في بدايات الغزو الأميركي لبلاد الرافدين برزت تحذيرات من”لبننة” العراق، وفي سنوات الوصاية السورية على بلاد الأرز ترددت تخوفات من”عرقنة” لبنان وسط السعي إلى “السورنة”.
واليوم يعاني لبنان والعراق، من بين أمور عدة، أزمتين بنيويتين هما وجهان لعملة واحدة، ثقل النفوذ الإيراني وسط انحسار الدور الأميركي وتباطؤ الدور العربي، وجشع التغول الداخلي إلى المال والسلطة بحماية السلاح الذي تقدمه طهران، والنتيجة المباشرة هي اتساع خلل كبير في التوازن السياسي بين الطوائف والتيارات.
ففي لبنان ترتفع أصوات عدة بالشكوى من تهميش المسيحيين وكسر إرادتهم، كما من تهميش الدور السنّي والدور الدرزي، ومن تجاهل الأصوات العابرة للطوائف الداعية إلى دولة مدنية، دولة المواطنة، وفي العراق تتزايد المساعي العملية إلى إضعاف الدور السنّي وتضييق المساحة الفيدرالية التي يمتع بها الكرد في إقليم كردستان، والطاغي في البلدين هو قادة الميليشيات المسلحة والأحزاب المذهبية الشيعية المرتبطة بفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني.
الصورة في العراق، كما رآها متخصص العلوم السياسية في جامعة بغداد ياسين البكري، هي”خلل التوازن الفعلي للقوى السياسية الذي سببه عدم تطبيق الفيدرالية إلا في كردستان، وعدم التوازن جعل الطرف الأقوى سلطوياً ومالياً وفي التسلح يذهب في اتجاه إفراغ فكرة التوافق والفيدرالية من محتواها، والاتجاه نحو مركزة السلطة وخطاب الغالبية”.
وبحسب إحسان الشمري رئيس مركز التفكير السياسي فإن “وصفة بول بريمر أسهمت في إنشاء قوى سياسية داخل العراق تعتمد على علاقاتها وانتماءاتها من خارج البلاد، على أسس مذهبية أو عرقية أو غيرها، والوصفة كونت ديمقراطية زعماء كتل سياسية لا ديمقراطية حقيقية”.
هذا هو نفسه ما يضرب لبنان إلى جانب تنويعات في ممارسة الخلل، وإذا جرى استخدام القضاء لتجريد رئيس المجلس النيابي في العراق، وهو ممثل السنّة، من الرئاسة والعضوية، ثم حالت المماطلة دون انتخاب رئيس بديل، فإن التغييب في لبنان شمل رأس الدولة، رئيس الجمهورية الماروني، والمسألة ليست مجرد إبقاء مراكز مخصصة للمسيحيين والسنّة والدروز فارغة، بل هي فوق ذلك إفراغ المشاركة الوطنية من جوهرها.
وهكذا أصبح الإنقسام الوطني والسياسي عميقاً وحاداً ومخيفاً، فالخلافات تبدأ من رؤية الأخطار وتشخيص أسبابها، ولا تنتهي بالتعامل مع الفرص المفتوحة لتفادي الأخطار والتوجه نحو تسوية الأزمات، وليس أمراً يمكن أن يحدث في أي بلد سوى البلدان الواقعة تحت ثقل النفوذ الإيراني مثل العراق وسوريا واليمن، وهو أن ينفرد “حزب الله” بفتح جبهة حرب مع إسرائيل لمساندة “حماس” في حرب غزة، ويفرض على بقايا السلطة تغطية حربه، وعلى أكثرية اللبنانيين معاناة القصف والدمار والتهجير.
ولا جدوى حتى من الحراك السياسي ما دام الدستور معلقاً في الواقع بقوة السلاح واحتكارية “الثنائي الشيعي” أي “حركة أمل” و”حزب الله” التمثيل الشيعي وإسكات أي صوت داخل الطائفة يشكل خطراً على أحادية القرار.
والمهمة المستحيلة التي يفترض أن تكون ممكنة وضرورية بالبداهة هي مطالبة المعارضين في معظم الطوائف والقيادات والمراجع بتطبيق الدستور، لكن المأزق هو أن تطبيق “اتفاق الطائف” صعب وتعديله أصعب، والخروج منه بالغ الخطورة.
وليس تجنيد لبنان ليكون رأس الحربة في “محور المقاومة” بقيادة إيران سوى بطاقة دعوة إلى خطرين فوق كل الأخطار الحالية، خطر الدمار الشامل في حرب مفتوحة مع إسرائيل، وخطر “الدمار الجيوسياسي” لتحويل لبنان إلى بلد آخر لا علاقة له بهويته وتاريخه وشخصيته الوطنية.
ولا قادة طائفة يريدون أن يتعلموا دروس قادة طوائف أخرى حاولوا السيطرة على البقية، وخسروا كل شيء في النهاية، ولا حاجة إلى تجارب جديدة لندرك أن الخلل في التوازن السياسي يؤدي إلى انعدام الوزن الوطني.