لم تعدم أنقرة أيّ وسيلة من أجل اجتثاث خطر حزب العمال الكردستاني على حدودها الجنوبية، لا سيما في شمال سوريا وكردستان العراق. فمنذ شهور يكثّف المسؤولون الأتراك رحلاتهم إلى بغداد وإربيل سعياً وراء إقناع العراقيين بالمشاركة في الحرب التركية ضدّ الثوّار الأكراد وضمان موطىء قدم اقتصادي واستثماري في العراق.
أحدث الزيارات لبغداد هي تلك التي قام بها نهاية الأسبوع الفائت وزير الخارجية هاكان فيدان ووزير الدفاع يشار غولر ورئيس الاستخبارات إبراهيم كالن الذين التقوا نظراءهم العراقيين، إضافة إلى رئيس الحشد الشعبي فالح الفياض. ومهّدت الطريق لزيارة مرتقبة للرئيس رجب طيب إردوغان لبغداد بعد شهر رمضان، ولاتفاق واسع يمزج بين الملفّ الأمنيّ والملفّ الاقتصادي وملفّ المياه.
كانت بغداد خطت خطوة نوعية في اتّجاه تطوير التعاون والتنسيق الأمنيّ مع تركيا في شأن ملفّ العمّال الكردستاني. وذلك عندما صنّف مجلسُ الأمن القومي العراقي الحزبَ الكردي تنظيماً محظوراً في العراق. ووجدت أنقرة في هذا الموقف فرصة لا تفوّت لانخراط عراقيّ فعليّ في حربها ضدّ الحزب داخل الأراضي العراقية. وذلك بعدما فشلت الجهود العسكرية التركية المتواصلة منذ نحو أربعة عقود في اجتثاث مقاتليه من مناطق شمال العراق التي شكّلت بتضاريسها الوعرة معاقل حصينة لهم.
إغراء تركيّ لبغداد
لإغراء بغداد في دخول المعركة، لجأت أنقرة إلى ربط ملفّات عدّة بعضها مع بعض. فاستثمرت أوّلاً أزمة المياه المستفحلة في العراق جرّاء حجز تركيا لكمّيات متزايدة في مياه نهرَي دجلة والفرات في السدود الضخمة التي أقامتها عليهما. كما عملت على الاستثمار في الطموحات التنموية العراقية، وجعلت من إنهاء وجود الثوّار الأكراد في المناطق العراقية شرطاً ضرورياً لإنجاز مشروع طريق التنمية. الذي يربط برّاً بين ميناء الفاو العراقي في البصرة وبين الموانىء التركية على البحر المتوسّط. لا سيما أنّ بعض أجزاء الطريق تمرّ بمناطق يتمركز فيها المتمرّدون الأكراد. ولإعادة تشغيل خطّ النفط المتوقّف من العراق عبر ميناء جيحان التركي.
كانت بغداد خطت خطوة نوعية في اتّجاه تطوير التعاون والتنسيق الأمنيّ مع تركيا في شأن ملفّ العمّال الكردستاني
يهدف مشروع التنمية المعروف أيضاً باسم “طريق الحرير العراقي”، إلى تسهيل الأنشطة التجارية بشكل أسرع وأكثر كفاية، بين جنوب شرق آسيا وأوروبا من خلال إنشاء طريق بديل لقناة السويس المصرية. ومن شأن نجاحه أن يجعل الفاو أكبر ميناء في الشرق الأوسط.
تدرك أنقرة أنّ جهودها لإضعاف حزب العمال الكردستاني في العراق ستذهب سدى، إن لم تحظَ بمشاركة عراقية فعليّة وحاسمة. وهذا يتطلّب أوّلاً تجاوز خلافات كبيرة بين الطرفين أوّلها ملفّ المياه الشائك. وثانيها إقناع الأطراف العراقية الفاعلة وصاحبة النفوذ بالمشاركة في مواجهة مباشرة مع حزب العمال.
صحيح أنّ بعض قادة الحزب الديمقراطي الكردستاني في إربيل هم الأكثر امتعاضاً من وجود عناصر حزب العمّال في مناطق الإقليم الكردي. وقد صرّح رئيسه مسعود البارزاني إنّ “حزب العمال الكردستاني أصبح يشكّل صداعاً للعراق وإقليم كردستان”.
حزب العمال الكردستاني
وقد تكون قوات “بيشمركة روج”. وهم من أبناء شمال شرق سوريا الفارّين من الحرب، الذين تدرّبوا في إربيل وشاركوا في عمليات ضدّ تنظيم “داعش”. أحد التشكيلات العسكرية التي يمكن أن تشارك في العملية العسكرية التركية. لكنّ الأمر لا ينطبق بالضرورة على منافسه حزب الاتحاد الوطني الكردستاني النافذ في محافظة السليمانية. حيث الوجود الأكبر لمقاتلي الـ”بي كي كي” بعدما طردهم حزب البارزاني بدعم تركي من مناطق سيطرته في محافظتَي إربيل والدهوك. وعليه لن يزيد التعاون المحتمل بين أنقرة وبغداد وإربيل من قدرة تركيا على تقويض نشاط حزب العمّال الكردستاني فحسب، بل يضغط أيضاً على “الاتحاد الوطني للانفكاك عن الـ”بي كي كي” وإلّا فسيواجه خطر العزلة”.
يهدف مشروع التنمية المعروف أيضاً باسم “طريق الحرير العراقي”، إلى تسهيل الأنشطة التجارية بشكل أسرع وأكثر كفاية
العراق والتنسيق الاستخباريّ
قد يبدي الائتلاف الحاكم في بغداد. الذي يستشعر بخطر حزب العمال الكردستاني على الاستقرار في البلاد. استعداداً لتقديم الدعم السياسي للعملية مقابل صفقات أكبر بملفّات مشتركة أخرى مثل المياه والطاقة. ويرجّح البعض أن يشارك “الحشد الشعبي”. الذي كان حاضراً في الاجتماعات المشتركة بشخص رئيسه. في العملية من خلال بعض فصائله بديلاً عن الجيش العراقي النظامي تخفيفاً للإحراج السياسي. لكنّ الأمر لا ينطبق على فصائل أخرى وأساسية في الحشد ترتبط بعلاقات تحالف مع الحزب. لا سيما في سنجار وجبال شمال البلاد. وقد لا تتجاوز المساهمة العراقية المحتملة في العملية التركية المرتقبة حدود التنسيق الاستخباري، إلّا أنّ أهميّتها، إن حصلت، أنّها ستُضفي مشروعية عراقية على التحرّك التركي.
ترجّح وسائل الإعلام التركية أن تبدأ العملية العسكرية الواسعة في نهاية نيسان. وذلك بعد انتهاء زيارة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لبغداد التي ستعيد تنظيم العلاقات التركية العراقية على نطاق أوسع وتمهّد لإبرام اتفاقية أمنيّة بين البلدين. على غرار تلك التي أبرمتها بغداد مع طهران سابقاً. كما أنّ البُعد الاقتصادي المُتمثّل بمشروع طريق التنمية وملفّي الطاقة والمياه من شأنه أن يُعطي التقارب التركي العراقي أبعاداً استراتيجية تتجاوز ملفّ الإرهاب.
يبدو أنّ الجانب التركي قد حصل على موافقة ضمنيّة من الولايات المتحدة، خلال وجود وزير الخارجية ورئيس الاستخبارات التركيَّين في واشنطن مطلع الشهر الجاري.
قد يبدي الائتلاف الحاكم في بغداد. الذي يستشعر بخطر حزب العمال الكردستاني على الاستقرار في البلاد
لكن يبقى السؤال عن حقيقة الموقف الإيراني الذي لا يحبّذ كثيراً التقارب التركي العراقي. كما أنّ طهران مارست ضغوطاً على الحكومات العراقية لتبنّي موقف متشدّد إزاء العمليات العسكرية التركية داخل العراق. كما تعتبر حاضناً لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يحتضن قواعد الـ”بي كي كي” في مناطق نفوذه. إلى ذلك تواجه العمليّة صعوباتٍ ميدانية. ذلك أنّ مقاتلي الحزب يتمركزون في مناطق يصعب الوصول إليها وتقع ضمن المثلّث العراقي الإيراني التركي الواقع تحت إدارة إقليم كردستان. إلى جانب الدعم الذي يتلقّاه مسلّحو الحزب من فصائل مسلّحة. وسيطرح معارضو الحكومة سؤالاً كبيراً عن خرق السيادة الوطنية عندما ستقصف قوات أجنبية وتتوغّل عسكرياً داخل أراض عراقية!
في أيّ حال، وتبعاً للحالة الطائفية المستعصية في العراق، سترحّب مكوّنات مثل السُّنّة وأكراد إربيل والتركمان وقوى سياسية تمثّلها بعقد اتفاقات جدّية مع تركيا من منطلقات مذهبية بحتة، بينما ستعمل مكوّنات أخرى، ولا سيما الشيعة وقوى سياسية تمثّلها، على شيطنتها عملاً بقواعد الانقسام على الطريقة اللبنانية، وتالياً دقّ إسفين خلاف جديد بين العراقيين.