هجرة العقول العربية.. من المسؤول؟

هجرة العقول العربية.. من المسؤول؟

580

يتناول الأكاديميون في عدد من المساقات التي تدرس في الجامعات مسألة هجرة العقول العربية والتي نسميها “استنزاف العقول”، وكذلك يفعل إعلاميون في وسائل إعلامهم، ويؤكدون على العوامل الطاردة وتلك الجاذبة التي تؤثر كثيرا على التنمية العربية بكافة مجالاتها.

وغالبا يركز الأكاديميون على العوامل السياسية كأهم عامل طارد للعقول، ويقولون إن قمع الأنظمة السياسية الحاكمة وكراهيتها لأصحاب العلم والمعرفة يدفعها لاتخاذ إجراءات قمعية ضد المثقفين والعلماء والمفكرين والأكاديميين، من أجل طردهم تحت مظلة الهجرة الطوعية.

من المهم بالنسبة لهذه الأنظمة ألا يشعر أصحاب العقول بالأمان والاطمئنان لكي يقرروا الخروج من البلاد راحلين إلى البلدان الغربية التي تحتضنهم وترعاهم وتيسر لهم سبل الحياة الهادئة والآمنة.

طبعا هناك الكثير من العوامل التي تدفع العقول العربية إلى الخارج، ومنها الضغط الاجتماعي المصاحب للتركيبة الاجتماعية العربية، ومنها أيضا ضغط بعض العوامل الدينية وضغط الأحوال الاقتصادية الصعبة، وهناك أيضا عوامل جاذبة على رأسها البحبوحة المالية النسبية التي يتمتع بها الكثير من أهل الغرب، والتحررية التي تميز التركيبة الاجتماعية الغربية.

لكن يبرز عامل مهم يكاد يغفل عنه الأكاديميون، وهو قمع المثقفين للمثقفين. الأكاديميون والمثقفون الذين يتحدثون بمقت عن ظاهرة استنزاف العقول يساهمون في كثير من الأحيان بصورة مباشرة في رفع حدة الاستنزاف ودفع العديد من الكفاءات خارج البلاد.

البيئة الاجتماعية
البيئة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تفرض نفسها، وهي التي تؤسس لثقافة الشخص وطرق تصرفه وأساليب تناوله للمشاكل والهموم.. إلخ. كل فلاسفة الأرض ومفكريها عبر التاريخ -مثل أفلاطون وأرسطو وهوبز ولوك وروسو والفارابي وابن سينا- تأثروا ببيئاتهم وثقافة شعوبهم وتركيباتها الاجتماعية، وعكسوا في أغلب الأحيان ما تعلموه في صغرهم في كتاباتهم وآرائهم ونظرياتهم.

وليس من السهل على أي شخص أن يقول إنه تحرر من جذوره التربوية ولم يعد لها وقع في مختلف نشاطاته الحياتية. المعنى أن العربي لا يختلف عن نظرائه من مفكري العالم ومثقفيه وأكاديمييه، وهو يتأثر بمحيطه وبيئته، والطبع في كثير من الأحيان يغلب التطبع.

نشأ العربي في محيط سياسي واجتماعي قمعي واستبدادي، ولا مفر أمامه إلا التأثر بما تعلمه في الصغر. التركيبة الاجتماعية العربية ما زالت قبلية حتى الآن، وهي تركيبة تعصبية متحوصلة وإقصائية، وتفضل مصلحة القبيلة أو الحزب على المصلحة العامة، كما أن التركيبة السياسية قمعية واستبدادية ولديها الاستعداد دائما للتضحية بالمصلحة العامة والاحتماء بالأقارب والأصدقاء دون الشعوب.

العديد من المثقفين العرب أصبحوا يسيطرون على منظمات غير حكومية في دولهم، لأن الممولين -الذين هم من أهل الغرب غالبا- وضعوا أموالا تحت تصرفهم مقابل إدارة هذه المنظمات بالطريقة التي تتوافق مع سياسات الممولين. وقد قبل العديد من المثقفين القيام بهذه المهمة لأسباب متعددة منها الإغراءات المالية. وهناك عدد من المثقفين أصبحوا يديرون مواقع إلكترونية ويتحكمون بما يصلح للنشر وما لا يصلح وفق تقييمهم هم. مثقفون يقومون على إدارة مواقع تابعة لحكومات أو لأحزاب لقاء بعض المال، وهم يقومون بانتقاء المواضيع التي تظهر على الموقع وذلك وفق معايير معدة مسبقا.

وفي العادة، يفهم المثقف سياسة الممول سواء كان أجنبيا أو عربيا، ويعمل وفق وجهة نظر معينة وكأنها هي الحقيقة المطلقة التي يجب أن يلتزم بها كل من يحاول أن يعتلي منبر الموقع أو المنظمة غير الحكومية.

إقصاء مثقفين
من خلال البحث في المنظمات غير الحكومية أو في المواقع الإلكترونية، نلاحظ أن هناك مثقفين ومفكرين عربا لا يظهرون عليها أو في نشاطاتها. هذه مواقع ومنظمات لها أعوانها وكتابها، وهي تبقى حكرا عليهم. أما المواقع التي يظهر عليها هؤلاء الذين لا حظ لهم مع بعض المواقع والمنظمات، فتحرم الطرف الآخر من الظهور. أي أن منع ظهور بعض الآراء ليس حكرا على جهة دون أخرى.

الجميع يقوم بنفس الأعمال ولذات الأسباب، والهدف هو تغليب رأي على آخر لأسباب خاصة لا تهم الأمة ولا تساعد في تقدمها.

من المهم بالتأكيد أن يروج صاحب الرأي لرأيه، لكن من المشين أن يمنع الرأي الآخر من الظهور. وهذا نراه كثيرا على شاشات التلفاز العربية التي تأتي بأشخاص دون آخرين، وتتبنى رأي حكومة دون أخرى. وإن استضافت الشاشة شخصا ليس من ذات الرأي أو التوجه، فإن المذيع أو المذيعة تقاطعه مرارا حتى لا يتمكن من قول رأيه بوضوح للناس.

إنها سياسة قمع الآراء وإخفاء وجهات النظر الأخرى، وهذه سياسة قبيحة ومخزية أثرت سلبا على الأجواء العربية، وفتحت أبواب الكراهية والبغضاء وأدت في النهاية إلى صراعات داخلية عربية دموية.

المؤسف أن مثقفين هم أدوات هذه السياسة القمعية الإقصائية، وهم الذين يمارسون هذا القمع ضد زملائهم دون أن يبخلوا في الحديث عن الديمقراطية والتعددية. هم يؤيدون موقفا معينا من الناحية النظرية، ويمارسون عكسه على أرض الواقع.

وربما يعود هذا في الغالب إلى التربية الانتهازية التي لا تتمسك بمبدأ، وهي دائما لديها الاستعداد للتنازل عن المبدأ لحساب المصالح الخاصة. هذه التربية تؤثر في المثقف الذي لديه الاستعداد أن يبيع نفسه للأنظمة العربية والقوى الأجنبية حتى لو أدى ذلك إلى هلاك العرب. مثل هذا المثقف لديه الاستعداد أن يخون أمته مقابل فتات من المال.

وإذا نظرنا الآن إلى نشاطات العديد من المنظمات غير الحكومية لوجدنا أن أغلب سياساتها وأبحاثها العلمية موجهة نحو أهل الغرب الذين يستفيدون من هذه الأعمال في التخطيط السياسي والممارسات السياسية التي من شأنها إحكام السيطرة على الإرادة السياسية للعرب.

سماسرة معرفة
للأسف، طوّع مثقفون وبحاثة وعلماء عرب أنفسهم للدول الغربية التي تملك المال وتهتم بدراسة المجتمع العربي والثقافة العربية من أجل تطوير قدراتها التخطيطية والتطبيقية. دول أوروبية وأميركية عدة وجدت أن الاستعمار التربوي أكثر فعالية من الاستعمار الاقتصادي أو الاستعمار التقليدي، لأن في ذلك ما يجعل الشخص المستهدف غربيا بالتربية، وأن يهجر وطنه وشعبه بسبب إعجابه بحضارة غيره.

استعملت هذه الدول الاستعمار الفكري والتربوي من أجل تحويل الناس عن ثقافاتهم، وتحولهم عن الانتماء لأوطانهم وشعوبهم لصالح الدول الغربية التي تؤكد دائما على مصالحها. مثقفون وكتاب وأكاديميون عرب كانوا الوسيلة أو المطية التي يتم استخدامها من أجل تحقيق هذا الهدف. الناس يتوجسون من البحاثة الغربيين والأكاديميين ولا يتعاونون معهم بالشكل المطلوب للدراسات العلمية، فكان البحث عن سماسرة معرفة عرب أجدى من صرف الأموال على غربيين لا يستطيعون استجماع الحقائق عن المجتمع العربي.

الباحث العربي هو ابن المجتمع ويتمتع بدرجة من الثقة، وبإمكانه أن يتغلغل بسهولة في صفوف مواطنيه أو أن يثير الشبهة، وهو بذلك متفوق على نظيره الغربي. لقد وجدت الدول الغربية مثقفين وأكاديميين كثرا يمكن أن يتعاونوا معها كسماسرة معرفة. الدول الغربية تقدم المال، والعربي يقدم المعلومات، وبهذا يكون العربي مصدر معلومات ثمينة يمكن أن تدر أرباحا على السيد أكبر بكثير من الأموال التي ينفقها على المنظمات غير الحكومية.

ووفق معرفتي، هناك إسلاميون ينتمون لفئات إسلامية لم يبخلوا بأنفسهم للقيام بأبحاث علمية عن الحركات الإسلامية، وبالتأكيد ساعدت أبحاثهم السياسيين الغربيين على اتباع سياسات أكثر وضوحا ومستندة إلى معارف من مصدرها الأصلي.

منظمات العمل الديمقراطي
أقيمت على الساحة العربية جمعيات أو منظمات غير حكومية للترويج للديمقراطية، وهناك أعداد غفيرة من المثقفين الذين يرون في الديمقراطية مخرجا من المآزق السياسية التي يعيشها العرب، وهم لم يجدوا غضاضة في العمل للترويج للديمقراطية، علما بأنهم من أقل الناس ديمقراطية في الواقع العملي وفي عملية التوظيف.

هؤلاء المثقفون يمارسون المحسوبيات والوساطات في توظيف العاملين معهم، ولا يتوانون عن قمع العاملين الذين يمكن أن يحتجوا على نوعية التدريس الذي يقدم لجمهور الناس. وهم أيضا انتقائيون في الأبحاث التي يطلبونها، ولن تجد أحدا منهم يستقبل بحثا يتناول أوجه تقصير النظام الديمقراطي. الأبحاث المقبولة هي تلك التي تستنتج في النهاية أن النظام الديمقراطي هو أفضل الأنظمة السياسية ويجب احتضانه.

ومن تجربتي، يمكن أن يكتب أكاديمي بحثا أو مقالا في غاية الدقة والمنطقية والعلمية، لكن لا يحظى بحثه بالنشر بسبب سطر واحد لا يتناسب مع رؤية صاحب الموقع أو المنظمة. لقد رفضت جمعية بحثية نشر كتاب لي عن الشيخ عز الدين القسام بسبب جملة واحدة تقول إن الحاج أمين الحسيني لم يتعاون مع الشيخ القسام في إشعال ثورة فلسطينية عام 1935. وموقع آخر رفض نشر مقال بسبب العنوان وقبل أن يقرأ المقال، علما بأن العنوان قد يكون تهكميا أحيانا. وموقع آخر رفض مقالا لأنه قال إن أغلب الإرهابيين المسلمين ليسوا من أهل الشيعة. وعلى ذلك قس.

في المحصلة نقول إن المثقفين غير الملتزمين بمبدأ ويتهالكون على تحصيل المال لديهم الاستعداد لقهر مثقفين آخرين والضغط عليهم، مما يشكل سببا قويا لطرد العقول العربية. هناك مشكلة كبيرة في الإعلاميين الذين يطوعون أنفسهم فقط لخدمة صاحب وسيلة الإعلام، وفي المثقفين الذين يعملون مع أجهزة المخابرات العربية.الأنظمة العربية ليست وحدها المجرمة الطاردة للعقول، بل هناك أصحاب عقول يعملون دائما على اضطهاد عقول عربية وطردها. وهذه مسألة تحتاج إلى علاج ومواجهة.

عبد الستار قاسم

نقلا عن الجزيرة نت