الصراع في لبنان وعليه ليس لبنانياً فقط، والقوى الخارجية التي تلعب فيه لا تتحرك في خطين متوازيين لا يلتقيان، إذ هي تدير اللعبة بمزيج من التنافس والتعاون والتفاهم والصفقات والصدام أحياناً، لكن الفارق كبير بين حزب أيديولوجي مسلح متماسك مرتبط بقوة إقليمية لديها مشروع في لبنان والمنطقة تعمل له بالدهاء وكل أنواع القوة على مدى 24 ساعة في اليوم، وبين أحزاب مختلفة ليس لمعظمها مشروع سوى الدور في السلطة والذين يدعمونها ليسوا في موقع واحد ولا موقف واحد، ويعملون في بلدان كثيرة ويتركون للبنان قليلاً من الوقت في اليوم وأحياناً في الأسبوع، فضلاً عن الضيق بخلافات أصدقائهم اللبنانيين والملل من المبادرات من دون نتيجة.
فلا خصوم المشروع الإيراني الإقليمي الذي صار لبنان رأس الحربة في العمل له عبر “حزب الله” يشكلون جبهة وطنية عريضة لتحقيق المشروع المعاكس، وهو بناء الدولة الوطنية، ولا “الخماسية” الأميركية-الفرنسية- السعودية-المصرية-القطرية تمكنت حتى اليوم من دفع الكتل النيابية إلى التفاهم على مرشح لرئاسة الجمهورية، أو دفع رئيس المجلس النيابي شريك “حزب الله” في “الثنائي الشيعي” إلى فتح باب المجلس لجلسة بدورات متعددة يتنافس فيها مرشحون وتستمر عملية الانتخاب حتى فوز أحدهم، كما هو التطبيق العملي للدستور.
ومن الصعب اتهام إدارة الرئيس جو بايدن بالبساطة وتسطيح الرؤية، لكنها تمارس أحياناً سياسات شديدة البساطة والبعد من الواقع، فالمسؤولة عن الشرق الأوسط في الخارجية الأميركية باربرا ليف تقول من جهة إن “حزب الله يقود لبنان إلى وضع خطر”، وتتطلع من جهة أخرى إلى أن تحتكر الدولة اللبنانية السلاح ويكون “حزب الله” “حزباً سياسياً”، وهي تعرف أكثر من سواها أن السلاح هو الثابت في مسار “حزب الله” لأن دوره اللبناني والإقليمي يحتاج إلى السلاح.
ولا قوة في لبنان قادرة على إيجاد حل للسلاح غير الشرعي وكل الحوارات التي دارت فشلت في تحقيق اتفاق على استراتيجية دفاعية وإعادة قرار الحرب والسلم إلى الدولة عبر مجلس الوزراء ومجلس الدفاع الأعلى والمجلس النيابي، ومنذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 و”حزب الله” مستمر في فتح جبهة الجنوب لإسناد حركة “حماس” من دون أن يرد على أكثرية اللبنانيين الرافضين لدمار البلد من أجل غزة.
في الدستور نص واضح ودقيق يقول “لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”، لكن السلاح يفرض على الأكثرية العجز عن التأثير في سلطة خارج الشرعية تناقض ميثاق العيش المشترك الذي هو جوهر “لبنان-الرسالة”. فالبلد الذي هو أرض حرية محكوم بما سماها محمد أركون “السياجات الدوغمائية”، وهو ليس مجرد جغرافيا جميلة ومناخ طيب بل قبل ذلك روح وحرية وإبداع، بصرف النظر عن السياسات البلدية وتفاهة الجشع للمال والسلطة.
والصراع الدائر في جوهره هو على روح لبنان وهويته ودوره، فهو من الشرق وفيه، لا من الغرب وفيه، وإن كان يأخذ “النافع منه” كما جاء في البيان الوزاري لحكومة الاستقلال الأولى برئاسة رياض الصلح الذي كرس الميثاق الوطني.
وليس أمراً قليل الدلالات أن ينتهي انتصار “14 آذار (مارس)” بإخراج القوات السورية من لبنان عام 2005 بهزيمة سياسية على مدى 19 عاماً، إذ تفرقت الأحزاب التي أسهمت في الانتصار إلى جانب الدعم الأميركي والفرنسي والقرار الدولي 1559. فماذا يمكن أن يعطي اللبنانيون للأحزاب أكثر من مليون متظاهر في ساحة الحرية؟ وكيف يمكن أن ينجح الأصدقاء الدوليون والأشقاء العرب في مساعدتنا إذا لم نساعد نحن أنفسنا؟
بين الأسئلة المطروحة للنقاش في لبنان واحد خلاصته، إلى أي حد يستطيع “حزب الله” تغيير المجتمع اللبناني، وإن نجح في تغيير المجتمع في معظم المكون الشيعي واستيراد التقاليد والعادات الإيرانية، كما في فرض الهيمنة على السياسة الرسمية؟، وكثيرون يميلون، وسط تعقيدات التحليل والقراءة، إلى رأي بسيط هو أن نهج الحياة في لبنان يهزم أو يكيف أي مشروع أيديولوجي راديكالي، كما تمكن في الماضي من تكييف السلوك الراديكالي للتيارات القومية والأممية، لكن اللعب أكثر تعقيداً في منطقة أريد لها الضياع على الطريق إلى المستقبل.