مثل مفاجأة الحرب، جاءت مفاجأة الدولتين. كلّ العالم يريد وقف النار، والمساعدات، والعمل على قيام الدولة الفلسطينية. وحتى إيران انضمّت أخيراً إلى وقف النار خوفاً من تورّط الحزب. وللدولة خصمان: إسرائيل لأنّها تريد كلّ شيء، وحماس لأنّها قاتلت فلا يجوز أن يأخذ المسالمون أو المستسلمون الغنيمة. ماذا يحصل بعد وقف النار؟ وهل الدولة إنقاذٌ أو خديعة؟
عندما كانت الآمال عظيمةً بنجاح أوسلو، ما كان ضدّها حافظ الأسد، وبقايا اليساريين وكلّ الإسلاميين العرب وحسب. بل كان ضدّها أيضاً بعض اليهود المتطرّفين، والصهاينة اليساريين. اليهود المتطرّفون. الذين قتل أحدهم إسحاق رابين عام 1995. كانوا ضدّ الدولة الفلسطينية لأنّ الأرض والسلطة كلّهما لليهود بمقتضى العهد والوصيّة أو بمقتضى الأمر الواقع. أمّا يساريّو الصهاينة (وقلّة من زملائهم العرب) فقد ظلّوا من أنصار الدولة الواحدة لليهود والعرب، الدولة الديمقراطية. بينما قال آخرون: هذا معناه الحرب الأهليّة الدائمة واستحالة التحوّل إلى يهوديّة الدولة التي من أجلها جاء المهاجرون إلى فلسطين.
بين مقتل إسحاق رابين عام 1995 والانتفاضة الثانية والمفاوضات الأخيرة عام 2000 تكأْكأَ حلُّ الدولتين. وازدادت آمال اليمين الإسرائيلي بإنهاء القضية الفلسطينية (بعد حدث عام 2001) بحجّة الإرهاب الفلسطيني والعربي… والإسلامي. لكنّ إصرار الأميركيين والأوروبيين على أوسلو أبقى السلطة الفلسطينية بقيادة أبي مازن لا حيّة ولا ميّتة. وكانت المرحلة التالية رهاناً على الانقسام الفلسطيني من جانب إسرائيل ومن جانب إيران وتنظيماتها. العرب، باستثناء سورية، كانوا يحاولون الإصلاح بين حماس (بعد الاستيلاء على غزة) وفتح. أمّا الإسرائيليون، وقد أزعجتهم شرعية أبي مازن وإن تكن ضعيفة، فقد كانوا يبتزّون أبا مازن بمنع فلوس الضرائب عنه والتنسيق الأمنيّ (السيّئ السمعة) وضغوط الاستيطان. وعلى الرغم من العداء الظاهر لحماس والحروب المتوالية، فقد توالت الهُدَن معها، وتسليمها الأموال التي يرسلها القطريون. وكان هناك حديث متكرّر عن إمكانية الوصول إلى هدنة طويلة الأمد بينهما.
مثل مفاجأة الحرب، جاءت مفاجأة الدولتين. كلّ العالم يريد وقف النار، والمساعدات، والعمل على قيام الدولة الفلسطينية
بالنسبة لإسرائيل اليمينية وغير اليمينية كان الأبرز إخماد مطلب الدولتين، وهو شعار أبي مازن. ولذلك استمرار الانقسام الفلسطيني يعني عدم التفكير في الدولة. والاستمرار بالمزايدة بين حماس وفتح.
صعود شعبية حماس بسبب الإسلاموية، وبسبب النضال الذي تركته فتح منذ عام 1993. لقد نمت مصلحة مشتركة بين إسرائيل وحماس في الحملة على أبي مازن على الرغم من اختلاف الأهداف والنتائج. وصار الكلام عن انعدام الشريك في السلام بضاعة مُزْجاة.
فشل الشراكة المشبوهة
لماذا فشلت الشراكة المشبوهة ضدّ أوسلو والسلطة؟ ولماذا هجمت حماس على إسرائيل؟ ولماذا ظهر حلُّ الدولتين كنتيجة مفاجئة للحرب الشعواء؟
في مسألة الهجوم لا بدّ من التخمين. فقد كانت حماس في أفضل حالاتها، وقد انصرفت إسرائيل بانقساماتها الداخلية عن الاهتمام بها. لكنّ تنظيم الجهاد الإسلامي الأشدّ ولاءً لإيران، بدأ ينفّذ عمليّاتٍ في الضفة وليس في غزة قبل عامٍ ونصف. وما أزعجت تلك العمليات إسرائيل كثيراً، وصارت تغير على مدينة جنين ومخيّمها كلّ أسبوع. الإزعاج الأشدّ كان من حصّة أبي مازن الذي أُحرج إحراجاً شديداً وكثرت عليه المطالبات بوقف التنسيق الأمنيّ، ووقف الملاحقات لناشطي حركة الجهاد. وما كانت حماس تقوم بشيء، لا في الضفة ولا في غزة. وكثر الكلام عليها وعلى استمتاعها بالهدنة السرّية مع إسرائيل (!).
الدولة الفلسطينية
كان النشاط الآخر يجري في ضاحية نصر الله والجنوب اللبناني. شكت القوات الدولية مراراً، وازدادت حركات “الأهالي” (!) ضدّها. وفي الضاحية وجوارها كثر مجيء الإيرانيين من ذوي الرتب العالية مثل وزير الخارجية وقائد الحرس الثوري وقائد فيلق القدس. وتوالى ظهور إسماعيل هنية في بيروت ومعه آخرون من قيادة حماس والجهاد وحتى الجبهة الشعبية. وترافق ذلك كلّه مع خطابات نصر الله عن وحدة الساحات. لقد كان واضحاً أنّ هناك ضغوطاً على حماس من جانب إيران للاشتباك مع إسرائيل. وقد اشتدّت الضغوط في ربيع وصيف عام 2023. ومن أجل إقناع حماس قيل لها: إذا شننتم الحرب فسيقاتل معكم الحزب والميليشيات العراقية والحوثيون، وهذه هي وحدة الساحات.
بين مقتل إسحاق رابين عام 1995 والانتفاضة الثانية والمفاوضات الأخيرة عام 2000 تكأْكأَ حلُّ الدولتين
الطريف أنّ كثرة الزيارات لنصر الله ما أثارت اهتمام الإسرائيليين، بل الأميركيين. لكنّهم فسّروا الأمر غلطاً بأنّ المراد إثارة حرب بين إسرائيل والحزب بسبب الفوضى في إسرائيل. فعادوا للتفكير في هوكستين ونجاحاته في الحدود البحرية، فلماذا لا ينجح في الحدود البرّية؟ لكن ظلَّ هناك من يرى أنّ الإيرانيين لا يهتمّون بتحرير الأرض اللبنانية، وإنّما هناك أسباب أخرى مثل ارتفاع الضجّة بشأن النووي. وبخاصّةٍ بعد النجاح في تبادل الأسرى وتحرير بعض الأموال الإيرانية. وإذا كان الإيرانيون لا تهمّهم الحدود، وعلاقاتهم تتحسّن في بعض الملفّات مع الولايات المتحدة: فلماذا يجمعون المسلّحين ويتحدّثون عن وحدة الساحات في المعركة المقبلة؟ وعلى أيّ حال فقد تحدّث الأميركيون إلى القطريين وإلى المصريين، وتبرّع الفرنسيون بالحديث مع الإيرانيين. وما بدا الحماسيون متحمّسين للحرب، لكن شاع أنّ هناك انقساماً بين العسكريين والسياسيين. السياسيون لا يريدون الحرب، وأمّا محمد الضيف ويحيى السنوار وهما الألصق بالإيرانيين فيريدانها أو يفكّران فيها بجدّية.
لكن لماذا يريد الإيرانيون الحرب بهذا الإلحاح؟ قيل لمنع زيادة التطبيع بين العرب وإسرائيل، وقيل لوقف ارتفاع الصوت تجاه النووي. ثمّ كيف يعطي الحزب المواثيق بشأن وحدة الساحات الآن، وإيران تدّخره لليوم الموعود عندما تتعرّض إيران ذاتها للخطر؟! ولا ينبغي أن نصدّق ما يقوله الإسرائيليون حول رسائل تركها السنوار بشأن إخلاف الحزب للعهد وعدم المشاركة. لكن لنلاحظ ما يحصل الآن حيث يحرص الإيرانيون على إبلاغ الحزب أنّهم لا يريدون التصعيد، فيجيبهم نصر الله أنّه مستعدٌّ للقتال وحده إذا لزم الأمر. فهو لا يستطيع تخفيف الوتيرة، وفي الوقت نفسه يحرص على عدم التصعيد على الرغم من القسوة الإسرائيلية.
في مسألة الهجوم لا بدّ من التخمين. فقد كانت حماس في أفضل حالاتها، وقد انصرفت إسرائيل بانقساماتها الداخلية عن الاهتمام بها
إيران اتخذت قرار الحرب
فلنعد إلى ما بدأنا به. حماس لا تستطيع وحدها شنَّ الحرب. ولا بدّ لها من دعمٍ إيراني من خلال الحزب. فإيران هي التي اتّخذت القرار. ونصر الله هو الذي أقنع الحماسيّين. أمّا لماذا حصل ذلك فيظلّ فيه مجال واسع للتخمين. وقد هجمت الميليشيات مثل الحزب من العراق وسورية.. واليمن. ثمّ عندما ردّت أميركا توقّف العراقيون وإيرانيّو سورية، وتحوّل الحوثيون بالإقدار الإيراني إلى الحرب البحرية. وقد أساءت إيران التقدير بشأن الهجمات التي تضرّر أصحابها وما أثّرت في الحرب، ولجهة الحوثيين الذين كان لهم أصدقاء عديدون فما بقي لهم صديق.
إذا كان سبب الإقدام على الحرب “حزّورة”، فالحزّورة الأخرى: حلُّ الدولتين أي الدولة الفلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، الذي اقتنع به الأميركيون والأوروبيون منذ الأسبوعين الأوّلين للحرب. المؤكّد أنّ حماساً لم تنتظر حرباً بهذه الوحشية، على الرغم من هجومها غير العاديّ، وبالبرّ وليس بالصواريخ والمدفعية. وما دام الأمر طلاقاً باتّاً مع حماس وليس من جانب الإسرائيليين فقط، بل ومن جانب كلّ الغربيين، فماذا يحصل لغزّة بعد حماس، وكيف يمكن تهدئة الضفة الغربية؟ بسرعة رأى الغربيون الحلَّ في إحياء أبي مازن، وتجديد إدارته، وإعانته في استعادة غزّة والشغل على حلّ الدولتين من أجل ستّة ملايين فلسطيني وأكثر.
بعد أكثر من عشرين سنة من الإهمال والتغافل والاستكانة لإسرائيل يريد الغربيون الآن وقف النار وإعادة الإعمار، وإطلاق مفاوضات حول الدولة الجديدة. ومعظم الإسرائيليين وليس نتنياهو واليمين فقط، ما عادوا (وما كانوا!) من أنصار الدولة الفلسطينية. فهل تقام الدولة غصباً عن إسرائيل والجيش الإسرائيلي في كلّ مكان؟ ثمّ من ينفق على الدولة الجديدة ويُقْدِرُها على التصرّف؟ العرب بالطبع. فهل يقبل فلسطينيّو حماس وغيرهم هذه الطريقة في إقامة الوطن القومي وقد كانت ظروف أوسلو أفضل بمئة مرّة؟!
بعد أكثر من عشرين سنة من الإهمال والتغافل والاستكانة لإسرائيل يريد الغربيون الآن وقف النار وإعادة الإعمار
عليك أوّلاً أن توقف النار، وأن ترغم الإسرائيليين على الانسحاب، ومن أين تأتي قوات حفظ الأمن التي تحلّ محلّهم؟ وكيف تنظّم المساعدات بدلاً من تهريج الجوّ والبحر؟ ومتى وكيف يبدأ الإعمار؟ وكيف يعاد ربط غزة بالضفة وسيطرة حماس كانت أقوى من سيطرة إسرائيل؟ ثمّ كيف يجتمع الفلسطينيون والإسرائيليون لبدء التفاوض أو متابعته؟ وأوّلاً وآخِراً لهذا الوضع كلّه عدوَّان كانا مستفيدين من الوضع السابق: إسرائيل وحماس، فكيف يمكن الخروج من إعاقاتهما والأيدي مغمّسةٌ بالدم. و{من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل الناس جميعاً}.
هل الدولة الفلسطينية إنقاذٌ أم خديعة؟ لا هذا ولا ذاك. بل هي أمرٌ آخر غير معروف الملامح بعد، فيا للعرب!