقليم كردستان.
وهذا القرار قد يمهد التقارب بين تركيا والعراق ودخولهما في علاقات سياسية واقتصادية استراتيجية، لن يغير المعادلة في الشرق الأوسط، فحسب، بل في البيئة الإقليمية أيضاً. فليس من قبيل المصادفة أن تكثفت الاتصالات التركية العراقية مؤخراً في المجال الأمني، فمن وجهة نظر تركيا، فإن ظهور حزب العمال الكردستاني في الأراضي العراقية، ومن وجهة نظر العراق، فإن ظهور تركيا في الأراضي العراقية بسبب (حزب العمال الكردستاني)، كانا أهم القضايا قبل التوصل إلى اتفاق أكثر شمولاً، وأصعب قضية هي الأمن والثقة المتبادلة، وعندما تتأسس هذه العلاقة فمن الممكن أن يتحول التقارب التركي العراقي إلى اتفاق خلال الزيارة المرتقبة للرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى العراق.
فالحرب ضد الإرهاب ليست الجانب الوحيد في العلاقات التركية العراقية التي تصل إلى بعد استراتيجي، فإعادة فتح خطيْ أنابيب النفط اللذين ينقلان نفط الموصل وكركوك، واللذين لم يتمكنا من العمل بسبب الهجمات، إلى محطة جيهان – يومورتاليك في أضنة جنوب تركيا، ومشروع طريق التنمية، الذي سيربط الخليج العربي بتركيا بالطرق السريعة وخطوط القطارات، ضمن الأجندة، ولكن لتحقيق ذلك يعد ضمان الأمن شرطاً أساسياً، كما أن الاتفاق الشامل يمكن أن يفتح الباب أمام نظام مائي جديد بين تركيا والعراق.
خلاصة القول أن زيارة الرئيس أردوغان إلى العراق ستكون تتويجاً للوضع الجديد في العلاقات، مع الأخذ بالاعتبار التأثيرات السلبية للعمليات العسكرية التركية في شمال العراق على العلاقات الثنائية، فإن أنقرة وبغداد بدأتا تُدركان على نحو متزايد الحاجة إلى التعاون في مكافحة الإرهاب كبوابة لإيجاد وضع جديد شامل في العلاقات. وعلى الرغم من أن المساهمة العراقية المحتملة في العملية التركية المرتقبة لن تتجاوز حدود التنسيق الاستخباراتي، إلّا أن أهميتها في أنها ستُضفي مشروعية عراقية على التحرّك التركي. وحتى لو نجحت العملية في إخراج مسلحي حزب العمّال الكردستاني من منطقة على طول الشريط الحدودي بعمق 30 إلى 40 كيلومتراً، فإن من غير المتصوّر أن تؤدّي إلى القضاء الكامل على وجود الحزب في المنطقة. في ضوء ذلك، أهمية الاتفاقية الأمنية المحتملة بين تركيا والعراق أنها ستُتيح للدولتين التعاون في المستقبل لضمان منع الجزب من الانتشار مُجدداً في المناطق الحدودية مع تركيا.
وحدة الدراسات التركية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية